الطريقة

الطريقة

تأملات في التصوُف

خدام الرب


List of Tables

1.

Bibliography

الطريقة. . . . English title: One of the ways of the sufis. German title: Einer der Wege der Sufis.

مقدمة

الحمد لله الأمين، الذي يعلم ما يبصرون وما لا يبصرون، ويريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة باطن حقه السماوي يُقبِلون، ويعلم ما يُسِرّون وما يُعلنون، إنه تعالى طالب مطلوب، محبّ محبوب، لطيف مهوب، بيده وحده تطهير القلوب، وغفران الذنوب. هو الذي لا يُعرَف حقه إلا بطريقة التحقيق، ولا تُكشف حقيقة قربه إلا لأهل التدقيق، الذين رتلوا في ظلمة الليل البهيم، وهم سائرون في الطريق القويم، مملوئين من فيضه العمي «وَلِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (سورة البقرة 2: 115) فسمعوا نداء الحبيب: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ ٱلْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا 7: 37 و38). الذين استجاب لهم ربهم فأنشدوا وهم ساجدون: «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ» (متى 5: 6 - 8).

الله لنا ملجأ وقوة

رأينا كثيرين بين بعض أبناء الأديان في الشرق والغرب (سيما في المسيحية والإسلام) ممن مالوا إلى إضرام محبة الله في قلوبهم، وتكريس أنفسهم له لشعورهم أنه أحبهم أولاً، وهؤلاء هم أهل الباطن المتفانون في حب الله. ومع هذا فإن كثيرين منهم يزدرون بهذه التسمية ويحتقرونها. وإذا حسبناهم من ذوي الميل إلى الحقائق الباطنية رضوا بهذه التسمية. ومع كل فقد حسبوا: «(أن الأمور) ٱلَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ» (2كورنثوس 4: 18).

الفصل الأول: عين تَرى ما لا يُرى

ما هي ديانة أهل الباطن وما هي طريقتهم؟

تعريف أتباع الديانة الباطنية وحالتهم الحقيقية:

الديانة الباطنية هي السعي في تحقيق حضور الله الحي في نفس الإنسان وحياته، وفي جميع عناصر الطبيعة، ليصير كلٌّ منهما مظهراً من مظاهر الله. وغرض الباطني الوحيد هو الوصول إلى حقيقة الحقيقة وبلوغ الغاية القصوى في الأمور الروحية، والتمتع ببركات الشركة القلبية مع الله والاتحاد به اتحاداً تاماً، حتى ينسى الإنسان نفسه ولا يكون في فكره وقلبه وروحه إلا الله الذي هو «الكل في الكل وفي كلكم». أو كما قال محيي الدين الشيخ عبد القادر الكيلاني:

Table 1. 

قطعتُ جميع الحُجْب لله صاعداًفما زلتُ أرقى سائراً في المحبة    
تجلى ليَ الساقي، وقال: إليَّ قُمْفهذا شراب الوَصْل في حان حضرتي    
تقدَّم ولا تخشَ كشفنا لحجابناتَمَلَّ هنيئاً بالشراب ورؤيتي    
شطحتُ بها شرقاً وغرباً وقبلةوبراً وبحراً من نفائس خمرتي    
ولاحت ليَ الأسرار من كل جانبوبانت ليَ الأنوار من كل وجهة    
وشاهدت معنى لو بدا كَشْفُ سرهلِصُمِّ الجبالِ الراسيات لدُكَّتِ    

(راجع كتاب الفيوضات الربانية صفحة 49).

وكتب أحد المسيحيين المتأخرين عن الباطنية موضحاً الفكر الباطني بالمعنى المسيحي فقال: «إن شعور الإنسان النفسي وحسَّه الطبيعي في الله بصفة كونه مالكاً لذاتية ذلك الإنسان من كل ناحية، وتعمُّق الفكر والقلب والعقل والإرادة في كل ما هو جوهري وحيوي وأبدي إنما هو ليس رؤية الله «بوجه مكشوف» فقط، بل هو أن «َنتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ» (2كورنثوس 3: 18).

إنه هو النظر الحقيقي إلى الجوهر، وكل نظر سواه يُعدُّ خيالياً. وهذا النظر الحقيقي الجوهري لم يتحقق بكمال وجلاء إلا من أناس قليلين جداً هم خاصة الخاصة، ومع ذلك فهذا النظر هو صفة جميع الروحانيين الحقيقيين. ويوجد كثيرون جداً من الباطنيين وصلوا بقلوبهم إلى حقائق غالية الثمن، ولكن ليس لهم الفصاحة الكافية للتعبير عن اختباراتهم الجوهرية، لأنهم خالون من المعرفة العلمية التي تؤهلهم إلى تعريف معتقداتهم ومشاهداتهم. أما إذا فرضنا أن طريقة الباطنيين هي تقويم النفس وتخديرها بقصد منعها من التيقُّظ، والتشوق الذي يليه، فهذا القصد لا يستحق اسم الباطنية مطلقاً بل هو بعيد عنه بُعد السماء عن الأرض.

الله في الطبيعة

قلنا أن «أهل الباطن» الحقيقيين يتأكدون من حضور الله الحي في النفس وفي الطبيعة، فإن الله في خليقته، وموجود فيها لكي يراه الإنسان ويتمتع به. ويقول بولس الرسول إنه حتى العالم الوثني القديم الذي لم يُعلن له وحياً خصوصياً كان بلا عذر في عدم معرفته بالله «إِذْ مَعْرِفَةُ ٱللّٰهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ ٱللّٰهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ، لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ ٱلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ» (رومية 1: 19و20).

فسبحانه يُظهر على الدوام قدرته الخالقة في كل شيء في الكون، ويجعل ذاته معروفاً ومنظوراً مثلما يُظهر الإنسان جمال نفسه بابتسامات وجهه. ويقول داود في زبوره عن حضور الله في كل مكان: «أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. فَقُلْتُ: إِنَّمَا ٱلظُّلْمَةُ تَغْشَانِي. فَٱللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! ٱلظُّلْمَةُ أَيْضاً لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَٱللَّيْلُ مِثْلَ ٱلنَّهَارِ يُضِيءُ. كَٱلظُّلْمَةِ هٰكَذَا ٱلنُّورُ» (مزمور 139: 7 - 12).

فيتصور داود في مزموره رجلاً شعر بخطيته فاجتهد أن يخبّىء نفسه من وجه الله القدير فقال: حتى وأن أمكنه الهروب إلى أقصى الكون فيجد الله حاضراً هناك، أو إذا صعد إلى أعلى السموات أو نزل الى أعماق الأرض السفلى، فيجد الله حاضراً هناك أيضاً. فالهارب لا يمكنه مطلقاً أن ينجو من يد القدير. حتى الظلمة الملازمة للشاردين شفافة ونيّرة لدى الله.

ونجد في الزبور أيضاً توضيح منظر الطبيعة المقدس: «يَا رَبُّ إِلٰهِي قَدْ عَظُمْتَ جِدّاً. مَجْداً وَجَلاَلاً لَبِسْتَ. ٱللاَّبِسُ ٱلنُّورَ كَثَوْبٍ ٱلْبَاسِطُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ. ٱلْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِٱلْمِيَاهِ. ٱلْجَاعِلُ ٱلسَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ. ٱلْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ ٱلرِّيحِ» (مزمور 104: 1 - 3).

حُلّة الله

عين المرنم صافية بالصلاة والتأملات حتى استطاع أن يرى الطبيعة مملوءة من الله. كان عقله مثل مرآة بلورية تنعكس فيها صورة الكون، وظهر له أن الطبيعة هي حلة الله ومظهر اللاهوت. والله غير المنظور كسا نفسه بالبهاء والمجد في أعمال الخَلْق. وصفات الخليقة الفطرية جعلته تعالى منظوراً. وهذا هو السر العميق في الخليقة «إن الكون هو حُلّة الله».

وليس داود وحده هو الذي لاحظ هذه الأمور ونطق به في زبوره، بل كثيرون غيره تأثَّروا من عمل الخلق نظيره، ونطقوا بما يشابه كلامه. فيقول القديس هلاري: «من ذا الذي يتطلع إلى الطبيعة ولا يرى الله فيها؟!». وأحياناً أكثر الناس تعمقاً في علم الطبيعة، سواء كانوا واقفين أمام الجبال الهائلة، أو موجودين في عرض البحار الواسعة، أو واقفين أمام زهرة صغيرة نابتة بجانب جدول من الماء، يسمعون رسالة عن الله تعجز كل فصاحة عن أن تأتي بمثلها. وهذه الأمور لا تستلزم صيرورة الإنسان نبياً أو شاعراً أو عالماً حتى يعرفها، بل تظهر لأبسط البسطاء - فإن كثيرين من العاميين نظروا إلى أعمال الخَلْق بكل احترام وتوقير، مؤمِّنين على قول من قال: «إن الأرض مشحونة من بركات السماء، وكل علَّيقة مشتعلة بالله». فيجب أن نعيش ونحن مفتكرون على الدوام أن كل العالم الحاضر هو مرآة شفافة ينعكس عليها نور ما هو أبدي، ويُنظَر فيها العالم الغير المنظور، ومنها يُعرف الله الذي نؤمن به ولكننا لا ننظره بعيوننا الجسدية.

