ثباتي من الله الذي يعينني

ثباتي من الله الذي يعينني

قصص اهتداء من سلسلة: «أبناء الشرق يلتقون بالمسيح»

ميرزا إبراهيم وميرزا نصر الله وخديجة نصّار


Bibliography

ثباتي من الله الذي يعينني. ميرزا إبراهيم وميرزا نصر الله وخديجة نصّار . الطبعة الأولى . 1993. English title: My Steadfastness Comes from God who Helps Me. German title: Meine Standhaftigkeit kommt von Gott, der mir hilft.

مقدمة

هذه قصة مؤثرة لاستشهاد مسلم اهتدى إلى الإيمان بالمسيح كما يعلنه الإنجيل المقدس، باعتبار أنه الفادي المخلّص الذي بذل نفسه عن البشر الخطاة، مصلوباً، فقدّم نفسه كفارة وفدية عنهم.

وإذ نضيف هذه السيرة إلى ما سبق أن نشرناه من اختبارات المهتدين إلى المسيح، من مختلف البلاد الإسلامية، نتساءل: متى ترسخ قواعد حرية الرأي في الأقطار الإسلامية؟ ولماذا يلجأ الناس باسم الدين إلى سفك الدماء، ليعززوا مكانة دينهم؟ فلو كان هذا الدين من عند الله ما احتاج أتباعه أن يسندوه بالقتل ومصادرة حرية الآخر.

وكثيراً ما جاء السؤال: «لماذا يصعب ربح المسلمين للمسيح، ولماذا نرى الكنيسة ضعيفة في معظم البلاد الإسلامية؟» وللإجابة على ذلك نقول إن الإسلام هو الديانة الوحيدة التي جاءت بعد المسيح، والتي تعترف أن المسيحية كانت ديانة عظيمة في وقتها، ويدَّعي أنه صار الدين الحقيقي الوحيد للعالم. ويعتقد المسلمون أن الله واحد، لكنهم يرفضون أن يدعوه «الآب». ويعتقدون أنه أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم قدموا للبشر شرائع إلهية وأرشدوه إلى الطريق السوي، وأعظمهم نوح، وإبرهيم، وموسى، والمسيح ومحمد. ويعتقدون أن الله أنزل كتباً لبعض الأنبياء، مثل توراة موسى، وزبور داود، وإنجيل المسيح، لكنهم يعتبرون أن هذه الكتب لم تعُدْ ضرورية بعد أن أعطى الله إعلانه الكامل لمحمد. ويعترف القرآن بولادة المسيح من مريم العذراء، لكنه ينكر بنوَّته الإلهية. ويشير إلى معجزات المسيح في الشفاء. ويعترف المسلمون عامة أن المسيح وُهب قوة من الله لإقامة الموتى. لكن القرآن ينكر موت المسيح على الصليب، ويزعم أن واحداً من أعداء المسيح أو من أصحابه تغيّر بقوة الله إلى شكل المسيح فـ «شُبِّه لهم» وصُلب خطأ عوضاً عنه. ويقول إن المسيح رُفع حياً إلى السماء حيث هو اليوم. ومن الزعم المسلَّم به عند المسلمين أن المسيح في الإنجيل تنبأ عن مجيء محمد، وأمر أتباعه أن يقبلوه عندما يأتي. ولكن حيث أنه لا توجد إشارة إلى محمد في الكتب المقدسة المسيحية، لذلك يتهم المسلمون المسيحيين بجريمة تحريف كتبهم المقدسة، لأن النبوّات عن مجيء محمد قد حُذفت، وأُضيفت عبارات عن المسيح كابن الله، وعن صلبه وقيامته من الأموات.

وأغلبية المسلمين في بلاد مثل إيران، وإن كانوا يعترفون بالمسيح كنبي صالح وعظيم جداً، إلا أنهم يقولون إن محمداً هو خاتمة الأنبياء وأعظم المرسلين قد أخذ مكانه. ويقولون لا نريد «أن نرجع إلى الوراء» ونصبح أتباع المسيح، بل على عكس ذلك يجب على أتباع المسيح أن يطيعوا أمر سيدهم و «يتقدموا إلى الأمام» ويقبلوا محمداً والقرآن.

والإسلام ليس ديناً فقط بل هو أسلوب حياة، فيه تتوحد كل العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. بل حتى عندما يقتنع مسلم أن المسيح هو المخلص الوحيد يصعب عليه أن يعترف بإيمانه علناً ويقطع علاقته بمجتمعه السابق.

وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو مستحيلة في اهتداء المسلمين، يوجد مئات كثيرون من أعضاء الكنائس المسيحية في إيران ممن كانوا في الأصل مسلمين، أو هم أبناء مسلمين اهتدوا إلى المسيح بنعمة الله وقدرته، وبعضهم يخدمون الكنائس بأمانة كرعاة ومبشرين، وأسقف الكنيسة الأنجليكانية يحتفظ باسمه المسلم للدلالة على أنه من الممكن في إيران أن يعترف المسلم علناً بإيمانه بالمسيح وأن يخدمه بجرأة وشجاعة. لكن الحرية التي ينعمون بها اليوم، شأنها شأن الحرية الدينية في أية بلاد أخرى، لم تأتِ عفواً بدون شجاعة وآلام. فقد استخدم الله شهادة الأوفياء أمثال ميرزا إبراهيم، وميرزا نصر الله، وخديجة نصّار، مع سائر العوامل الأخرى ليأتي بكثيرين من المسلمين إلى حظيرة المسيح، الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخطاة.

وهذا ما نرجوه للقارئ الكريم.

الناشرون

شهيد تبريز

قال المسيح لمن يريدون أن يصيروا تلاميذ له: «إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (متى 16: 24).

و «حمل صليب» في البلاد الإسلامية ليس كلاماً مجازياً. ولا يعلم سوى الله عدد المهتدين الى المسيح منذ ظهور الإسلام، ممن أحبوا المسيح أكثر من حياتهم، فانضمّوا إلى «جيش الشهداء النبلاء». وكان ميرزا إبراهيم (الذي نروي سيرته هنا) أحد هؤلاء الشهداء الأبرار، فقد عاش أميناً للمسيح في إيران إلى الموت، ومات شهيداً في تبريز في 14 مايو (أيار) سنة 1893 وهو يعترف جهاراً بالمسيح.

كان يسكن في مدينة «خوي» في شمال غرب إيران (بقرب حدود تركيا وروسيا) عدد من الأرمن الإنجيليين. وفي سنة 1888 بدأ مسلمٌ يدعى إبراهيم يحضر اجتماعات هؤلاء المسيحيين، ويسمع التعاليم المسيحية. وإذ صار يفهم المسيحية النقية بشكل أكمل كما وجدها في تلك الغرفة الصغيرة التي كان يُعقد فيها الاجتماع، اقتنع بالحق وطلب أن يعتمد كمسيحي. وقد تساءل المسيحيون عن بواعثه وأجّلوا قبوله فترة من الوقت، لكن هذا لم يثن عزمه. وقد هزأت به زوجته وسخر منه أصدقاؤه، لكنه صمد. وبعد سنة قضاها تحت الامتحان قُبل علناً واعتمد باسم المسيح. وقد شهد معموديته مسيحيون وغير مسيحيين وتعجَّبوا من اعترافه بإيمانه الجديد بشجاعة. وكان بين الحاضرين مسلم يُعتبر شبه مؤمن أو نصف مؤمن، تقدم إلى إبراهيم بعد ممارسة فريضة المعمودية ومدَّ إليه يمينه مهنئاً وقال: «كم كنت أودّ لو عندي شجاعة مثلك لأعترف بإيماني علناً بالمسيح».

وقد امتُحن إيمان إبرهيم في الحال، فقد أخذ المسلمون المتعصبون زوجته وأولاده وما يملك من ثروة قليلة. ومع أنه كان مريضاً وضعيفاً اضطر للهروب، فذهب إلى المسيحيين في يروميا حيث وجد الأمان، وفاز بثقة الجميع لبساطة إيمانه وثباته. وقد عمل أولاً مدرّساً في مدرسة صغيرة يعلّم اللغة التركية وينسخ الكتب. ثم بعد نحو سنة أو سنتين أُرسل (بناءً على طلبه) إلى بعض القرى المجاورة ليحمل إليها الإنجيل مقابل أربعة دولارات في الشهر.