وجه الله

ألا يوجد لنا دليل يا ترى عن مظهر الطبيعة المقدس هذا في القرآن؟ أي ألا يوجد فيه هذا الفكر بخصوص إظهار الله نفسه دائماً وفي كل مكان؟

يصادق أغلب العلماء على أن فكر المسلم الصحيح المعتقَد عن الله تعالى قد اقتبس من أقوال أهل الفقه أجيالاً متتابعة، الذين حللوا وبحثوا كل مسألة ليبرهنوا تعليماً عقيماً عن الوحدة الإلهية. أما محمد نفسه فمن المحقق أنه كانت له أميال وأشواق باطنية، لأننا نراه كلما تطلَّع الى الطبيعة كان يتأثر كمال التأثر من الفكر عن ذات الله كما هو معلن في الخليقة، وقد حصره ذلك الفكر وعبّر عنه مراراً كثيرة في قوله: «وَلِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ» (سورة البقرة 2: 115). ويقول العلامة مكدونالد: إن هذا الفكر استولى على ذهن النبي العربي حتى كان يرجع إليه من حين لآخر. وانكبَّ المسلمون المتأخرون على هذا الفكر لأنهم وجدوا فيه كل أسرار الحياة المؤثرة في الإحساسات والعواطف، أي الحياة الباطنية.

هذا الفكر العميق عن الله، الذي كثيراً ما يسلب الألباب، هو حقيقي بلا شك، و هو موجد الرهبة في الإنسان ومنشىء الميل للتعبُّد. بل هذا الفكر يتقوَّى تقوية عظمى بالنسبة لازدياد نقاوة الحياة، ولازدياد الميل لكشف الحقيقة الروحية. لكن يجب الاحتراس الكلي لئلا يحلّ الانصباب إلى الرمز والمِثال محل عبادة الله الحقيقية. وهذا ليس ببعيد، لأننا نعرف أن بعض الشعوب «الهندوأوربية» إذ تطلعوا إلى السَّحَر والشمس والرياح والرعود والبروق، تأثروا من القوات والمفاعيل الهائلة الظاهرة فيها. ولكنهم لم يكتفوا بالتفكر في مغزاها الرمزي فقط، بل قلبوها إلى آلهة وعبدوا كلاً منها كإله مقتدر. وبهذه الكيفية نشأ مذهب تعدد الآلهة. أما المسيحية فتشدد كل التشديد في القول: إنه وإن يكن الكون مملوءاً من الرموز الدالة على وجود العزة الإلهية فيه، لكن الله جل جلاله يفوق جداً ويسمو بلا حد عن تلك المظاهر العالمية أكثر مما تسمو الروح الخالدة عن الجسد الفاني.

الخلود في القلب

وتوجد غلطة أخرى يجب أن نحترس منها، وهي ما يفتكره البعض من أنه لكون الله حاضراً في كل مكان وحالاً في كل شيء، لذلك كان ينبغي أن يأتي بملئه الإلهي المجيد إلى الإنسان قسراً، بينما الإنسان يبقى في حالة الجمود. فمن الأمور المدهشة أننا نرى خلايا أجسامنا وخلايا أجسام الحيوانات وخلايا النباتات جميعها تعمل بقوة محرِّكة داخلية، بموجب نواميس الطبيعة التي تدل على حكمة الله الذي سنَّها ونظمها. ومع ذلك نرى أن الإنسان لا يعمل بتلك القوة. فكأن الإنسان ليس له إرادة ذاتية. وكثيراً ما يهزأ بأوامر الله القدوسة، بل كثيراً ما تنحرف إرادته وراء الشر، ويضاد إرادة خالقه ويعاكسها، فيؤخّر نموّ حياة الله ومحبته في النفس.

لا ريب أن الله حاضر في كل مكان، لكن لا تستطيع النفس أن تتحقق ملء حضوره تعالى إلا لما تتفق إرادتنا مع إرادته بالتسليم والإذعان، وهذا ما يُعرف بالتغيير الأخلاقي (التجديد) لذلك يحثّنا كتاب الله أن نختار لأنفسنا ما يجعلنا في صلة حية مع الله، ولا يحث الكتاب عن هذا الأمر مجرد حث، ولكنه يوضح المسألة ويبيّن أن الإنسان يحتاج إلى مجيء روح الله القدوس الى النفس ليعينها على تسليم ذاتها لله تعالى، لأن موارد القوة في الحياة الطبيعية ناقصة وغير كافية لإيجاد تلك الحالة المناسبة المرضيَّة لله سبحانه.

ولذلك تجدون أن سيدنا المسيح أوضح المسألة بالقول: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا 14: 23). ففي هذه الكلمات القليلة نرى الكيفية التي بها يتم ما يتلهَّف له قلب الإنسان وتطمح إليه نفسه، وهو سكنى الله في نفسه، فإن سُكنى الله في القلب لها أساسات أخلاقية لا بد منها، كالمحبة والخضوع والتسليم والإذعان، ووجود الرابطة معه تعالى. وسنذكر في ما يلي عن تحقُّق وجود الله في قلب الإنسان.

إننا نحتاج في هذه الأيام إلى دعوة الناس بغيرة ومحبة ليعرفوا الحقائق التي تُشبع النفس شبعاً حقيقياً وتُغنيها بذلك الغنى الدائم، فإن الجميع مفتقرون لأن يعرفوا أن السبب في ظلمة بصيرة النفس وعماها هو حجُب ظلام الخطية، لأن الخطية هي التي فصلت النفس عن الله. فمن أراد الحصول على رؤية الله رؤية جديدة وكاملة عليه أن يسعى في إزالة تلك الحجُب. وعيشة التصوُّف الحقيقي لا تحيا بل لا تتقوى إلا بإزالة تلك الحجب. أقول التصوف الحقيقي لأننا لا نصادق على أعمال الطيش والجهالة التي أُدخلت على التصوّف بسبب الإفراط في الزُّهد وكثرة الافتنان المدهش. ولكننا نعتقد أن الأُنس الصحيح مع الله تعالى هو أمر جوهري للحصول على الرجولة الدينية الصحيحة. وكل من يطهر نفسه كما أن الله طاهر يمكنه الحصول على هذا الأنس. ألا ترون أن عدم الرضى وعدم القناعة موجودان في كل مكان. ولماذا ذلك، إلا لأن النفس لا يمكن أن تشبع إلا بالله، ولا تقتنع إلا به سبحانه المريد في المجيء الينا بالمحبة الفائقة، وفي أن يملأ فراغ حياتنا إن كنا مستعدين أن نقبله، وهو وحده المرفأ الأمين، الذي متى رَسوْنا عليه نكون في تمام الراحة والسرور، وهو سبحانه الذي أوجد الشعور بالخلود في قلوبنا.

أَوَلا ترون أن البشر جميعاً سُبُوا بعيداً عن الله، ويتمنون لو أنهم يرجعون اليه تعالى مرة أخرى! ولكنهم لا يقدرون من أنفسهم أن يعرفوا الطريق للرجوع. إن اوغسطينوس عالِم أفريقيا الشمالية الشهير صلى صلاة يجب على كل قلب أن يخصصها لذاته وهي: «اللهمّ، لقد خلقتنا لذاتك، ولن تجد نفوسنا راحةً إلا إذا استراحت فيك!».

الفصل الثاني: الباطنية الإسلامية

(الصوفية)

التصوف هو الطريقة التي بها يحصل الإنسان على رؤية الله، وأخيراً على الاتحاد به. وسموّ الأفكار الصوفية وحاسيات التعبد فيها مما لا شك فيه، وما يستحق المديح فيها كونها تتطلب النفس وتدريبها، واستقامة الإنسان استقامة أخلاقية. وتاريخ الصوفية مفيد دائماً للباحث عن تقدّم الإسلام. وأخلاقياتها تفوق كل أخلاقيات الإسلام من جهة خشوعها وتأثيرها الديني.

والآن، لماذا وُجدت الصوفية واستمرت إلى الآن؟

قال ابن خلدون المؤرخ الشهير في مقدمته عن علم التصوّف (ص 476): «هذا العلم من العلوم الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع الى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يُقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخَلْق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المُقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة».

فيتضح أن سيادة الروح العالمية وتسلّطها على الكثيرين كانت إحدى البواعث القوية لتأسيس الصوفية ونموها وجعلها نظام العيشة الدينية. والنجاح الغريب الذي أصاب جيوش الأربعة الخلفاء الأولين يجعل الانسان ينتظر حدوث انصباب عام نحو الأمور العالمية بين عدد غفير من المؤمنين، بينما لا يخلو الحال من وجود آخرين تشمئزّ نفوسهم من الدسائس السياسية ومن ميول الجيوش المنتصرة لغُنْم الغنائم. أما الأشخاص الأكثر تعبداً فيشدّدون كثيراً على أهمية العيشة الروحية العميقة، حتى أن في تلك الأيام قد طنطن الناس كثيراً في بعض الكلمات المستعملة بين الصوفية في بحثهم عن سر الاختبار الروحي الداخلي، من مثل الشريعة، والحب، والاتصال، والاتحاد. وهذا دليل على سعيهم لمعرفة مركز الدائرة، أو بعبارة أخرى محرّك الكائنات.

مؤثرات أخرى

لكن بينما يجد الصوفي أصل نظامه في الإسلام نفسه (كما يقول ابن خلدون) إلا أننا إذا اقتفينا أصله جيداً نجد أن تحسين ذلك النظام وانتشاره لا يرجع إلى الإسلام البتة، إذ يقول أقدر عالم أوروبي في آداب اللغة العربية، إن الآراء الصوفية في الغرب يرجع أصلها إلى زُهد المسيحيين ونُسكهم. أما التصوف الشرقي فمن أقاليم الفرس والهند. وظاهر أن أقدم مجموعة من المواعظ التصوفية وصلت إلينا مدينة للكتب المسيحية. أما وضع الألفاظ والمصطلحات النُّسكية فيرجع أصله إلى الهند.

ويقول أحد العلماء الأوروبيين المتضلع في آداب اللغة الفارسية: «إن رأي الصوفية بخصوص فناء نفس الفرد واتصاله بكائن الكائنات، هو من أصل هندي. وإن نذر الصمت والذكر وغيرهما من أعمال الزهد يرجع أصله إلى تعاليم المسيحيين عن النسك في ذلك العصر. حتى ذات الاسم «صوفي» مأخوذ من أصل مسيحي، لأنه أُطلق على أولئك الذين تقلدوا بالنساك المسيحيين في لبس الصوف الخشن كعلامة لرفضهم الأباطيل العالمية، وتكريس حياتهم للتأمل في إنعام العزة الإلهية».

تحديد التصوف

ولا يمكننا في هذا المقام أن نذكر عن التصوف بهيئة مطولة، ولكنا نريد أن نقدّر قيمة هذا النظام من حيث كونه أسلوباً لتثقيف النفس وغِناها بالفضائل، فنقول: إن أقدم تحديد للتصوف الباقي ليومنا هذا هو - إدراك الحقيقة الإلهية - ومنذ وضع هذا التحديد زاد وضع التحديدات بمقدار ازدياد الاختبار. فقد كتب الغزالي ما معناه: «إن مبدأ التصوف هو تسوُّر النفس على مرتقى وعر المسلك، وانتقالها من أخلاقها المرذولة وصفاتها الملومة إلى أن يصل الإنسان إلى توحيد فكره بالله، وإلى تزيين العقل بالتفكر الدائم وبُطْله، بل هو إغماض العين عن كل ما هو ناقص وباطل، والتأمل الكلي في ذاك الكامل المنزَّه عن كل نقص».

إن الطريقة التي تجعل الإنسان يقر بنواله اقتراباً حبياً مخلصاً لله أكثر مما بالشريعة الغراء وفروض العبادة الإسلامية، هي طريقة التصوّف الديني. على أن الكثيرين يعتقدون أن عقائد الاسلام وفروضه يجب أن تبقى أبداً قاعدة الإيمان. مع أن الغزالي الذي نقدر أن نقول عنه إنه حاز درجة مشهورة من التصوف بين المسلمين، يقول بكل تشديد: إنه لا يمكن وجود تصوف حقيقي خلواً من الديانة المعلنة (الموحى بها) فيجب أن يوجد أساس تاريخي لإيمان الإنسان ولمعرفة إرادة الله، ولا يوجد شيء مقبول لدى الصوفي مما هو مخالف للوحي الالهي - ويؤكد أنه لا يستطيع أحد بالتصوف أن يستغني عن الدين الموحى به، أو يُعفى عن الواجبات المفروضة في ذلك الدين. واقتبس حديثاً رُوي ما معناه: «إن جهنم مملوءة من الفقراء الذين لما ضلوا عن حق الدين المنزل قد حطموا سفينة إيمانهم تحطيماً».

هل الإعلان الباطني ممكن؟

ما دام محمد بيَّن بكل وضوح أن القرآن هو آخر الوحي بحيث لا يُوحى لأحد بعده، فكيف يمكن لأي إنسان أن ينال وحياً جديداً عن الحق، ويتحادث مع الله رأساً كما يقول الصوفي؟

وما دام محمد شعر و أقرَّ أيضاً أنه هو وكل أتباعه منتسبون لله نسبة العبيد للسلطان، ولا يمكن لأحد أن يقترب لله كاقتراب الابن لأبيه المحب، فكيف يضاد المسلمون هذه الأقوال على خط مستقيم، ويقولون بإمكانية اقتراب الله إلى الإنسان، بل بسكناه تعالى في القلب؟

فمن هنا نلاحظ أن كثيراً ما تكون الأمور البديهية لدى قلب الإنسان أصدق من آراء عقله وأفكاره - فإن محمداً كانت له أحياناً ميول تصوفية صادقة، وعرف أن الله تعالى بعيد عن الإنسان وقريب منه، وأنه سيد الإنسان والمتسلط عليه للدرجة القصوى، وفي الوقت نفسه هو صديق الإنسان القريب إلى نفسه قربى عظمى.

و يقتبس الصوفيون أقوالاً من القرآن نفسه يرونها كافية لأن تبرهن على صدق عقيدتهم. فلإثبات الرؤية الداخلية بالإلهام الإلهي مباشرة يقتبسون قوله «عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» (سورة الكهف 18: 65) ويقولون إن العلم المُشار إليه هنا يأتي إلى بصيرة الإنسان الروحية كإلهام من الرب رأساً. ويقتبسون أيضاً قوله: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» (سورة البقرة 2: 186) وقوله: «ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» (سورة الرعد 13: 28 و29). لكن أهم شاهد عندهم هو قوله: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ» (سورة ق 50: 16).

ثم أن الصوفيين يدَّعون بإلهامات كثيرة تنتسب إلى الأحلام واختبارات الغيبوبة، ويثبتون ذلك من أقوال محمد نفسه حيث قال: «إن الحلم هو جزء من 46 جزء من النبوة». ويقول العلامة مكدونالد موضحاً فكر الإسلام عن إلهامات الأحلام: «إن النفس العاقلة لها بطبيعتها قوة الإدراك التامة بالعالم الروحي، ويمكن أن يختبر ذلك أثناء نوم الجسد وحواسه، ولكن ما يشعر به الإنسان بهذه الكيفية هو مجرد ظنون تردّها تلك القوة للجسد بواسطة حواسه الداخلية، ثم يتسلمها التصوّر ويزينها بصور معلومة من مخازن الذاكرة، وتلك الصور لائقة لتمثيلها».

أسلوب الطريقة الصوفية

أما من جهة التدرج الروحي في التصوف فتوجد بعض كلمات خاصة في أفواه المسلمين الذين لهم الميول التصوفية، وهي هذه الأسماء الأربعة المقفاة: الشريعة، والطريقة، والمعرفة، والحقيقة. وهذه الأسماء دالة على درجات المقامات الصوفية التي تتدرج إليها، وذات معان واضحة لدى الصوفي والدرويش. كما أن الألفاظ تطهيري، وتنويري، وتوحيدي، لها معان واضحة عند الباطنيين من المسيحيين، لأنها تدلّ على تطوراتهم الداخلية من التنوّر بالله، إلى محبته، إلى الاتحاد به تعالى.

فالشخص الذي يدخل في الطريقة يعتبر نفسه سالكاً أي سائحاً، ويعزم أن يتنقل في سلسلة مقامات أو درجات تؤدي به أخيراً إلى غرضه المقصود، وهو الاندماج الكلي في الله. ولدى كثيرين من الصوفيين هذه الغاية أو الغرض يعني، الفناء، أي فناء أثر الطبيعة الإنسانية لظهور الطبيعة الإلهية التي يندمج فيها.

وهذه المقامات أو التطورات هي في الحقيقة هيئات متنوعة لحياة أسمى يحصل عليها الإنسان بواسطة التدرّب على التعبد والزهد. ولا نقدر أن نرتب هذه المقامات ترتيباً منظماً بسبب اختلاف رؤساء الطرق المتنوعة في ترتيبها. فدراويش الطريقة النقشبندية مثلاً يجعلونها أربعة مقامات، بينما الرفاعية وغيرهم يجعلونها سبعة أو ثمانية.