وكانت نتيجة جرأته ونشاطه وتصريحه بأن طريق الحياة إنما يقوم في المسيح لا سواه، ثار عليه غضب أعدائه، ولكن غضبهم لم يُثنهِ بل زاد جرأته وشجاعته. وقد أدّى هذا إلى نتيجة واحدة محتمة هي وقوعه تحت طائلة الشريعة المدنية التي تسيطر عليها السلطات الإسلامية، فقُبض عليه ودُفع للمثول أمام الوالي المختص بالإشراف على المسيحيين الأشوريين في يروميا. ولما مثل أمام الوالي والقضاة للمحاكمة يحيط به جمهور من رجال الدين الهائجين والمسلمين الساخطين سأله الوالي: «لماذا تعلّم التعاليم المسيحية وأنت مسلم؟». فأخرج ميرزا إبراهيم الإنجيل من جيبه وأجاب على السؤال بسؤال: «أليس الإنجيل كتاباً مقدساً مُنزلاً؟». أجاب الوالي: «نعم». فقال إبراهيم: «ألست إذاً على صواب وأنا أقرأ الإنجيل وأعلّمه؟». فسأله الوالي: «لكن ماذا تقول عن محمد؟» فأجاب: «هذا سؤال عليكم أنتم أن تجيبوا عليه. أما أنا فإني أؤمن بالمسيح وكلمته. هو مخلّصي». عند ذلك صدر الأمر بضربه، فألقوا به على الأرض ورفسوه بالأقدام بشكل مرعب، وركله الوالي نفسه بقدميه. وطلب بعض الحاضرين سفك دمه، ونُقل من المحكمة الصغرى إلى حاكم المدينة، حيث شهد أمام عدد كبير من الأعيان والوجهاء عن إيمانه بالمسيح مخلّصه الوحيد. ووقف عدد من الموظفين المسلمين الأثرياء وأعلنوا استعدادهم للتبرع له بمبلغ كبير من المال لإغرائه على إعادة ولائه للإسلام. لكنه احتمل سوء معاملتهم بصبر جميل وهم يكيلون له شراً بعد شر، وأثبت لهم أن الباعث وراء إيمانه لم يكن المال. وقال بعضهم إنه مجنون، ولكن عدداً ليس بقليل من رجال الجيش الذين كانوا أكثر تسامحاً مع المسيحية نتيجة صِلاتهم بالطبقة الفضلى من الأشوريين المسيحيين اقتنعوا بأن ميرزا إبراهيم مخْلِص أمينٌ في إيمانه بالمسيح، وقد أثَّرت فيهم كثيراً شجاعته النادرة.

ومع ذلك فقد أُلقي في السجن ورُبطت رقبته بسلسلة، ووُضعت رجلاه في المقطرة وبقي هناك ثلاثة أسابيع. وفي تلك المدينة الهائجة أحاط جمهور كبير من الرعاع بالسجن طالبين إعدامه. وكان التعذيب كما كان الموت يواجهه، لكنه في كل هذا العذاب كان وجهه يلمع كملاك كما كان وجه استفانوس أول شهيد مسيحي. أخيراً صرّح لهم قائلاً: «يمكنكم أن تطلقوا عليَّ النيران من فوهة مدفع، ولكن لا يمكنكم أن تنزعوا مني الخلاص الذي منحه لي المسيح».

ونتيجة للهياج المنتشر في المجتمع، ورغبةً من السلطات في تجنُّب نهاية عنيفة للقضية تقرر إرسال ميرزا إبراهيم إلى تبريز للمثول أمام محكمة الإقليم العليا. وذهب لتوديعه يوم ترحيله إلى تبريز أخٌ مسيحي أشوري اسمه أشالوم كان على صلة وثيقة به في كرازته بالمسيح في القرى الإسلامية. ووجده يربط ملابسه في منديل ويتهيأ للرحيل، وسمعه يقول للمسجونين: «لقد أظهرتُ لكم المسيح المخلّص الوحيد، وعرفتُم الحق الكافي لخلاص نفوسكم إذا أنتم فقط قبلتموه» فوقف المسجونون جميعاً والسلاسل الثقيلة في أيديهم وأرجلهم وحول رقابهم، فودّعهم بسلام والدموع تنهمر على وجوههم البائسة. وقد أرسل له أصدقاؤه المسيحيون طعاماً للطريق يكفيه ويزيد، واقترح عليه الجنود أن يأخذ ذلك الطعام معه لسدّ حاجته في السفر. لكنه أجاب: «كلا! إن سيدي سيسد كل حاجتي. لذلك أترك هذا الطعام للمسجونين المساكين هنا». وإذ ترك السجن التفت وراءه ورفع يمينه وقال بكل احترام: «إن الله شاهد أنه إذا قابلتُ واحداً منكم في يوم الدين لم ينل الخلاص فإني بريء من دمه، لأني قدمتُ لكم جميعاً طريق الحياة».

أخذ ثمانية جنود إبراهيم إلى بيت القائد العام للفرسان، الذي كان رجاله مكلّفين بمرافقة إبراهيم إلى تبريز. واجتمع في البيت عدد كبير من رجال الدين المتلهّفين لرؤية الرجل الذي تحدّاهم وأنكر سلطة نبيِّهم، وبدأوا يسألونه ويهزأون به وهو يجيب بوضوح ودقة حتى خجلوا من مواصلة استجوابهم له. ثم سمح القائد للأخ الأشوري المسيحي أشالوم أن يقابل السجين للمرة الأخيرة، فعانق أحدهما الآخر بحب وحنان، وتكلما عن الإيمان والمحبة وتوقُّع الموت في سبيل المسيح. وأرسل إبراهيم رسالة مع أشالوم لأصدقائه يطلب منهم الصلاة إلى الله لأجله ليزيد إيمانه. وقال لأشالوم: «أخبِرهم جميعاً أن ثباتي هذا ليس من نفسي بل من الله الذي يعينني». وركعا على مرأى من القائد ورجال الدين المسلمين، ورفع كل منهما لله صلاة الثقة في القادر أن يخلّص إلى التمام.

وبعد أن انتهيا من الصلاة سأله القائد بلطف: «هل انتهيت يا ابني؟» وبعد ذلك أخذ المكلّفون إبراهيم للخارج ليركب الحصان الذي كان أصدقاؤه قد أعدّوه له لرحلة تستغرق خمسة أيام، ولولا ذلك لكان عليه أن يقطعها ماشياً على قدميه. وقد تأثر الحاكم أعمق تأثر من إخلاص هذا السجين وأمانة إيمانه الجديد، وأظهر استعداده لتقديم أية خدمة يسمح بها مركزه. وقال للجنود المرافقين: «أُقسِم بروح المسيح أنه إذا أساء إليه أيُّ واحد منكم فسأجعلكم تأكلون آباءكم». وهو تعبير إيراني مألوف للتهديد. وكانت آخر كلمات قالها إبراهيم لأخيه الأشوري: «صلّ لأجلي حتى أستطيع أن أشهد لشعبي، فهذه فرصة ممتازة مُنحت لي قد لا تُتاح لكم أنتم الأشوريين. صلوا حتى أظل ثابتاً راسخاً. إني لا أخاف من أي شيء، ولو أني أعلم أني قد أواجه الموت. مع السلامة». وفيما هو يبتعد عنهم قال ضابط مسلم: «هذا رجل عجيب شجاع كالأسد!».

لما وصل إبراهيم ميرزا إلى تبريز مثل أمام حاكم الإقليم الذي كان ولي العهد، وسُئل ماذا أُعطي له لإغرائه حتى يصير مسيحياً فأجاب: «لا شيء سوى هذه القيود وهذا السجن». أُلقي في سجنٍ مظلم ووُضعت رجلاه في المقطرة، وضُرب ورُجم بالحجارة، وطُوقت رقبته بقيد وسلسلة ثقيلة من الحديد. وفي ذلك الوقت لم تكن الحكومة تقدم طعاماً يُذكر للمسجونين، فإذا لم يمدّهم أصدقاؤهم بالطعام يموتون جوعاً. وتمكن المؤمنون في تبريز أن يرسلوا له عن طريق صديق مسلم طعاماً وقطعة من الفراش، فاسترد معطفه الذي كان قد رهنه ليحصل على شيء من الخبز، وقد سُمح له أن يحتفظ بكتابه «الإنجيل». وواظب بكل أمانة ونشاط على أن يكرز بالحياة الحقيقية لزملائه في السجن. لقد زُجّ به في السجن بسبب كرازته بالمسيح، مع ذلك سُمح له أن يستمر في القيام بعمله «الإجرامي» في السجن ذاته! وقد تأثر أحد المساجين، وكان لصاً، وأنّبه ضميره جداً بسبب صلوات ونصائح وإرشادات إبراهيم حتى اعترف اعترافاً تاماً بذنوبه، وكشف الأماكن السرية التي خبأ فيها الأمتعة المسروقة.

ترددت الحكومة في إعدام ميرزا إبراهيم علناً لئلا يؤدي ذلك إلى زيادة التعلق بالمسيحية، ويزعزع ثقة الناس في الإسلام، بمشاهدتهم شخصاً يترك الإسلام ويموت في سبيل إيمانه المسيحي بكل شجاعة. لذلك تُرك في السجن أحد عشر شهراً تحت رحمة حارس لا رحمة ولا شفقة عنده. وبعد فترة وُضع في زنزانة عفنة ورُبط مع جماعة من القتلى سلبوا معطفه وفراشه، لكنه حاول أن يربح حتى هؤلاء الساقطين للمسيح.

وذات ليلة بعد أن أُوصدت الأبواب على السجناء، ظلوا يتناقشون في المسيحية والإسلام. وقال السجناء لإبراهيم إنه إذا لم يعترف بأن المسيح كان كاذباً وأن علياً (زوج ابنة محمد) كان صادقاً سيخنقونه. وتناوب كل واحد من أولئك الزملاء الحقيرين توجيه السؤال إليه، وفي كل مرة كان يجيب جواباً لم يتغيَّر: «المسيح صادق حقاً، اخنقوني إذا شئتم» وقد خنقوه كلهم واحداً بعد الآخر حتى جحظت عيناه وبرزت للخارج وظل فاقد الوعي عدة دقائق، ولكنهم كفّوا بعد ذلك ولم يقضوا عليه. ونتيجة لعملهم الوحشي انتفخت حنجرته ورقبته، حتى لم يستطع أن يأكل وجبة السجن اليابسة، وصار يتزايد ضعفاً. ولمست حالته المؤلمة قلب حارس السجن فنقله إلى الطابق الأعلى، ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان. فقد مات متأثراً من إصاباته في 14 مايو (أيار) سنة 1893.