الفصل الثالث: مقامات أو درجات الطريقة

اشتهرت المسيحية بكثرة النفوس المتعبِّدة الذين عاشوا بكل رهبة وزُهد واختبروا الألفة الروحية وتمتعوا بها. وقد زاد عدد هؤلاء النفوس كثيراً في العالم اليوم بين كل الطبقات. وهذه الزيادة بعضها بين قادة العالم، وبعضها بين العمال. ولهم سلام ظاهر وواضح في نفوسهم، وشركتهم مع الله يقينية كشركتهم مع والديهم وزوجاتهم وأولادهم وأصدقائهم. وهم لا يتصوَّرون أنهم أهل الباطن، ولا يسيرون وراء انفعالات الطرق الباطنية التصنُّعية، بل هم في الحقيقة متعبّدون تعبداً عملياً، وذوو حماس وغيرة على إخوانهم وأقرانهم، حتى أنهم يكرهون إطلاق اسم الباطنيين عليهم، بسبب الأفكار السقيمة الكثيرة التي امتزجت بالأنظمة الباطنية. وقال واحد منهم: «من أراد أن يصير مسيحياً، يلزمه أن يكون صادقاً مخلصاً. أما من أراد أن يصير مسيحياً من الطبقة الأولى فيلزمه أن يكون باطنياً».

وقد نظم بعض المسيحيين أفكارهم الباطنية ورتبوها كما عمل الصوفيون والدراويش، فحدّدوا لأنفسهم غرضاً لا بد من الوصول إليه، هو اتحاد النفس اتحاداً تاماً بالله، وعملوا لأنفسهم جدولاً بيَّنوا فيه خطة تدرُّجهم ونموّهم نحو ذلك الغرض. وهم يعرفون جيداً أنه لا بد من وجود أمور كثيرة في الدين لا يستطيع العقل أن يسبر غورها، بل يجب أن تُعرف بالقلب فقط، ويدرسون يومياً عن المحبة الإلهية بواسطة اختبارات النفس العميقة واللذيذة. فالديانة لمثل هؤلاء هي اختبار الشركة مع الله وتوطيد الرابطة معه تعالى.

تغيير الحالة

السالك الذي يشرع في الطريقة الصوفية ميمماً وجهه شطر الحق، يجب أن يكون قد اختبر الاهتداء إلى الله فيُعْرِض عن عيشته الماضية، عيشة الفساد ومحبة الذات. وهذا الاهتداء ينشأ عن استيقاظ النفس، الذي ينشىء تغيير المظاهر. وحينئذ تتطلع النفس إلى حياة أخرى غير مُدرَكة، حياة مجد فائق واستطاعة غير محدودة، وتتملكها محبة المنظر المنتشر أمامها.

ولم توجد حياة دينية أدركت منتهى الآمال بدون أن تكون قد مرَّت في أطوار العزم، فالتصميم، فالإذعان، فالتسليم.

ومعلوم أن «التجديد» غير منحصر عند الصوفية فقط، بل يُسمَّى عند الطوائف بأسماء مختلفة. فالصوفية يسمونها «التغيير» وإنجيل المسيحيين يسميها «التغيير أو التجديد أو الولادة الثانية». أما الغزالي فقال عنها: «إيقاظ النائم» ومرة أخرى سماها «الإنقاذ من الضلال» وهذا هو سبب تسمية كتابه بهذا الاسم.

نعم هو تغيير، يمكن أن يكون عقلياً أو أخلاقياً أو حسّياً، ولكن هو رجوع الى الله من جديد. فإن كان ذلك التغيير حقيقياً فيكون عبارة عن تضييق كلي في عيشة الإنسان، كما حصل في عيشة رابندرانات طاغور الهندي، الذي بينما كان ماشياً في أحد شوارع كلكتا صار في إحساس جديد فقال: «لقد زال البرقع ورأيت كل شيء جلياً، فصار العالم كأنه آلة موسيقية مرتبطة الأجزاء، وأنشودة عجيبة مرتبطة الأوزان». (وطاغور هو أمير شعراء الهند، وأشعاره مملوءة من الحاسيات التقَوية المؤثرة، حتى استعمل المسيحيون بعض قصائده للتسبيح في العبادة).

وكذلك يخبرنا الغزالي في أحد مؤلفاته عن كيفية تغييره، ويقول إنه كان يسيراً حثيثاً نحو الله بكل تأن وحذر. وأول ما حصل فيه هو الخوف من إغاظته تعالى، ثم الرغبة في المصالحة معه، ثم تغيير في حالته، ثم التوبة، ثم الجهاد داخل النفس بين الطبيعة الدنيئة والطبيعة السامية، ثم التسليم، فالإذعان، ثم تنبُّه حاسيات المحبة لله.

فاختبارات الغزالي هذه على نفس اختبارات كثيرين من الصوفية وكثيرين من المسيحيين. وتغيير كهذا أمر جوهري.

ويقول الغزالي أيضاً إن كل المسلمين يؤمِّنون على أن رؤية الله هي منتهى الغبطة والهناء الإنساني، لأن هذا مقرر في الشريعة. ولكن كثيرين يتلفظون بذلك بمجرد الشفاه بدون أقل تأثير في قلوبهم، وهذا أمر طبيعي، لأنه كيف يستطيع إنسان أن يشتاق إلى شيء ليس له أقل إلمام به؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يشتاق ويرغب في الأمور الروحية إن لم تتنبَّه النفس إلى جمال تلك الأمور وبهائها. لذلك وجب أن تنتعش الحاسيات الروحية وتتجدد.

ويعلّق الصوفي أهمية عظمى على إحدى القواعد الأساسية للديانة الصحيحة عندما يسلّم بحاجة نفسه إلى معرفة عدم استحقاقها في نظر الله، واحتياجها إلى التوبة. ومعلوم أن هذا أمر جوهري أيضاً في المسيحية.

التوبة

ما هي التوبة؟

يقول أحد أساتذة اللغة الفارسية في جامعة كمبردج إن التوبة بحسب ما هو مفهوم عند الصوفية هي: «استيقاظ النفس من سبات عدم المبالاة، حتى يدري الخاطىء بطرقه الشريرة ويشعر بندامة كلية عن خطاياه السالفة. ومع ذلك لا يُعدُّ تائباً بالحقيقة إن لم يهجر خطاياه المعروفة عنده هجراً تاماً وسريعاً، ويعزم عزماً ثابتاً على عدم الرجوع إليها في المستقبل. وإذا حصل ولم يحافظ على نذره بالتوبة فيجب أن يرجع ثانياً إلى الله الذي لا حدَّ لرحمته. فقد تاب الى الله أحد الصوفيين المعروفين سبعين مرة قبلما يتوب التوبة التامة. وعلى المتغير أيضاً أن يُرضي جميع الذين سبق وأساء إليهم، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً».

وهذا الفكر سامٍ عن التوبة، والمسيحية أيضاً تبين ضرورة توبة النفس إلى الله، قبلما تدخل في طريق المحبة والحياة والقداسة. ولا يوجد كتاب مثل الكتاب المقدس يحتوي أخبار أناس رجعوا الى الله بقلب منسحق وتوبة عميقة. وسفر المزامير على نوع خاص يضرب على هذه النغمة، ويحتوي على مزامير كثيرة تُسمَّى مزامير التوبة، فإنه بعد سقوط داود في خطيته المحزنة نطق بأحد تلك المزامير، وصلى صلاة خشوعية لله فقال: «اِرْحَمْنِي يَا اَللّٰهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ ٱمْحُ مَعَاصِيَّ. ٱغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِماً. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ... قَلْباً نَقِيّاً ٱخْلُقْ فِيَّ يَا اَللّٰهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي. لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي. رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ ... ذَبَائِحُ ٱللّٰهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا اَللّٰهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ» (مزمور 51: 1 - 4و10 - 12و17).

فيوجد في هذه الصلاة ليس مجرد تعبير عن حاسيات التوبة والندامة، بل ما هو أكثر من ذلك كثيراً، فإن فيها التمسُّك بأذيال الله تمسكاً قوياً وبكلتا اليدين، وفيها الاشتياق لاستبقاء الحضرة الإلهية داخل النفس، لأنه تعالى هو وحده القادر أن يخلق القلب الطاهر، ويردّ للنفس بهجة الخلاص ومغفرة الخطايا.

قمع النفس

يتقدم الصوفي خطوة أخرى لما يشدد على حاجة الإنسان إلى نبذ الخطية ورفضها، فيقبل السالك الفقر ليفرز نفسه عن العالم ويسلم ذاته للتأمل والتروي، ويُسرّ لما يُلقَّب «بالفقير» و«الدرويش» أي المتسول، ويرضى كل الرضى لما يؤون له الأوان للبس القفطان المرقع شعار الأولياء الذي يُحسد عليه.