ولما سمع ولي العهد بموت ميرزا إبراهيم سأل: «كيف مات؟» أجابوه: «مات كمسيحي».

في إيماننا المسيحي تراتيل كثيرة تعبّر عن الآلام التي قاساها المسيح وعن انتصاره المجيد على الموت وأهواله وقيامته من القبر ظافراً، وصعوده إلى عرش المجد، وجلوسه عن يمين الآب يشفع فينا ويقف إلى جانبنا. ولا بد أن ترتيلةً من هذه كانت تتردد على شفتي إبراهيم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.

واعتبرت السلطات الإيرانية هذا الشهيد المسيحي مسلماً، فدُفن في مقبرة إسلامية ولم تُقَم له خدمة جناز مسيحي. لكن بعد سنين اعتاد المسيحيون أن يزوروا قبره الذي لا توجد علامة له، ويشكروا الله لأجل شجاعته وأمانته. وبعد ذلك بسنين استولت الحكومة على المقبرة وفوق المكان الذي دفن فيه ميرزا إبراهيم شُيّد بناء المجلس البلدي القائم حالياً.

لما زار الدكتور سعيد يروميا عام 1891 وجد عدداً من المتجددين المهتدين من الإسلام الذين قاسوا اضطهادات كثيرة. وكان حاضراً ذلك الاجتماع ميرزا إبراهيم. فذكّر الدكتور سعيد الحاضرين أن المسيحيين منذ البداءة احتملوا ضيقات كثيرة، وأخبرهم أن دم الشهداء كان دائماً وأبداً بذار الكنيسة، وقال إن المسيحية لم ترسخ أقدامها قط في أي بلد بدون تضحية الحياة. وأوصاهم أن يكونوا مستعدين لذلك قائلاً: «من يعلم من منّا سيكون الضحية الأولى؟». ولم يعلم الدكتور سعيد أن نبوته ستتحقق بعد سنتين حين شرب ميرزا إبراهيم كأس الاستشهاد.

من هذه البذرة المقدسة، من الحياة التي وضعها ميرزا إبراهيم وعدد لا يحصى من المسيحيين الآخرين منذ القرن الأول إلى اليوم نجد كنيسة الله الحي نامية الآن.

المسابقة

أيها القارئ العزيز،

إن تعمقت في قراءة هذه الشهادة تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.

  1. ماذا قال نصف المؤمن بالمسيح لما رأى إبراهيم يتعمّد؟

  2. ماذا كان جواب إبراهيم لما سأله الوالي: «لماذا تعلّم التعاليم المسيحية وأنت مسلم؟»؟

  3. اكمل عبارة إبراهيم: «يمكنكم أن تطلقوا عليَّ النيران...».

  4. ماذا أخذ إبراهيم ميرزا ليصير مسيحياً؟

  5. ماذا قال الدكتور سعيد في موعظته للمتنصّرين؟

نصر الله «صلحي الكل»

إن أعجب معجزة في علم الأحياء هي ولادة طفل بشري. وفي العالم الروحي نجد المعجزة الكبرى حينما يولد كائن بشري «ولادة ثانية» فتتغيّر كل ميوله وغرائزه وضعفاته وقدراته الأرضية، ويصبح ابناً لله.

كم يصبح هذا التغيير أشد صعوبة وأكثر تعقيداً عندما يولد إنسانٌ ثانيةً، بعد أن يكون قد نشأ وتربى وأُحيط بعقائد وتعاليم وخرافات وميول متعصبة، وقد سلبته أسرته حق التساؤل أو البحث في الدين الذي وُلد فيه. هذا شأن المسلم، فالإسلام دين أخوَّة حقيقية قوية، يقف حاجزاً منيعاً يمنع كل من نشأوا فيه من الخروج عنه، ويؤكد لهم أنهم وحدهم أهل الدين الحق، وهم وحدهم على صواب. ونتيجة لذلك تُغرس وتتأصل في نفوسهم الكبرياء والاعتزاز والتمسُّك بالبر الذاتي. ترى هل يستطيع إنسانٌ نشأ وترعرع في هذه البيئة أن يولد ثانيةً؟؟ لقد رأينا هذه المعجزة وقد حدثت في حياة مسلمين كثيرين، والآن نراها في حياة ميرزا نصر الله.

عاش «ميرزا نصر الله صلحي الكل» في مدينة يزد، الواقعة في إقليم الجفاف بأواسط إيران. وقبل أن يلتقي بأي شخص مسيحي، نفخ روح الله في قلبه نسمة تعطش للحق وعدم رضى على ما هو فيه. كان في شبابه قد درس العقائد الإسلامية، وعرف الكثير عن تعاليم الإسلام. لذلك لم يستطع أن يؤمن بأن الله هو كما يصوِّره علماء الإسلام، فتحوَّل إلى البهائيين، (وكان في يزد عدد كبير منهم) راجياً أن يجد عندهم ما يروي غليله أو يطفئ ظمأه إلى الله. ويعتقد البهائيون أن ما أنبأت بمجيئه الديانات الأخرى، مثل مسيح المسيحيين، ونبي المسلمين، وشاه بهرام الزرواستريين قد تجلى بجمتله في بهاء الله الذي هو أعظم «مظاهر» الله التي ظهرت في العالم، وأن بهاء الله هو الذي سيوحّد البشرية ويشفي انقساماتها العديدة ويجمع شملها كلها في أسرة واحدة، ويوطد «السلام الأعظم» على الأرض، ذلك السلام الذي تنبأ عنه الأنبياء القدماء. وقد بدا هذا كله شيئاً عظيماً جداً في نظر ميرزا نصر الله فصار بهائياً، واتخذ لأسرته اسم «صلحي الكل» ومعناه «السلام العام». لكن البهائية فشلت كما فشل الإسلام من قبل في إشباع جوعه العقلي والروحي، فظل يبحث عن الإله الحقيقي.

في عام 1921 كان «صلحي الكل» مدرّساً في مدرسة ابتدائية في يزد، عندما أصابه مرض في عينيه، فذهب للعلاج في مستشفى الكنيسة الأسقفية القريب منه. وبعد أن عالجه الطبيب المختص قدم له إنجيل لوقا، فقدَّره أجلَّ تقدير واحتفظ به في جيبه الداخلي على صدره، وكان يقرأ فيه كلما وجد لحظات سانحة. وحدث ذات يوم قبل انتهاء فصل الربيع الدراسي، أنه كان يقرأ إنجيل لوقا 9: 62 حيث يقول المسيح: «ليس أحدٌ يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله». فتأثر من هذه الكلمات أعمق تأثر، وكأن الكلمات اخترقت قلبه، فقرر في ذلك المكان وفي تلك اللحظة أن يصير مسيحياً.

لم يكن في يزد وقتئذ أي شخص معيَّن لتعليم مَن يقبل المسيح حتى يجهّزه للمعمودية. ترى ماذا يفعل «صلحي الكل»؟ فضلاً عن ذلك كانت زوجته بهائية وكانت تقاوم المسيحية بشكل مرير. فرأى أن السبيل الوحيد أمامه هو أن يذهب إلى أصفهان حيث توجد كنيسة للمسيحيين يقيم فيها الأسقف الأنجليكاني ليلتمس عنده وسيلة يتعلّم بها ويتأهب للمعمودية. ولم يكن «صلحي الكل» يفكر أو يتصور أنه يستطيع أن يحتفظ بإيمانه الجديد سراً مكتوماً في صدره وينضم إلى قائمة «مؤمني الخفاء». وكانت أصفهان تبعد نحو 200 ميل عن يزد. وكانت الطريقة الوحيدة الميسورة لديه ليقطع تلك المسافة هي دراجته بإطاراتها البالية. لكن هذه الصعوبات لم تثنِ عزمه، فكتب استقالته إلى ناظر المدرسة التي يعمل بها، وكتب أيضاً كلمة وداع لزوجته، يخبرها بالسبب الذي دعاه للذهاب إلى أصفهان، كما كتب رسالة إلى سيدة مرسلة يطلب منها أن تهتم بزوجته وابنه الصغير الذي كان مريضاً جداً وقتئذ. وكتب أيضاً عدة رسائل لأصدقائه الكثيرين يوضح لهم حقيقة ما فعل. فكأنه بذلك كان يحرق الجسور خلفه ويمضي إلى غير رجعة.

وقام «صلحي الكل» بسَفره الطويل، وليس في جيبه سوى ما يعادل 8 دولارات، ومعه دراجته والأدوات التي اعتقد أنه يلزم لتصليحها إذا اضطر الأمر. وكانت الطرق في ذلك الوقت مجرد آثار على الصحراء، مملوءة بالأحجار والمرتفعات والمنخفضات والحفر والرمال، مما يجعل اجتيازها بدراجة أمراً شبه مستحيل. وبعد مسافة قصيرة استُهلكت الإطارات استهلاكاً تاماً، وأثبتت الأدوات التي أخذها لتصليح الدراجة عجزها! ودفع «صلحي الكل» دراجته بكل أسى إلى البلدة التالية على بعد بضعة أميال حيث أقام في بيت أحد الأصدقاء راجياً أن يجد وسيلة توصّله إلى أصفهان. ثم جاءت شاحنة مسافرة إلى يزد فشعر أن الله يرشده للرجوع إلى بيته، وأن يقوم إلى أصفهان فيما بعد برحلة أخرى. وعاد بعد أربعة أيام يغطيه التراب والغبار وقد تحطم جسمه أشد تحطيم.