ويوجد في التصوف المسيحي تقشُّفات مثل هذه، مع أنها تختلف عن التصوف الإسلامي. ويمكن أن يُستغنى عن التصوف لأن المسيحية تدافع عن صراحة النفس أكثر مما عن قمع النفس، وهذا ما يميز المسيحية عن الصوفية، لأن الرأي المسيحي هو أن نموذج الإنسان الكامل لا يقتضي إبادة شخصية الإنسان ومحو آثارها، بل ترقيتها الى أعلى درجاتها، وأنها تستطيع أن تتمتع بملء بركات الله ذاته. ولم يمتدح سيدنا يسوع المسيح الزهد والتقشف ولم يصادق عليهما، لأنه لم يُردْ أن يبتعد الانسان عن عيشته العمرانية وأشغاله الاعتيادية، بل أراد أن أتباعه يكونون «ملحاً للأرض ونوراً للعالم». وأن يحفظ شعبه من الشرير بينما يكونون في العالم. وصلى لأجلهم بهذا الخصوص (يوحنا 17).

زد على ذلك أن ربنا له المجد لم يمتدح الاستجداء والتسول. وربما يتفق كلامه مع كلام الصوفية القائل إن رغبتك في تكويم الثروة تجعلك في ظلمة دائمة.

وقال له المجد: «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ!» (مرقس 10: 24). و «غُرُورُ ٱلْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ ٱلأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ ٱلْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ» (مرقس 4: 19). ولكن لا مانع مطلقاً أن يمتلك الإنسان ثروة على شرط أنه لا يبددها بالعيش المسرف، أو يخزنها ويسيّج حولها بسور من حديد لأغراض دنيئة. لأنه ما دام كوكيل الله فيجب أن يستعملها للنفع في امتداد ملكوت الحق والبر.

ويقول الشيخ السعدي صاحب كتاب الجولستان: «ليست القداسة تغيير الملبوس، لأنه ما الفائدة من القفطان الخشن والسبحة والرداء المرقع؟ إنما الفائدة في الامتناع عن الأعمال الشريرة التي تنجسك. كن مجتهداً في مهنتك، والبس أي لباس تريد. كن درويشاً في أعمالك، وإن شئت البس الأطلس والديباج وتاج الأمراء».

ويقول القديس أوغسطينوس في تفسيره المثل الذي قاله المسيح عن لعازر والغني في لوقا 16: 19 - 31 إن الذي أدخل لعازر إلى السماء ليس فقره بل تقواه، ولما دخل السماء وجد حضن إبراهيم الغني ليرتاح فيه.

المساكين بالروح

لم يمدح سيدنا يسوع المسيح سوى نوع واحد من الفقراء، فقال: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 3). فهذا التطويب ليس لأصحاب الممتلكات الأرضية الزهيدة ولا للذين يتركون العالم ويعيشون عيشة العزلة والانفراد، بل للعارفين بعجزهم الروحي والأخلاقي، فيُطوَّبون لأن عيونهم انفتحت، فأمكنهم أن يروا قلوبهم المظلمة في نور الله، وأن يروا شرهم في قداسته، وفقرهم في ملء غناه جل شأنه. والنفس التي تصير في هذه الحالة لا بد أن تتقدم وتزداد في معرفة الله.

يشعر المساكين بالروح، لتواضعهم ووداعتهم، أنهم وإن كانوا بالكدّ قد خطوا عتبة المعرفة والقوة الروحيتين، إلا أنهم بالاعتماد على نعمة الله ونوالهم من ملئه تعالى يتأكدون أنهم لا بد ناجحون. والفقر بهذا المعنى يجلب الغنى التام ويؤدي إلى الباب.

قال المسيح: «هَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ» (لوقا 17: 21). فالمسكين بالروح، إذ يغضّ الطرف عن شخصه وينظر إلى جمال الله، وإن كانت أشواقه وجهاده ضعيفة، يشعر أن ملكوت السموات ينمو داخله بسبب سكنى روح الله القدوس فيه.

إنكار الذات

أفلا يوجد «رفض الأشياء» في المسيحية مطلقاً؟ نعم، يوجد بلا شك! توجد أمور كثيرة يجب أن ننبذها ونرفضها لأنها تؤخِّر نجاح الحياة الداخلية. وكثيرون من المسيحيين مدعوون ليختاروا: إما لذَّات العالم أو إنكار النفس لأجل المسيح.

نعم إن المسيح طلب من تابعيه إنكار ذواتهم، وقد عمل هذا المقياس الصعب ليختبر به حالة الذين يتبعونه فيقول: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متى 16: 24). ويقول أيضاً: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لوقا 14: 26). «مَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى 10: 39). فقول المسيح عن بغضة الإنسان لأقربائه يظهر لأول وهلة أنه جفاء وعدم شفقة، لكن السامعين فهموا المقصود منه، وهو أنه إذا تكلم عن أمر جوهري نظير التتلمُذ له، كان لا بد أن يستعمل هذه العبارات الشديدة، فهو لا يريد التساهل. إما أن يفضل الإنسان المسيح ومحبته عند الضرورة عن كل أقربائه وأصدقائه، أو أن يفضلهم عليه. نعم إن هذا الامتحان لا يقع على كل واحد على حد سواء. لكن لما يقع على إنسان ويظهر الخضوع التام وإنكار الذات بدون فكر عن ثواب أو استحقاق، فحينئذ يُكافأ بحياة سعيدة، ويتقدم نحو هذه الحياة السعيدة، ويصبح إنكار الذات أمراً هيناً لا يُعبأ به.

نقاوة القلب

فإذا وصلنا إلى هذه النقطة صار من الضروري أن نقول إن التشديد موضوع على نقاوة القلب، سواء في الصوفية أو المسيحية، لأن عدم نقاوة القلب يعمي البصيرة. فيقول الغزالي في تحديد عقائد الصوفية: «إن تنظيف القلب من كل ما لا يخصّ الله تعالى هو أول خطوة يخطوها الإنسان نحو الطهارة». ويقول المسيح: «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ» (متى 5: 8). فهذه المعاينة تبتدىء هنا، وتكمل في الحياة العتيدة. أما المعلمون الدينيون في أيام المسيح فقد علَّموا عن حاجة الإنسان إلى الغسلات الطقسية لطهارة الجسد بحسب ناموس موسى، وميّزوا كثيراً بين الأمور الطاهرة والأمور النجسة. لكن المسيح علّم أن الأكل بأيد غير مغسولة - أي عدم إتمام تلك الطقوس الجسدية - لا ينجّس الانسان، وكل ما يدخل الفم لا ينجس الانسان، بل كل ما يخرج من الفم. وهذا الكلام لم يكن مفهوماً عند الذين سمعوه، ولذلك فسر لهم معناه بقوله: «لأَنْ مِنَ ٱلْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ. هٰذِهِ هِيَ ٱلَّتِي تُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ. وَأَمَّا ٱلأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فَلاَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ» (متى 15: 19 و20).

فتعريف المسيح للنجاسة هو التعريف الصحيح، وكل إنسان يحتاج إلى قوة مطهرة للقلب، لأن النقي القلب يقدر أن يرى ويعرف من أسرار الديانة الصحيحة ما لا يقدر النجس أن يراه. ويقول توما الكمبيسي: «إذا أردْتَ أن تذوق وتعرف مقدار طيبة الرب، فيجب أن تكون بسيطاً مخلصاً، ولك قلب طاهر أمام الله».

الإرادة المزدوجة

إن المأساة التي تصيب أغلب الناس لما يوجّهون وجوههم نحو الله هي الشعور بالعجز الكلي وباليأس في أعمالهم، فيكابدون هذه المأساة بسبب قصور الإرادة. أما الرغبة لِمَا هو أسمى فهي ضعيفة عن أن تتغلب على الرغبة لما هو أدنى، فنجد أن بولس الرسول في أحد أدوار عيشته كان منحصراً بالروح وصرخ قائلاً: «وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هٰذَا ٱلْمَوْتِ؟» (رومية 7: 24). وكذلك القديس أوغسطينوس الذي صار أحد أقطاب الكنيسة المسيحية اختبر هذا الاختبار نفسه، ويعبر عنه بقوله: لما يحل على الانسان نوم عميق يؤجل التخلُّص منه، وإن كان لا يستصوبه لكنه يستسلم له، فإني كنت متيقناً أن الإذعان لمحبتك يا الله خير لي من الاستسلام لشهواتي، وإن كان الفكر الأول أقنعني، لكن الفكر الثاني لذَّ لي ورجَّعني. ولم يوجد فيَّ شيء ليجيب دعوتك لي، فمن ثمَّ قلتُ لنفسي: «استيقظ أيها النائم». إنما قلت هذا القول بكل فتور، ثم قلت: «استيقظ الآن».. «استيقظ سريعاً». فكان فكري يقول لي: انتظر قليلاً. لا تستعجل. ولم أشعر إلا والعبارة «انتظر قليلاً» قد قويت لأني لما كنت أقول: استيقظ أيها النائم الآن، كنت أخاف لئلا يستمع الله لي ويستجيب طلبتي ويشفيني حالاً من ميلي للشهوة التي رغبتُ في أن أمتلىء منها حتى أفعم ولا تُمحق أو تنطفىء.