في أثناء غيابه ذهبت زوجته البهائية تبكي إلى الآنسة نوهي عيدن (إحدى المرسَلات) تخبرها أنها لا تصدق ولا كلمة من خطاب «صلحي الكل» وأنه يظهر لها أنه إنما ذهب إلى أصفهان ليمتّع نفسه، وربما ليتزوّج بامرأة أخرى. فأكدت لها الآنسة عيدن أنه لا يمكن أن يفعل ذلك كرجل مسيحي، وأنه في إيمانه الجديد سيكون لها زوجاً أفضل بكثير مما كان من قبل.

بعد أن وضع «صلحي الكل» يده على المحراث لم يرجع أو يلتفت إلى الوراء. ولم يضيع وقتاً، بل أسرع يشتري إطارات جديدة للدراجة. ولم يعبأ بالإغراءات التي قُدمت له، ولا التوسلات، ولا سخريات الأصدقاء والجيران، بل بدأ رحلته مرة أخرى. وأرسلت الآنسة عيدن برقية إلى الأسقف لنتون في أصفهان تطلب منه أن يستقبله حينما يصل، لأنها خشيت أنه بدون هذا التنبيه سيكون منظر هذا الشخص المسافر سفرة طويلة يعلوه التراب والأوساخ أشبه برجل معتوه، إذا ظهر فجأة. وقد وصل سالماً، ورحب به الأسقف، ورتَّب له ما يلزم لتعليمه وعماده. وقد ظل بعيداً عن بيته ثلاثة شهور.

وفي أثناء غياب «صلحي الكل» مرض ابنه جداً وساءت حالته بسرعة. وفي إحدى الليالي وفي ساعةٍ متأخرة ذهبت «فاطمة جان» أمُّ الطفل به إلى الآنسة «عيدن» قائلة إنها تخشى أن يموت الطفل في تلك الليلة. وحيث أن زوجها قد أعطاها تعليمات مشددة بأن يتعمّد الطفل، طلبت معموديته في الحال. ونحو نصف الليل على ضوء مصباح في شرفة البيت قام أحد القسوس بتعميد الطفل. وتمَّت هذه المعمودية الغريبة في بابها لأن والد الطفل لم يكن قد تعمد بعد، وأم الطفل كانت بهائية متعصبة تقاوم المسيحية بعنف. ولكنها خوفاً من عدم تنفيذ أوامر زوجها فعلت ذلك. ومات الطفل بعد ذلك بقليل.

بعد أن تعمد «صلحي الكل» في أصفهان عاد إلى يزد. وكان ناظر المدرسة التي استقال منها يعتقد أنه ذهب إلى أصفهان ليفوز بمهنة يحصل منها على راتب أكبر في كلية ستيوارت التذكارية التابعة للمرسلية. لكن لما رآه قد عاد وافق أن يُعيده إلى وظيفته، فاستأنف صلحي الكل عمله في المدرسة بذات الراتب. لكن الحياة لم تعد سهلة عليه. فبعد أن صار مسيحياً أقام لنفسه عدداً كبيراً من الأعداء، إذ غيَّر دينه من الإسلام إلى البهائية، ثم إلى المسيحية، فاتُّهم بأنه متقلّب يتلاعب بالأديان انتهازاً للفرص. وزاره ذات يوم بعض الأصدقاء وسأله أحدهم: «ماذا حدث لك يا ميرزا نصر الله؟ تُرى ما هو سبب هذه الرحلة الغريبة إلى أصفهان، وما يُشاع عنك أنك أصبحت مسيحياً؟» فأجاب بعد بعض التفكير: «لا شك أنكم تتفقون معي أن الناس يقومون بأعمال معيَّنة ببواعث مختلفة. فمعظمهم يهدفون إلى جمع الثروة، لكنكم تشاهدون أن رحلتي إلى أصفهان كلّفتني أن أشتري إطارات جديدة لدراجتي، كما كلفتني نفقات أخرى هناك، والآن ها أنا قد عدت إلى وظيفتي السابقة. إذاً لم يكن المال هو الباعث لي. آخرون يقومون بأعمالٍ حباً في الشهرة ونوال استحسان الناس، أما أنا فلم أفُز سوى باعتباري غبياً مجنوناً. وأخيراً هناك أناس يؤدون أعمالاً حباً في الله، ولكم أن تقرروا إن كان هذا هو الباعث الوحيد لرحلتي». مع ذلك لم يصدّق أحدٌ أنه صار مسيحياً، بل ساورتهم الشكوك عن أسباب رحلته.

أما في البيت فإن ارتباط زوجين يختلفان كل الاختلاف معاً ليس أمراً سهلاً، فقد عبَّرت «فاطمة جان» عن مخاوفها من أن زوجها سيُرغمها على أن تصير مسيحية. لكن أصدقاءها المرسلين والمرسلات أوضحوا لها أنه لن يفعل هو ولا غيره شيئاً من هذا القبيل، بل إنها هي نفسها إن أرادت من تلقاء ذاتها أن تصبح مسيحية فيجب أن تسعى بنفسها وتتوسل لقبولها. وعلى ذلك لم يبحث معها «صلحي الكل» مطلقاً أمور الدين، ولا طلب منها أن تقرأ الإنجيل أو تحضر صف درس الكتاب المقدس للسيدات. لكنه اعتاد أن يترك كتابه المقدس وسائر الكتب التي كان يقرأها على رف، وقال إنه واثق أن تلك الكتب كانت تُقرأ. إن اسمه يعني «السلام» ولقد كان اسماً على مسمى، فكان مسالماً حقاً، مع أنه كانت هناك أمور كثيرة تحتاج للجدل والنزاع مع زوجته. فمثلاً إن جاء بعض المسيحيين ليزوروه كان زوجته تخفي الشاي والسكر وتخرج. وقد عذّبَته وأشْقَت حياته، لكنه لم يفكر في اتّخاذ زوجة أخرى، الأمر الذي كان غالباً يفعله في ظروف كهذه لو ظل مسلماً أو بهائياً. بل بالعكس، فإن «صلحي الكل» اجتهد أن يُظهر آيات المحبة والفرح الذي وجده في المسيح بتصرفه برقَّة وتفاهم، فبعد ثماني سنوات جاءت فاطمة جان من تلقاء نفسها وبتصميمها هي واعترفت أنها صارت مسيحية، وطلبت أن تعتمد. وفي أثناء تلك السنين رُزق الزوجان بصبي لطيف قوي البنية وبابنتين، وكان يوماً عجيباً، إذ اعتمدت الأم بوجه مشرق يشع بالفرح ومعها أولادها الثلاثة.

بعد بضع سنوات ترك «صلحي الكل» عمله كمدرّس في المدرسة الزروسترية وبدأ يخدم في الكنيسة، أولاً كخادم كارز بالإنجيل ثم صار بعد سيامته راعياً في يزد وكرمان. وحدث أن صلحي الكل حضر مؤتمراً لعدد من الكنائس في طهران وتأثر تأثراً عميقاً بمحاضرات سمعها عن «البيت المسيحي» فلما عاد إلى يزد اجتهد أن يطبق الأفكار الجديدة في بيته، وحصل من مطبوعات لجنة الإرساليات في طهران على مجموعة كبيرة من الصور الملونة للأطفال فيها صلوات شكر قبل تناول الطعام، وفيها أطفال يلعبون معاً ويركعون للصلاة قبل النوم. وكانوا يواظبون على صلوات عائلية قصيرة كل يوم.

ذات يوم ذكر صلحي الكل لصديق له أنه لا يستطيع هو وزوجته أن يحتفظا بالحلوى أو الكعك في البيت، لأن الأطفال دائماً يأكلونها كلها. فقال له صديقه: «هذا أمر هين. اقفل عليها» فقال صلحي الكل بتفكيره السليم: «صحيح أن هذا ممكن، ولكن إن فعلنا ذلك سوف لا نجد إلا قفولاً ومفاتيح في البيت!» وكانت طريقته أن يمنح أولاده قسطاً كبيراً من الحرية، فنشأ الأولاد وكبروا مسرورين بدون ضغط، ولكنهم كانوا مؤدبين ومطيعين.

كثيراً ما كان يغيب صلحي الكل عن بيته في رحلاته الكرازية، ويحمل معه «الفانوس السحري» الذي يشتغل بالكيروسين، وكان يعرض به صور حياة المسيح في القرى للجماهير من المسلمين والزروستريين المتلهّفين عليها. وقد اتفق مع زوجته أن تقضي الليلة الأولى بعد رجوعه في المتعة والسرور، فلا تذكر المتاعب المالية ولا غيرها حتى لا يفسد جو السعادة العائلية في ذلك المساء، وتؤجل المشاكل والحسابات إلى اليوم التالي حيث يكون هناك وقت كاف للنظر فيها.

وأراد المرسَلون أن يفتتحوا مركزاً لبيع المؤلفات المسيحية وغيرها في الشارع الرئيسي في يزد، وكان صلحي الكل مسؤولاً عنه لمدة ساعات معينة كل يوم. وكان الأمل أن يصبح ذلك المركز غرفة مسيحية للقراءة. ولكن السلطات المحلية لم تعطِ تصريحاً بذلك، فتقرَّر أن يظل المركز كمخزن لبيع الكتب. وسُئل الموظف الحكومي المسؤول: «هل يمكن أن يكون لمخزن الكتب مكتب وكرسي لمديره؟» فأجاب: «نعم! بكل تأكيد». فسُئل: «وهل يمكن وضع كرسي للزبون؟» أجاب الموظف: «نعم! لا بأس في ذلك». إذاً بحكم القانون صار صلحي الكل يجلس إلى زاوية المكتب ويعطي الكرسيين لزبونين، فيبحث الثلاثة معاً ما تحويه الكتب المسيحية. وكان مدير المخزن يقول: «هذا أفضل بكثير من التحدُّث إلى عدد كبير».

تقع أفغانستان شرق إيران، وقد ظلّت مدة طويلة مقفلة في وجه المبشرين المسيحيين. وقد حاول كثيرون أن يحصلوا على إذن بالكرازة في أفغانستان دون جدوى، وظلت الصلوات تُرفع أكثر من قرن أن ينعم ملايين المسلمين في تلك البلاد ببركات الإنجيل. وقد تأمل صلحي الكل في هذا الوضع فشعر أن الله يدعوه لتلبية هذه الحاجة. وكان يشكو متألماً أن الكنيسة في إيران لم ترسل أي مرسل للعمل خارج البلاد، وأراد أن يكون أول مرسل أجنبي يذهب من إيران. ولما عرف أن المرسلين القدماء خرجوا من إيران يحملون الإنجيل عبر آسيا إلى الصين، تساءل: لماذا لا يذهب مرسلون الآن؟ ولما عرف أن أفغانستان لم تسمح للمرسلين بدخولها، وأنه إذا ذهب إليها قد يلقى حتفه أجاب: «إذاً سأكون أول شهيد للكنيسة، ويسرني ذلك جداً». وسُمح له أن يحصل على جواز سفر، ولكن أفغانستان لم تسمح له بدخولها. على أنه فهم أن الباعة المتجولين من إيران يعبرون الحدود بدون تأشيرة رسمية ويبيعون بضائعهم هناك، ويعودون إلى بلادهم بدون أية صعوبة، فقرر أن يذهب كبائع متجوّل يحمل الشاي والسكر والبهارات والكعك والصور الجميلة المطرزة مما تجد لها سوقاً رائجة. وأخذ معه بعض الأناجيل والنبذ وسافر وحده إلى مشهد في شمال شرق إيران.

ولما وصل إلى مشهد في طريقه إلى حيرات بأفغانستان طلب أن يتناول العشاء الرباني، فأقام المؤمنون خدمة صغيرة بسيطة في بيت أحدهم. وظلوا يذكرونه في صلواتهم وهو في أفغانستان. وعندما عاد سالماً إلى مشهد رحبوا به ترحيباً حاراً، فأخبرهم أنه صمم على أن لا يعود بالكتب المسيحية التي لم يقدر أن يبيعها، فقطع أوراقها ولف بها أجزاء صغيرة من الشاي والسكر والبهارات واثقاً أنها تقع في أيدي بعض الناس فيقرأونها. وفي الليلة السابقة لعودته من حيرات قسم كتابه المقدس باللغة الفارسية إلى أجزاء صغيرة وتسلل في الظلام إلى الشوارع يضع جزءاً هنا وجزءاً هناك في أماكن كثيرة، ثم أسرع وخرج من المدينة. ولم يلق صعوبة في عبور الحدود لا في ذهابه ولا في إيابه. وحيث أن اللغة الفارسية هي لغة ذلك الإقليم في أفغانستان فلم يجد صعوبة في التفاهم مع الناس. تُرى هل حدث شيءٌ نتيجةً لهذه المحاولة الجريئة للدخول إلى «بلاد مقفلة»؟ هذا أمر لا نعلمه. لكن الذي نعلمه هو أن «صلحي الكل» يجب أن يُحسب واحداً من الأبطال الذين أطاعوا أمر المسيح وخاطروا بحياتهم حتى يوصّلوا رسالة الإنجيل إلى أفغانستان.

كان «صلحي الكل» قارئاً ممتازاً يحب الكتب، وكان يتقن العربية، فترجم عدة كتب من العربية إلى الفارسية وأهمها كتاب «ملك المحبة» وهو حياة المسيح بأسلوب بسيط. وكتب صلحي الكل مقدمة رائعة للطبعة الفارسية من هذا الكتاب، ذكر فيها الأساطير المعروفة للفرس عن رستم وزعرب وأمير أرسلان وغيرهم، وقال في تلك المقدمة إنه يروي للقراء قصة أفضل وأروع، بل هي قصة حقيقية. وكم تكون المفاجأة سارة وطريفة إذا التقى بقرّائه ذات مساء وروى لهم قصته الحقيقية، لا تلك القصص الخيالية التي يسمعونها! أما وهو لا يستطيع ذلك، فهو يرسل لهم كتابه ويرجو أن يستمتع كل قارئ منهم بقراءته. ثم قدم لهم قصة حياة المسيح. وقد لاقى كتابه رواجاً، وصار يُقرأ على نطاق واسع في إيران.

كان «صلحي الكل» وبعض المسيحيين الآخرين يعتقدون أن من خير الطرق للتمهيد للإنجيل أن يُترجم القرآن وينشر باللغة الفارسية، فإن من يعرفون اللغة العربية من الشعب الإيراني بدرجة كافية لقراءة القرآن وفهمه هم قِلّة. ولم تكن السلطات الإسلامية في ذلك الوقت ترغب في ترجمة القرآن لأنهم يعتقدون أن الله تكلم إلى محمد باللسان العربي. ولهذا فإن معظم المسلمين يجهلون محتويات القرآن. وكان صلحي الكل يعتقد أنه لو فهم الشعب القرآن لأرادوا أن يقرأوا الكتاب المقدس ويؤمنوا به.

كانت السلطات في إيران تساورها أكبر الشكوك من أية دعاية أجنبية سياسية. وذات يوم حين كان صلحي الكل يقوم بجولة في القرى المجاورة يعرض صوراً دينية «بالفانوس السحري» ظن الموظفون المحليون أنه يذيع أو يعرض دعاية سياسية، فأخذوه إلى السجن. فأكد لهم أنه لا يعرض بالفانوس سوى الصور الدينية، وأخبرهم أنه مستعد أن يعرضها في السجن فقبلوا ذلك. وفي المساء عرض لهم صور حياة المسيح، وحضر العرض عدد من الموظفين والسجناء. ورغم ذلك فقد ألزموه أن يقضي الليلة في غرفة قذرة بالسجن مع غيره من السجناء، وأطلقوا سراحه في الصباح. لكنه قبل أن يغادر السجن طلب مكنسة وماء وقام بنفسه بتنظيف غرفة السجن القذرة.

بعد أن اعترى صلحي الكل مرض شديد أثَّر على قلبه، استقال وأُحيل إلى التقاعد من الخدمة العاملة بالكنيسة واستقر في مدينة يزد، حيث مات فجأة بنوبة قلبية في 12 مايو (أيار) سنة 1955 ولم يكن للكنيسة في يزد خادم مرتسم في ذلك الوقت ليقوم بخدمة جناز مسيحي، لكن زوجته الأمينة أصرَّت على دفنه بطريقة مسيحية. وأراد بعض المسلمين وبعض البهائيين أن يأخذوا الجثمان، وكل فريق منهم يزعم أن «صلحي الكل» ينتمي إليه، فلم تسمح لهم زوجته بذلك. وتقدم شاب مسيحي كان يشتغل نساجاً وبكل شجاعة عمل الترتيبات اللازمة لحفر القبر، وحمل الجثمان في نعش وقرأ خدمة الدين بكل احترام وتعبد. وكان هذا عملاً جريئاً في مدينة متعصبة مثل يزد. ولقد عرَّض هذا الشاب المسيحي بعمله هذا نفسه لاضطهاد مرير وخطر شديد. ولكن خدمة الجناز كانت شهادة صريحة لقوة المسيح ورجائنا فيه.

وقد وُجد على مكتب صلحي الكل بعد موته خطابٌ وجَّهه إلى أحد أصدقائه يقول فيه: «ستنمو كنيسة المسيح عن طريق آلام الشعب الإيراني». على كل مسيحي أن يتألم في سبيل إيمانه. كثيرون منهم يُطردون من بيوتهم وينبذهم أصدقاؤهم. إنهم يواجهون الاضطهاد البدني والطرد من وظائفهم. وكل مهتدٍ هو معجزة من معجزات الرب المقام. إن الكنيسة تنمو حقاً عن طريق ما يقاسيه الشعب الإيراني من آلام واضطهاد.

المسابقة

أيها القارئ العزيز،

إن تعمقت في قراءة هذه الشهادة تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.