ويقول رابندرانات طاغور: «إن العناد وصلابة الرأي هما أشبه بقيود متينة، ولكن إذا تفكرتُ في تكسيرها يتوجّع قلبي في داخلي، وليس لي عزم لأن أنزع تلك الأنسجة المزركشة التي تهيئها لي الشهوة وتملأ بها عواطفي، لأني مكفَّن بكفن التراب والموت. نعم أنا أمقت هذه الحالة، لكني أحبها وأضمها إلى صدري معانقاً إياها. نعم إن ديوني ثقيلة وإفلاسي كلي وعاري خفي وثقيل جداً، وإذا قصدتُ أن أطلب من الله ما هو نافع لي أخاف لئلا تُستجاب صلواتي».

وكذلك ترنَّح الغزالي في الطريق نفسها، لما بيّن له ضميره السبيل الذي يجب أن يسير فيه، فقال: «إنني في الصباح كنت أقصد بكل عزم أن أشغل نفسي في الحياة العتيدة فقط، وما أشعر إلا وفي المساء أجد أن أفكاراً جسدية كثيرة هجمت عليّ وبددت عزمي».

فاختبار هؤلاء أشبه باختبار بولس الرسول الذي قال مرة: «لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ» (رومية 7: 15).

النفس المستعبدة

لماذا نتألم بهذا المقدار من هذه الإرادة المزدوجة؟ لنا ميل لعمل الحسنى، ولكن يوجد شيء يمنع النفس من التحليق في الجو الذي فيه حياتها، ويوجد ثقل على أجنحتها يسحبها إلى الأرض، لأن النفس الحقيقية مستعبدة للنفس الساقطة. ويوجد في كل منا نفس شهوانية دقيقة تضغط على النفس السامية الحقيقية، فقد كان المقصود أن النفس السامية تكون هي المتسلطة، أما الدنيئة فهي الخاضعة. لكن قد صار الحال بالعكس، مع أن أشواق الإنسان وحاسياته العميقة وأمياله الدائمة تأبى الأسر والعبودية. فيعرف المسلمون ما هو الشيء الذي يقيّد بهذه القيود ويكبل بهذه السلاسل، فهم يعرفون العناصر المتنازعة والمتناطحة في داخلهم، ويسمّون المقلق الجسدي الذي يستأسرهم باسم «النفس» فهي مركز الشهوات والغرور، وهي معادلة لكلمة «جسد» المستعملة في الإنجيل عن الطبيعة الساقطة التي جعلت الإرداة تنحرف انحرافاً رديئاً. وتتسع المسافة بين نفس الإنسان والله، أو تضيق بالنسبة لسيادة النفس أو عدمها. ويقول محمد: إن ألد أعدائك هو نفسك. وكم من المسلمين يا ترى يعرفون صحة هذا القول؟ فلقد شبّهوها في أمثالهم بثعلب وحيَّة، وافتكر الحلاّج أن نفسه سعَت وراءه ككلب. والفكر عند كل الصوفية أن النفس هي طبيعة دنيئة حقيرة نجسة تأسر الروح وتعرقلها عن النمو. وقولهم هذا يذكّرنا بقول تنيسون: «يظهر لي كأن وحشاً خفياً وضع يده القذرة والقوية على إرادتي ليحرفها نحو إرادته ويفسد عليّ سعادتي وهنائي في الوجود».

فنرى من ذلك أن القلب منفرج نحو طريقين، وله بابان، أحدهما في الجسد والآخر في الروح. أو كما يعبّر الرومي في قوله: هنا عالم وهناك عالم آخر، وأنا جالس على العتبة بين الاثنين.

فأمامنا سؤال يجب على جميعنا أن نجاوب عليه وهو:

هل يا ترى تسقط النفس إلى منزلة البهيمية، أي عالم الجسد؟ أو تسمو إلى عالم الروح؟ هل تركن إلى باب مغلق أم تلج الباب المفتوح؟

قد قال محمد بعد رجوعه من أحد حروبه: «قد عدنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر». قالوا: وما هو الجهاد الأكبر؟ قال: «مجاهدة النفس». فكم من المسلمين اقتحموا هاتين الحقيقتين (أي وجود النفس والجهاد الداخلي اليومي) وهم يائسون من النصرة!

روح الله

إننا بكل محبة نحث الجميع أن يقرأوا بكل روية وانتباه ما يقوله الإنجيل بهذا الخصوص: أن في كل من يسلّم نفسه للمسيح وإلى تأثير الروح القدس توجد طبيعتان متباينتان، يُعبَّر عنهما بالخليقة القديمة والخليقة الجديدة. أو الإنسان الذي في الجسد والإنسان الذي في الروح، أو الإنسان الطبيعي والإنسان الروحي. وان الاعتقاد بهاتين الطبيعتين المتباينتين هو من المبادىء الأساسية.

ولقد بينّا في ما مرَّ أنه لا يوجد في الإنسان الطبيعي مصادر قادرة أن تُحدث فيه تغييراً أدبياً يحيي النفس حياة جديدة ويعطيها الشركة التامة مع الله. وليُعلم أن التوبة والتجديد أمران جوهريان في المسيحية، ولكن لا يمكن نوالهما إلا بعمل إلهي هو عمل روح الله المجدِّد لقلب الإنسان الذي نال الحياة الجديدة والمغيِّر له تغييراً حقيقياً في الأخلاق والآداب.

ولما نتأمل في ذلك ملياً نجد أن هذه ليست ديانة حقيقية فقط، بل أنها فريدة في تاريخ الديانات.

وأقرب تعبير في الصوفية لتوضيح ما قلنا هو ما ورد في حكاية رابعة العدوية الصوفية التي عاشت سنة 750 م، فسُئلت مرة: «إذا كنتُ أرجع لله بالتوبة أفهل يرجع إليّ برحمته؟» فكان جوابها: «لا، بل إذا تفضَّل سبحانه ورجع إليك فحينئذ ترجع أنت إليه».

يوجد عمل متبادل بين الله والإنسان، فإنه لما يأتي الروح القدس إلى النفس المستيقظة التائبة توجد فيها بداءة جديدة، أي خليقة جديدة وحالة جديدة تؤهّل الإنسان لوجود شركة جديدة مع الله تعالى.

وقد تسأل: بأية كيفية يأتي روح الله القدوس للإنسان؟

نقول إنه يأتي أحياناً كنفخة من الله كما تكلَّم المسيح عن عمل الروح القدس في ولادة النفس ولادة جديدة، إذ قال: «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ» (يوحنا 3: 8).

ويوجد في المسيحية اختبار آخر فريد في بابه، يوضحه الإنجيل بخصوص الحياة الجديدة، وهو أن النفس المتجددة تنال الشعور بغفران خطاياها المقترن بالسلام.

ولنوضح ذلك نقول: إنه لما يخالف الولد أمر والدته قد يتأكد حالاً أن مخالفته لها أغاظتها، وعندما يمتلىء شعوراً بخطئه يذهب إليها ويعترف لها بذنبه. ولكن كيف يقدر أن يعانق والدته ويرتمي في حضنها إلا لما يعرف أنها سامحته بذنبه. بل كيف تعود الأُلفة التامة بينه وبين والدته إلا لما يعاين ابتسامة محبتها ثانية؟

فهكذا يقول الإنجيل: «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (2كورنثوس 5: 19). فكل نفس تستيقظ وتؤمن بهذه الحقيقة وتقبل المسيح تنال اليقين المفرح بأن الله سامحها لأجل المسيح. وهذه هي بداءة دخول المسيحي في «الباب» أي أنه اختبار النفس لغفران الله، وهذا الاختبار هو مسحة مطِهّرة ومقدّسة، وهو دعوة إلهية من الظلمة إلى نور الله العجيب. وهذه الدعوة تمكنّ العلائق الحقيقية بين نفس الإنسان وبين الله، الأمر الذي يجعل سكناه في القلب أمراً ميسوراً.

الفصل الرابع: التقدم في طريق الكمال

لا نقدر أن نتقدم في فهم أسرار الصوفيين ما لم نعرف غرضهم الأصلي أولاً. فيقول العلامة نكلسن: «إن الوجود الصوفي هو الواسطة الوحيدة التي بها تستطيع النفس أن تشترك مع الله رأساً وتتحد به تعالى. وكل الأفكار الصوفية من مثل الزهد، والتطهير، والمحبة، والمعرفة، والتعبد هي مشتقَّة من هذا المبدأ الأساسي».