  1. ما هي نتيجة تربية ولدٍ في بيتٍ مسلم محافظ؟

  2. اكتب لوقا 9: 62 واشرح كيف أثّرت هذه الآية في «صلحي الكل»؟

  3. ماذا قالت الآنسة عيدن لزوجة «صلحي الكل» عن تأثير المسيحية في زوجها؟

  4. ما هي البواعث التي تجعل الناس يقومون بأعمال معينة؟

  5. ماذا كانت زوجة «صلحي الكل» تفعل لما يزور المسيحيون زوجها؟ وكيف كان يردّ عليها؟

  6. ماذا فعل «صلحي الكل» في «مشهد» قبل أن يسافر إلى أفغانستان؟

  7. ماذا قال «صلحي الكل» في رسالته التي كتبها قبل موته؟

خديجة الحالمة والشاعرة

من الصعب على أي إنسان أن يصبح مسيحياً في بلاد إسلامية وأن يتبع المسيح بأمانة، لكنه أصعب لو كان ذلك الإنسان امرأة. هذا ما يبدو بجلاء من قصة خديجة التي سنرويها الآن، كما سردتها خديجة جلال نصار نفسها باللغة الفارسية عام 1955 لصديقة لها في أصفهان. وقد وُلدت خديجة حوالي عام 1880 بمدينة أصفهان.

كان والدي طيباً جداً وإنساناً روحياً. وكان ببيتنا مكتبة تُعتبر كبيرة بالنسبة لذلك الوقت، وكان بين الكتب التي اقتناها والدي كتابٌ عرفت فيما بعد أنه الكتاب المقدس. وكنت أحياناً أسأله: «ما هذا الكتاب يا أبتِ؟» فكان يجيبني: «إنه كتاب لا يفيدك الآن، ولكنك ستقرأينه عندما تكبرين».

كان والدي يغلّف الكتب، وكان له دكان بجوار المدرسة. وكانت الحوانيت والمتاجر المحيطة بالمدرسة ذات صلة بعمل المدرسة، مثل الطباعة والنسخ، والأنوار، وغيرها. وكان أبي لطيفاً ودقيقاً في حفظ الشريعة الإسلامية. وظل إلى آخر حياته لم يتزوج سوى امرأة واحدة هي أمي. وكان لي أخَوان وثلاث أخوات صغراهن كانت ضريرة وماتت دون أن تتزوج في سن الحادية عشرة، ولم تأت لتسكن معي ومع زوجي إلا في السنوات الأخيرة قبل موتها. وقد رُزقتُ أول طفل في وقت متأخر بعد زواجنا حتى ظن الكثيرون أني عاقر. وكان الطفل صبياً وكان عمري وقتئذ 16 سنة. وقد مات زوجي بعد ذلك بقليل، وقبل أن يمضي وقت تزوجت مرة أخرى.

حدث في أثناء تلك السنين أني ذهبت ذات يوم مع صديقة لي، وأنا أغطي وجهي بالحجاب، إلى المستوصف الملاصق للقنصلية البريطانية في أصفهان، ودخلت صديقتي إلى غرفة الطبيب الأمريكي وانتظرتُ أنا في الخارج. وجاءت إلى هناك فتاتان أمريكيتان لطيفتان من الضاحية الأرمنية الملحقة بأصفهان لزيارة أخيهما، وتعرَّفتا عليَّ وأظهرتا روح المحبة والمودّة لي، فصرنا صديقات. وقبل أن نفترق أعطتني إحداهما صورة القديسة مريم العذراء تحمل الطفل المقدس على ذراعيها، فأحببت تلك الصورة وعملت لها كيساً صغيراً من القطيفة وحملتُه سنين طويلة على صدري فوق قلبي. وكان عمري وقتئذ نحو ستة وعشرين عاماً.

حدث بعد ذلك أني حلمت حلماً واضحاً، إذ كنت نائمة في بيت أبي وبجواري أختي الضريرة. وجدت نفسي وأنا في الحلم قد تهت في السوق وضللت الطريق، فجعلتُ أمشي حتى وصلت إلى باب مسجد كبير. فلما دخلته وجدته مملوءاً بأناس يلبسون ثياباً بيضاء، ويجلسون على الأرض يسمعون عظة الخطيب الواقف على منبر عال. وحاولت أن أقترب من الخطيب، فرأيت امرأة جميلة الصورة جالسة على الدرجة الثانية من السلم. فسألتُ من هي؟ فأجابوني أنها القديسة العذراء مريم. أما الخطيب أو الواعظ فلم أستطع أن أراه لأن جسمه من الركبة إلى ما فوق كان مغطى بسحابة مشرقة ساطعة، فلم يظهر وجهه. سألت القديسة مريم: «أين الطريق إلى بيتي؟»، فأشارت إلى واحد من القريبين منها أن يريني الطريق، فأخذني وقادني في الشوارع المظلمة. وفجأة عرفت الشارع، وأدركت أين أنا، وقلت له: «لا تتعِب نفسك بعد، فإني أعرف الآن أين أنا». فوضع بعض الأعشاب في يدي وقال: «إن القديسة مريم أخبرتني أن أسلّمك هذه» ثم انصرف. ووصلت إلى البيت ثم استيقظت. وقصصت الحلم لأختي وهي روَته لأبي. واستطاع أبي أن يفسر لي الحلم، وأخبرني بأنه سيكون لي ولد وسيكون الولد بركة عظمى لي ومصدر فرح عظيم. ثم أضاف بعد ذلك وهو يبكي: «للأسف أنت ستصبحين مسيحية».

وذات يوم بعد أن عدتُ من العيادة المجاورة للقنصلية البريطانية، حلمت حلماً آخر. حلمت أني أرى المسيح بوجهه واضحاً كل الوضوح. أراني شخص صورة كبيرة في إطار وقال: «هذا هو المسيح». تطلعت وإذا الكائن الموجود في الصورة أمامي طفل صغير، بدأ يكبر بالتدريج ويعلو ويعلو. وكانت الصورة محمولة على يدَيْن لم أستطع أن أرى صاحبهما.

ذهبت حالاً بعد ذلك مع صديقة لي إلى مستشفى الإرسالية. ولم أكن قد ذهبت إليه من قبل، وكانت المعلمة التي تعلّمنا الكتاب المقدس تقرأ من الإنجيل للمرضى الموجودين في غرفة الاستقبال. ولما خرجَت من الغرفة أخذتُ الكتاب الذي تركَته لأطّلع عليه، فوبّختني إحدى المريضات قائلة: «لا تمسّيه». سألتها: «لماذا؟»، أجابت: «الكتاب للقراءة». ودخلت المعلّمة في تلك اللحظة وسألت: «ما الخبر؟» ثم سألتني: «هل تقدرين أن تقرئي؟» سألت هذا السؤال باستغراب، لأنه في ذلك الوقت لم يكن سوى عدد قليل جداً من الناس يستطيع القراءة. وأجبتها أن أبي رجل مثقف جداً، وقد علَّمنا كلنا أن نقرأ. فأعطتني الكتاب وقالت لي: «اقرئي لنا». وبدأتُ أقرأ من الصفحة المفتوحة: «مَن أحبَّ أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني».

سألتني: «هل تعرفين شيئاً عن المسيح؟».

أجبتها: «نعم. هو واحد من أعظم الأنبياء، وقد أنزل الله عليه كتاباً سماوياً هو الإنجيل».

ثم سألتني: «إبن من هو؟».

أجبت: «ليس له أب».

فسألتني: «هل هذا ممكن؟» فأجبتُها بما نعتقد به نحن المسلمين عنه. وتحدثنا أكثر ثم طلبت منها أن تعطيني صورة المسيح، لأني أردت أن أعرف هل الوجه الذي رأيته في حلمي هو وجهه، فقالت لي المعلمة: «تعالي يوم الأربعاء» وأعطتني ورقة صغيرة لبواب المستشفى حتى يسمح لي بالدخول.

وانتهزت كل فرصة لأخرج من البيت وأذهب سراً إلى المستشفى. ولم تنس المعلمة الميعاد، ولما وصلت فُتح الباب واستقبلتني خادمة كانت في انتظاري رحَّبت بي وأخبرت المعلمة بوصولي. وأخذتني المعلمة إلى غرفة صغيرة هادئة حيث قرأنا معاً الكتاب المقدس وتحدثنا طويلاً. ثم أخبرتني عن صورة المسيح، وأوضحت لي أنه في وقت وجود المسيح على الأرض لم تكن هناك آلات تصوير. أما الصور التي نراها له فهي صور تخيَّلها الرسامون .. فخاب أملي. ولكنها أخبرتني أن أواظب على قراءة الكتاب الذي أعطته لي إلى أن تنطبع صورة المسيح على قلبي. ثم قالت: «ماذا تظنين عن المسيح؟ نحن نؤمن أنه الله». ولما رأت وجهي يتغير مندهشاً أخذت توضح لي بلطف وتمثّل بالشمس قائلة كما أن الشمس لها قرص، ونور، وحرارة، وكلها شمس واحدة هكذا الله.

ولما أخذت في الانصراف قالت لي: «اجتهدي أن تأتي كل يوم أربعاء». وكان هذا صعباً جداً عليّ، لأني كنت تحت رقابة شديدة. كانت عائلتي تراقبني، ولا سيما أمي التي كانت مسلمة مدققة جداً، وكانت أشد مراقبةً لي من والدي وأقسى. وكان والدي قد بدأ يشك أني أصبحت مهتمة بالمسيحية. لكني كنت أنتحل الأعذار لأذهب إلى المستشفى كل يوم أربعاء أو أي يوم آخر لأتلقَّى درساً. وأحياناً كنت أذهب إلى بيت صديقة لي تُدعى فاطمة بحجة تعلم اللغة الإنكليزية، وهناك كنت أقابل الآنسة بغس من الكنيسة الإنجلكيانية وأتعلم منها أكثر فأكثر. أما أم زوجي الثاني فكانت تعلم ماذا أفعل، لكنها كانت هادئة شديدة الحرص والخوف فلم تحاول أن تمنعني.

لكن أمي صممت أن تمنعني من أن أصير مسيحية. وذات يوم دعت حماتي فاطمة للشاي. وفي أثناء ذلك قالت أمي فجأة بشدة قاسية: «لا أنا ولا زوجها نريدها أن تواصل تعلم اللغة الإنكليزية، وهي تأخذ هذه الدروس ضد رغبتنا». وكان هذا قاسياً جداً عليّ فشعرت بإذلال. ولما انصرفت حماتي بقيت أمي. وكانت مدفأة بها جمرٌ مشتعل بيني وبينها، فسألتني أمي: «هل تحتملين أن تُحرَقي بالنار؟ هذا يكون مصيرك حتماً في نار الجحيم إذا صرتِ مسيحية. إياك من ذلك». فقلت: «إن الله أعطى النار وهو يعطي القوة لاحتمالها». فأخذت أمي جمرة بملقط ووضعتها على معصمي. واحتملتها حتى حرقت جلدي، ورمتها أمي عني. لقد كانت تحبني لكنها لم تستطع أن تتصور أني أصبح كافرة.

بعد ذلك ترتَّب لي أن أذهب إلى بيت أبي كل أسبوع، وأن يأتي رجل دين ليعلّمني الإسلام على حقيقته. وتعوّدت أن أسدّ أذنيَّ. وأخذت عائلتي شيئاً فشيئاً تعتبرني نجسة، ورفضت أختي أن تأكل من الطبق الذي آكل فيه. وكان أبي يبكي في كثير من الأحيان.

في نحو ذلك الوقت تقريباً حلمت حلماً آخر. رأيت وإذا حقل فسيح في نهايته سور عال جداً يمس السماء، وكان مملوءاً بجمهور كبير من الناس بينهم خورشديان الخادمة العجوز التي فتحت لي باب المستشفى، فسألتُها: «ما هذا؟» أجابت: «هذا يوم الدينونة».

سألتها: «ماذا ينبغي أن أفعل؟».

أجابت: «لا شيء».

سألتها: «وما هو هذا السور الكبير؟».

أجابت: «هذا سور الكنيسة وسيظهر المسيح عليه سريعاً».

ثم رأيت عرشاً عظيماً ذا ستة جوانب معلقاً في الهواء، يحمله طائران على أجنحتهما، حتى وضعاه على السور. وكان يجلس عليه كائن. وفي الحال أُنزلت سلسلة عظيمة وصاح صارخ «من يريد الخلاص؟» فتعلّقت بالسلسلة. ولما ارتفعت إلى مسافة عليا أمسك خاتمي بالسور، ولكني وصلت إلى القمة على أي حال. وهناك أخذ قديس من الدراويش الأولياء ماءً عطر الرائحة ورشَّه عليَّ ثلاث مرات. فلما استيقظت ظللت أشتمُّ الرائحة الذكية.

لما فكرت في هذا الحلم فهمت أن اشتباك خاتمي بالسور يعني أن هناك بعض العقبات يجب التغلب عليها، وأن قلبي يجب أن لا يتعلق بشيء ولا بأحد. وأخبرتُ أختي بالحلم لأني أردتها أن تفهم الأمر، ولكنها إذ ارتعبت من أن أصبح كافرة أخبرت أبي. فلما سمع بكى وقال: «لقد أُخذت خديجة منا، وإما أنهم سيعمّدونها قريباً أو أنهم قد عمّدوها من قبل». لكن أمي قالت: «لنذهب إلى كربلاء للحج، ونأخذها معنا، فربما تغيّر فكرها». أما عمي فأراد أن يحج إلى مكة، لأنه كان يملك من المال ما يمكنه من السفر ومن إعالة أسرته مدة عام، فقد أصبح الحج عليه فريضة حتمية. فترتَّب الأمر أن يذهب معنا إلى كربلاء بالعراق بالقرب من بغداد، ومنها يذهب إلى مكة، ونظل نحن نزور الأماكن المقدسة بالعراق حتى يعود، ثم نعود كلنا معاً إلى أصفهان.

ورتَّبت قبل ذلك بوقت أن أذهب إلى بيت الآنسة آن ستيوارت لحضور بعض الاجتماعات، وعادةً كانت حماتي تذهب معي لمراقبتي. وقد أرادت أن تفعل ذلك، ولكنها كانت تخشى أن تخبر زوجي بما أفعل. كانت الآنسة ستيوارت تقول: «حاولي أن لا تذهبي إلى كربلاء». لكني اضطررت أن أذهب رغم إرادتي. وتركت ابنتي ميمانات (وعمرها خمس سنوات) مع حماتي التي كانت تحبني، وكانت دائماً تخشى أن يطلقني زوجي. تركنا أصفهان في أواخر صيف عام 1910 تقريباً. وكنا في قافلة كبيرة تضمني أنا وأمي وعمي وزوجته وعدداً آخر من الرجال والنساء، وركبنا عربات تجرها بغال. وكانت العربات أشبه بصناديق مسقوفة، وكان كل بغل يحمل خُرجاً على جانبيه حيث يضع المسافر أمتعته. وكان لي خال في كربلاء كان يشغل منصباً هاماً، إذ كان كاتباً لأحد الأئمة في الضريح المقدس.

وذات يوم رأيت في كربلاء أجنبيَّين، وأردت أن أركض وراءهما فضربتني أمي وقرصتني ومنعتني من ذلك. وقد عرفت فيما بعد أنهما مبشران كانا في كربلاء، وإنهما عندما حاولا أن يقدما نسخاً من الإنجيل للناس خطف الناس الكتب من أيديهما ومزقوها. وقالت لي أمي في ذلك اليوم: «لقد جئتُ بكِ إلى هنا لنغيّر أفكارك، ولكن يظهر للأسف أنك تريدين أن تأخذي المسيح معك ولو إلى مكة... كيف نشفيك من هذا الداء!».

مكثنا في كربلاء طوال فصلي الشتاء والربيع حتى عاد الأهل من مكة، ثم رجعنا كلنا فوصلنا إلى أصفهان في أوائل الصيف بعد غياب تسعة شهور. ومكثت أولاً في بيت أبي. وحدث في أثناء غيابنا أن ماتت حماتي، وقامت بالإشراف على ابنتي ميمانات عمتها القاسية. وقد حزنتُ وبكيت لأنه لم يبقَ سواها للعناية بابنتي ميمانات، ولأني بفقد حماتي فقدت خير معين عطوف.

وفي أثناء وجودنا في كربلاء حاولت أخت زوجي أن تقنعه أن يتزوج بامرأة أخرى. وذات يوم وجد أمه تبكي وهي مريضة جداً، فسألها: «ما الخبر؟» فأجابت: «أختك تريدك أن تتزوج بامرأة أخرى، لكني أنا أريد أن تعود إليك خديجتي العزيزة!».

وبعد موت حماتي جاءت واحدة من بيت الآنسة ستيوارت تسأل لماذا لم أذهب لأراها، فأجابتها أخت زوجي: «خديجة موجودة في بيت أبيها». وأرسلت ابنتي ميمانات معها حتى تُريها بيت أبي. وجاءت المرأة وسلّمتني الرسالة. وعرفت أمي فحواها. وبعد انصراف المرأة أخذتني أمي وابنتي ميمانات إلى بيت زوجي، وهناك ربطت يدي ميمانات ورجليها وانهالت عليها ضرباً بقطعة من الخشب مدة طويلة عقاباً لها لأنها ساعدت المرأة في توصيل الرسالة إليّ. وكان عمر ميمانات وقتها ست سنوات. ومزقت أمي كل أوراقي وكتبي، لكن بقي كتابي المقدس سليماً، إذ كنتُ قد خبأته في ركنٍ عال مظلم في غرفة فوق السطوح، وقد بحثَت أمي عنه في كل مكان فلم تعثر عليه.

كانت ابنتي المحبوبة ميمانات تحب المسيح محبة صادقة، ولما كان عمرها تسع سنوات أرادوا أن يزوّجوها بابن عمها، وكان عمره خمس عشرة سنة فقط. ولهذا لم تتزوج حتى بلغ عمرها عشر سنوات. وكان زوجها أمياً متعصباً. وعندما بلغ عمرها نحو اثنتي عشرة سنة اعتادت أن تذهب معي إلى مستشفى الإرسالية. وذات يوم قدموا لها الإنجيل، فأخذته إلى البيت وخبأته تحت الأرض، ووجده زوجها فمزقه ورماه في دورة المياه وضربها بحزامه، وبكت وصرخت وقالت: «سوف أُحضر إنجيلاً آخر». وذات يوم جاء من محل عمله إلى البيت يبكي لأنه جرح يده بالمخرز. ولما قالت ميمانات: «شكراً لله» استشاط غضباً وسألها: «لماذا تقولين هذا؟» فأجابت: «أقول هذا لأنك جُرحت فقط ولكن شكراً لله لم تفقد يدك. وأقولها أيضاً لأنك عوقبت بسبب رمي الكتاب السماوي في دورة المياه». كانت ميمانات شجاعة لا تخاف ولا ترهب.