الوحدانية الالهية

ونشأ من هذا الفكر المتقدم تفسير جديد للتوحيد، ذلك الفكر السامي عن الوحدة الإلهية التي صارت موضوع إيمان المسلمين مدة أجيال كثيرة. فعند الصوفي صار معنى الوحدة سعادة الإنسان باندماجه في الله حتى تصير العبارة - لا إله إلا الله - لا موجود إلاّ الله، أو كما كتب أحد الصوفية قائلاً: «إن الكلمات أنا ونحن وأنت وهو، كلها شيء واحد، لأن لا تثنية ولا تعدّد في الوحدة».

يقول الصوفي إنه إذا أُزيلت تلك الحجب التي فصلته عن الحق سبحانه فلا يعسر عليه شيء. ولم يتحمل قط درويش هندوسي أو متعبد مسيحي عذاباً مؤلماً كما تحمَّل الصوفيون الهائمون للرؤيا الطوباوية، ولم يبالوا بالخجل ولم يعبأوا بالألم.

اسم الله

إن أهم طريقة مستعملة لإزالة حجُب الظلمة والانفصال عن الحق هي ذكر اسم الله جل شأنه. ويخبرنا العلامة عماد الدين، أحد علماء الشريعة الإسلامية الذي صار مسيحياً وعمل أعمالاً باهرة في البنجاب بتبشيره ومؤلَّفاته، يخبرنا أنه قبلما يصير مسيحياً، وفي أثناء بحثه وتفتيشه عن الحق عثر على كتاب وافٍ في التعاليم الصوفية، فانضم الى الطريقة الصوفية. واسمعوا ماذا يقول عن ذلك:

«فتعلقتُ بطريقة أهل الصوفية وعشتُ منفرداً لا آكل إلا قليلاً، ولا أتكلم إلا على قدر الحاجة. وتارة أصوم نهاراً كاملاً وتارة أسهر طول الليل، وأنا أقاهر شهوات النفس وأحيّي الليالي بتلاوة القرآن أو ذكر القصائد كمثل القصيدة الغوثية وأهل الكاف وحزب البحر وغيرهم من الأحزاب، وأصلي وأركع. فعند ذلك أنفرد بنفسي وأغمض عيني رجاء أن تنطبع في قلبي معرفة الله. وكنت أقصد أيضاً المقابر وأجلس على مقابر الأولياء والصالحين عسى أن أكتشف شيئاً ببركتهم. وكذلك أَجتمع بأهل الصوفية وأخالط من الفقراء والدراويش أوسخهم ثياباً وأشدهم جنوناً، وأصلي الصلوات الخمس كل يوم، وكذلك كنت أصلي في الليل وأذكر الشهادتين. لقد عملت كل ما يؤلم النفس ويعذّب الجسد طمعاً أن أتوصل بذلك إلى معرفة الله، غير أنني كلما بالغت في ذلك زدت تأسُّفاً وحيرة. ولكن من حيث أن الناس كانوا يحسبون من ظاهر حالي أني من الصالحين أعطوني وظيفة خطيب بالجامع السلطاني ببلدة «أكرا». فبقيت مدة ثلاث سنين أقرأ تفسير القرآن وأدرس الحديث، حتى توقفت يوماً من الأيام على آية من القرآن وهي «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا وَنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً» (سورة مريم 19: 71 و72)، معناها أن لا بد لكل إنسان أن يدخل جهنم إذ قد قدَّر الله بذلك، وأنه بعد إدخاله الجميع نار جهنم يغفر لمن يشاء. فأوقعتني تلك الآية في تشويش عظيم، لأن المسلمين استصعبوا تفسير تلك الآية التي لا يوجد مثلها في القرآن، واختلف في تأويلها المفسرون فمنهم من قال إن محمداً يشفع في أمته يوم القيامة بين يدي الله. وهذا القول لا أصل له ولا دليل في القرآن، إذ لم يُذكر في القرآن أن محمداً يشفع في أحد. وقد ألَّف المؤلفون كثيراً في تلك الآية من غير أن ينالوا المراد. وكلما تأملت الآية المذكورة ازداد اضطرابي وتحيُّري وكثر همي وغمي. فعند ذلك ازددت اجتهاداً في التعبّد والتزهد، وقد شقَّت عليَّ كثرة ذنوبي ومعاصيَّ، فقمت على ضريح الولي الشيخ عبد الله وبتُّ الليالي عند قبره وأنا أبكي وأتضرع، وكذلك زرت تربة الولي نظام الدين والقلندر أبي علي، ثم دخلت طريقة الفقراء، وبعد أن طليت جسمي بالتراب الأحمر سحْتُ في الأراضي وأنا أتسوَّل من قرية إلى قرية ومن بلد إلى بلد، حتى قطعت في سفري مسافة خمسة وعشرين ألف ميل على رجليَّ. فلما وصلت إلى بلد قارولي، وهي على شاطىء نهر «شوليدة» نزلت بساحله وصليت وعملت جميع ما يوجبه حزب البحر من الأعمال المذكورة في كتاب كان أعز عليَّ من القرآن، وكنت أحمله دائماً في جيب فوق قلبي. فبقيت عند ذلك النهر مدة اثني عشر يوماً، وأنا بارك على إحدى ركبتيَّ ليلاً ونهاراً، وكنت أسرد التسبيح المسمَّى لوفوبار ثلاثين مرة كل يوم بصوت الجهر وأنا على ريق الصيام عاري الرأس حافي الرجلين، لا أمس إنساناً ولا أكلمه. ثم كتبت اسم الله مائة وخمساً وعشرين ألف مرة في أطراف كاغد (ورق) وكنت أجعل كل طرف كاغد في كرة من العجين وألقيها في النهر ليأكلها السمك بمقتضى ما أمر به الكتاب الذي كنت أحمله. فأقمت مدة على تلك الحالة، وتخيّلت أني أرى الله، ورجوتُ من ذلك تسلية قلبي واطمئنانه. فإن صحَّتي كانت قد فنيت واصفرَّ لوني وتألم جسدي وعدمَتْ قوتي».

فمما سردنا من أنواع الأتعاب التي يعانيها الشخص الغيور يمكننا أن نفهم شيئاً مما يصرفه الناس من الاجتهاد والهمة في ذكر اسم الله، والظانون أن ذكر اسم الجلالة يطهّر القلب ويجمّله، وصوت ذكره شجي للنفس أكثر من كل موسيقى. ويصرف المسلمون كل جهدهم وهمتهم في لفظ اسم الجلالة بكيفية يظنون بواسطتها أن يروا ذاته تعالى حالاً.

إننا نوافق على أنه بقوة الإرادة الخالصة أو حتى بواسطة البلادة التي تنشأ عن تكرار عبارات أو أسماء مرات عديدة متوالية لا توجد ثمَّ فرصة لارتكاب بعض الخطايا، مثل الأفكار الشريرة. ولكن من المستحيل أن نرقى إلى الرجولة الروحية الحقيقية، أو لأن تتوافق إرادتنا مع إرادة الله بمثل هذه الوسائط السخيفة.

ويمكننا أن نصادق على أن مثل هذا التكرار يمكن أن يمهد السبيل لغرض الصوفي في إزالة كل شيء في الإنسان الذي يسعى لنوال الإنسانية الكاملة، لكن الله لا يقصد هكذا.

الشروع في الوجد والهيام

لكي يستعين الصوفي المسلم على تكرار اسم الله كثيراً يستعمل نوعاً من الورد يسمى الذكر، يصحبه تنفس ونفخ غريبين وحركة بدنية، ويستعمل الذكر هذا في الخدم الدينية التي يسلم فيها الإنسان نفسه لذكر اسم الجلالة. ويجوز أن يستعمل هذا إما بصوت مسموع أو منخفض، لكن الشرط الضروري فيه هو خلوّ العقل من كل شيء ما عدا الفكر عن الله. والذكر هو الشيء الجوهري للطريقة الصوفية.

وينال الغرض من الذكر عندما يتمرن الإنسان تدريجياً على إبعاد الفكر إبعاداً تاماً عن الألفاظ المجردة، ولا يبقى فيه إلا التصوُّر. أو بعبارة أخرى إن تغيير النفس يحدث لما يخلو العقل من تمييز الحواس. وكلنا يعرف أنه يمكن للإنسان أن ينهمك في موضوع ما حتى لا يلتفت إلى التدرج العقلي لإدراك ذلك الموضوع. لكن يا ترى، ما هي الفائدة التي ينالها الانسان من مجرد ذكر الاسم؟ وما الذي يسعى الصوفي وراءه ليتحققه؟ فإن كلنا نتفق مع الرومي في سؤاله حيث قال: «هل نعرف اسماً بدون مدلول يدل عليه؟ أو هل يمكنك أن تقطف وردة من الحروف و - ر - د - ة. فيا مَنْ تذكر اسم الجلالة اطلب الحق سبحانه المسمى بذلك الاسم».

واضح من أن غاية أغلب الصوفيين وغرضهم الوحيد هو أن يستحوذوا على عقل فارغ، يكون له طاقة على الوجد والهيام، وينتقل انتقالاً سريعاً إلى الدرجة النهائية التي تتيه منها شخصية الإنسان في العنصر الإلهي. وهذا كله يُنال بواسطة الهيام. ويقولون إنه توجد درجات للمحبة والمعرفة وللاعتماد على الله، لكن توجد درجة هيام فيها ينقص العقل والإرادة شيئاً فشيئاً إلى الزوال. ويقولون إنه في تلك الحالة يمكن أن تستعيد الحواس سلطتها، فإن دورة الرقص وتوقيع النشيد وأحياناً الجوزة المخدرة أو كأس الخمر الذي يُشرب تكون كمساعد لإيجاد تلك الحركات. وهزَّات الطرب هي التي تدل على ازدياد الهيام (ولو كان ذلك عند المتطرفين).

على أن كثيرين من المسلمين في هذه الأيام أخذوا يرون أن تلك الحركات الهيامية مضرة للذين يستعملونها. وقال العلامة مكدونالد إنه لما كان بمصر سمع من أحد أصحاب المطابع أنه رفض شخصين من صفّيفي الحروف عنده، لأنهما صارا غير نافعين في الأشغال العقلية قائلاً: إنهما كانا يذهبان إلى الذكر مرات في الأسبوع، فكانت النتيجة أنهما وهُما أمام صندوق صف الحروف كانا يهتزان ويكرران بكل كسل وخمول عبارات دينية أثناء تأدية عملهما. وبالطبع قد ضعف عملهما كثيراً. وقال إنهما لما تعودا على تلك الحركات الذكرية التي صيّرتهما في حالة الأوهام والتصورات الخيالية التي كانت لذيذة في أعينهما، صارت كأنها طبيعية عندهما، فأضرتهما ضرراً بليغاً، وأضعفت همتهما، بل أزالت نشاطهما. وإذ تشرَّبا بتلك العادة كانا يصرفان أغلب يومهما في النوم والخمول، وصار مثلهما كمثل الذين يفرطون في استعمال الأفيون.

يقول إنجيل المسيح: «لاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ» (أفسس 5: 18). وهذا القول يعني: لا تطلبوا منبّهاً من حركات البدن الطبيعية، ولا بواسطة استعمال المنّبهات التي تهيّج الأعصاب الى حين، بل اطلبوا الانتعاش والقوة وتطهير القلب من المنبع الحقيقي الذي هو روح الله القدوس الذي يدخل القلب ويضرم نيران المحبة الحقيقية.

خواطرهم الخيالية وانفعالاتهم

إن هيام الصوفي والدرويش كثيراً ما يجعله يتظاهر بهيئات غريبة، ويستعمل تمثيلات عجيبة لإظهار تقدّمه نحو الوحدانية. مثال ذلك العِشق المتضمَّن في المعرفة يوضح أقاصيص عن العشق البشري وحكايات تستعمل بين الأسافل! وكتب الصوفية مشحونة من حكايات العشق والعشاق بتعبيرات غريبة، حتى أن هيام زليخا ليوسف وشغفها به وارد في تلك الكتب لتوضيح شوق النفس الى الله.

ويقول الأستاذ نكلسن: «إن المسلم الصوفي لما يذكر عن الخدين الحمراوين في معشوقته يشير بهما إلى أوصاف الجوهر الإلهي، وكذلك يشير بجدائل شعرها السوداء إلى الله الواحد المحجوب بالكثيرين. ولما يقول: اشرب خمراً ليحررك من نفسك يعني بذلك أن يقول: تأمل في العزة الإلهية حتى أن هيامك به تعالى يبتلع نفسك الظاهرة. نعم لا تختص هذه التشبيهات التغزُّلية والعشقية بالإسلام فقط، إنما نقول إنها لا توجد منتشرة بكثرة وبوفرة في سواها من الأشعار».

وإذا فحصنا هذا الهيام والتعشق فحصاً دقيقاً نصل إلى نتيجة واحدة وهي: أنه لما توجد شخصية أسمى من الإنسان تسود عليه وتمتلك عواطفه، ولا تكون لديه مصادر أخرى يستمد المحبة منها، حينئذ يطلق العنان لتخيّلاته فيتصور تصورات مثيرة للعواطف. وهذه التصورات متى ازدادت فيه تمكّنه من البلوغ إلى تلك الحالة العقلية التي فيها ينتظر أن يتلذذ بالغبطة الدائمة. على أن ذلك يختلف اختلافاً كلياً عن فكر المسيح الأدبي عن المحبة المعبَّر عنها دائماً بالقرابة الشخصية، وتتأكد بالشركة بل بالعشرة مع آب إلهي وصديق إلهي وعشير إلهي.

وكلما تقدم المسلم الصوفي في حالة الوَجْد والهيام قلَّ ارتباطه بالأفكار اللاهوتية مهما كان نوعها. وكلما قل خضوعه للآراء الأدبية وحتى لإرشادات العقل السليم، لأن شخصيته تزول شيئاً فشيئاً بينما يبقى جسده آكلاً شارباً كالمعتاد، تصل شخصيته إلى طور الفناء، أي حالة عتق نفسه عتقاً تاماً من الوجود، وترتبط بالبقاء الذي هو الاندماج في الله الذي يعبّر عنه الغزالي بالقول «الفناء في الله» فآخر الشوط هو بلوغ النفس الدرجة القصوى التي فيها تنعزل عن كل ما هو غريب عنها - أي عن كل ما هو ليس إلهياً. وبالاختصار فإن أقصى منطقة للمسلم الصوفي هو التألُّه.

الانتحار الأخلاقي

لقد لاقى كثير من قرائنا أغلاطاً خطرة في النظام الصوفي هذا. لأنه مثلاً إذا كنا منبثقين من الإله الواحد وصادرين عنه، فلماذا يوجد الفكر بالمسؤولية عن الذنب؟ رأينا أن في الأدوار الأولى من الطريقة، جُعلت الأهمية العظمى على الخطية ووجوب التوبة عنها، وإن النفس تظهر بكل شناعتها والإنسان مثقل بإرادة منقسمة وموزَّعة. فكيف تتوافق هذه الأفكار مع التعليم القائل: لا شيء موجود إلا الله، و ما سواه تعالى فغير موجود. فهل يا ترى يُضاف ذنب كل العالم على حساب الله، أم كيف؟

فقد لاقى الصوفيون صعوبة هذا الرأي، ولا يقدرون إلا أن يصرحوا بهذا التعليم المهيمن للعزة الإلهية، وهو أن الشر جزء من أمر الله. وقد علّم به شعراؤهم وعلماؤهم بدون خجل ولا حياء.

فقال الرومي إن الله منبع الشر، ومع ذلك لا يضره الشر. وصنعه تعالى للشر دليل على كماله لأنه لو كان لا يستطيع أن يعمل الشر لكان ذلك نقصاً في قدرته. ولذلك نراه قد خلق الكافر والمسلم حتى يشهد كلاهما له ويعبدا رباً واحداً قديراً.

الهوَّة السحيقة التي نشأت من هذا الفكر

لما قال أحدهم إنه ما دام الله خالقاً للشر، فذلك يستلزم كونه شريراً (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) ردَّ عليه جلال الدين قائلاً: «ألا ترى أن قباحة الصورة لا تُتخذ دليلاً على وجود قباحة في المصوِّر؟».

فحقاً إن وجود تعليم كهذا في النظام الصوفي يحقّر طبيعة الخالق الأخلاقية، بل تجعله أضعف منا نحن أنفسنا. زِدْ على ذلك أن كل شيء يقلب تصوراتنا عن الله، ولا تؤول كل هذه الأفكار إلا إلى إضعاف شعورنا بمسؤوليتنا الأخلاقية إضعافاً خطيراً، وتجعل سجايا الله الأدبية غامضة وملتَبَسة، وتضعف مسؤولية الإنسان، إذ تعلّمه أنه واحد مع الله، وتلغي معنى الأخلاق والحق والشخصية والخلود إلغاءً تاماً. ورأيٌ كهذا يؤدي الى النقيصة والقباحة في حق المولى جلّ وعلا، ولذلك يبيّن الغزالي في أحد مؤلفاته كيف أن التعاليم الصوفية أضرَّت بكثيرين في أيامه، وقال إن كثيرين كانوا يكررون عبارات عن محبة الله والاتحاد معه، ويهملون ألزم الواجبات التي عليهم. والحلاج صُلب وعُذب لأنه كان يقول: أنا الحق - بينما يقال عن أبي يزيد البسطامي إنه كان يقول «سبحاني» بدلاً من أن يقول: سبحان الله. وكان يقول ايضاً: ليس في جبتي سوى الله. وآخرون جدفوا بمثل هذه التجديفات حتى اعترض الغزالي على ذلك بما معناه:

«إن مثل هذه التصورات خطرة على العامة خطراً