وحدث في أثناء ذلك الوقت أيضاً أن مات أبي الفاضل وأختي الضريرة، وكان ذلك حوالي سنة 1918 سنة المجاعة، وانضم أخي علي رضا إلى مذهب الدراويش المسمى «نعمة الله» وكانت أمي تذهب معه أحياناً إلى مكان عبادتهم. وذات يوم سألت رئيسهم ما هو واجبهم إزائي وقد اعتنقتُ المسيحية. هل أصبحتُ نجسة؟ أجابها: «كلا! كل ما عليكم هو أن تعاملوها بالمحبة واللطف وبذلك تعيدونها إلى الصراط المستقيم». بعد ذلك صارت أمي تعاملني بأكثر لطف. وأما أخت زوجي فكانت دائماً قاسية، وكانت امرأة غيورة صارمة، وكانت تنفق وقتاً طويلاً معي في بيت زوجي تراقبني.

أخيراً تعمدت في مساء يوم سبت، وقد حضر دكتور ستيوارت ومعلمة الكتاب المقدس مع ابنتي ميمانات وبعض الأصدقاء والصديقات وأخذوني إلى الكنيسة حيث قام الأسقف لنتون بعمادي. وقد كتبت لهذه المناسبة ترنيمة عنوانها «لك آتي، فاقبلني» وهذه ترجمة كلماتها (مع المحافظة على الأصل وشيء من التصرف للوزن):

يا يسوع، يا من أعلنت لنا محبة الله

يا يسوع، أنت هو المسيح ابن الله

أنت روح الله، بل أنت ذات الله

لك آتي فاقبلنّي يا يسوع.

يا صديقي يا أعز مِن حياتي يا حبيب

ليس لي عونٌ سواك يا سميعاً يا مجيب!

بعظيم رحمتك، كن معيني يا قريب

لك آتي فاقبلنّي يا يسوع.

«لي تعالوا» نادى صوتُك الرقيق

«اقبل الراحة والسِّلم العميق»

جئتُ فوراً وفق وعدك الوثيق

لك آتي فاقبلنّي يا يسوع.

أنت الأول أنت الآخر، أنت كل ما أبغيه

أنت المنى أنت الغِنى، أنت كل ما العين تشتهيه

قيل عنك «أبرع جمالاً من بني البشر» وكل ملء الله فيه

لك آتي فاقبلنّي يا يسوع.

وأخيراً نجحت أخت زوجي في مسعاها أن يتزوج زوجي بامرأة أخرى، بعد سنين طويلة من المحاولة. فزوَّجته بفتاة غير متعلمة ولا مثقفة، كانت تعمل خادمة لها في البيت. واحتلت الزوجة غرفتي، وأما أنا فأُعطيتُ غرفةً صغيرة، وكان عليّ أن أقوم بخدمة الزوجة الجديدة. ولأنها كانت امرأة فظة قاسية لم تترك وسيلة ترى فيها تعاستي وبؤسي إلا ومارستها. وكان زوجي يقضي معظم أيامه خارج البيت لأنه كان صرافاً يجمع الجباية من إحدى مقاطعات لنجان التي تبعد عن أصفهان نحو خمسة عشر ميلاً.

أما حياة «ميمانات» فكانت تزداد قسوة، فقد حبلت وأسقطت الجنين، وكان ولداً، وذلك بعد أن استشاط زوجها غضباً وضربها. وحين كانت في المستشفى تزوج زوجها بامرأة أخرى غنية. فلما خرجت ميمانات من المستشفى رفضت أن تعود إلى بيت زوجها وذهبت إلى بيت أبيها. وبعد ذلك بوقت تعمدت.

وأخيراً طلقها زوجها كما طلقني زوجي أيضاً. واستأجرنا معاً بيتاً صغيراً في شارع خلف السوق، وكنا سعداء معاً. وسُمح لعصمات (ابنة ميمانات) أن تزورنا بين حين وآخر، وكانت أحياناً تقضي معنا بضعة أيام. وبعد وقت ساءت حالتنا المالية، فوجدت ابنتي بنشاطها المعهود ما يساعدها على الحصول على آلة تصوير وافتتحت محلاً للتصوير. استأجرنا غرفتين في طابق أعلى قرب مسجد الشاه خلف الميدان الكبير وعلقنا لافتة تدل أنها مصوِّرة. وكان على اللافتة صليب يدل على أننا مسيحيون.

هنا تنتهي قصة خديجة كما روتها هي، وهاكم ما كتبته بعض صديقاتها:

ظلت خديجة خانوم مسيحية أمينة مكرسة إلى يوم وفاتها عام 1957. وكبرت عصمات وتزوجت وعاشت مع زوجها في مساكن آبار البترول في جنوب إيران، وعاشت ميمانات معهما. ثم ذهبت خديجة لتسكن مع ابنها وزوجتيه. ولم يظهر على وجهها الرقيق أي أثر للمتاعب التي تلاقيها في البيت، لأنها لم تجد في ابنها ولا في زوجتيه أي اهتمام أو حنان، حتى عندما اضطرها المرض أن تقضي أسابيع في المستشفى تقاسي من داء الربو والنزلة الشعبية. ولم تفقد مرحها ولا نبل روحها ولا هدوء طبعها. وألّفت ترنيمتين أُخريتين أُضيفتا إلى كتاب ترانيم الكنيسة، وهما تنمّان عن موهبة شعرية سامية.

وفي أحد أيام الشتاء اشتد عليها المرض بالمستشفى فأدركت أن حياتها قد دنت من النهاية، فأخبرت أصدقاءها المسيحيين أنها تريد أن يُقام لها جناز مسيحي، وبعد ذلك يبلغون أسرتها. وعادة يلحّ أقارب المتوفَّى المتنصِّر على أخذ جثمانه وإقامة فرائض التطهير الإسلامية ودفنه في مقبرة إسلامية.

لما هبط قلب خديجة وكف عن النبض واتضح أنها ماتت لم يكن أحد من عائلتها حاضراً، فلم يخبروا أحداً من أفراد أسرتها، بل أُعدَّت الترتيبات في الحال لإقامة خدمة الجناز في الكنيسة القريبة، ثم أُرسلت رسالة إلى أسرتها. وفي هذه الأثناء تمَّ حفر قبر في إحدى المدافن المسيحية خارج المدينة، في حالة ما إذا سمحت الأسرة بدفنها في مدفنة مسيحية. وأُقيمت خدمة جناز مؤثرة في الكنيسة حضرها عدد كبير من الأصدقاء المسيحيين ورُنمت ترنيمتان من تأليف خديجة. وكان كثيرون يبكون ولكن ليس بالعويل والصراخ العالي.

ولما خرج الموكب من الكنيسة التقى به ابن خديجة، الذي شكر الأطباء والممرضات على أتعابهم، وقال إنه مسؤول عن كل ما عُمل. وقد أحضر نعشاً وأخذ الجثمان، فأجروا عليه فريضة الغسل الطقسية لتطهيره من الارتداد، على رجاء أن يغفر الله لها ذنوبها ويرحم روحها.

بعد ذلك ببضعة ليالٍ حلمت إحدى المبشرات أن خديجة جاءت إليها وقالت: «لماذا لم يحضر جنازي سوى عدد قليل؟ كان يجب أن يكون الإعلان أوفى من ذلك حتى يحضر عدد كبير، لا سيما وهذه كانت فرصة عظيمة للشهادة المسيحية. وهناك أمر آخر - لماذا أخطأتم في ترنيم السطر الأول من الترنيمة التي كتبتُها؟ إني لا أرى معنى لذلك». أخبرت المبشرة الناس بهذا الحلم وهي لا تعلم ما الذي رنم خطأ، أو إن كان السطر الأول في اللحن الذي كتبته خديجة قد تغيّر عند طبعه في كتاب الترنيم. ولم يكن التغيير كبيراً، ولكنه كان لازماً للمؤلف من الناحية الشعرية! وعلى كل حال قد صُحح هذا السطر الأول في كتاب الألحان في طبعة سنة 1961.

لا تزال خديجة ناصر محبوبة من جميع الذين عرفوها. وقد كانت من المادة التي صُنع منها الشهداء الذين بُنيت منهم كنيسة إيران الفتيَّة، ولا تزال تحيا بهم.

المسابقة

أيها القارئ العزيز،

إن قرأت هذه السيرة الممتعة بتمعن، تستطيع الإجابة على الأسئلة التالية بسهولة، وان كان لديك أي أسئلة أو استفسارات عن هذا الكتيب، يمكنك الكتابة إلينا مباشرة عن طريق استمارة الاتصال الموجودة على الموقع.

  1. ماذا قال والد خديجة لها عندما سألته عن الكتاب المقدس؟

  2. في حُلم خديجة، ماذا فعلت العذراء القديسة مريم لها؟

  3. ماذا قالت المعلّمة لخديجة عن صورة المسيح؟

  4. لماذا أحرقت أم خديجة معصمها بالنار؟

  5. ماذا كانت نصيحة أخت زوج خديجة له بخصوص الزواج؟

  6. لماذا شكرت «ميمانات» الله لما جرح زوجها يده بالمخرز؟

  7. اكتب عدداً من الترنيمة التي ألّفتها خديجة.

الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:

www.the-good-way.com/ar/contact

او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:


The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland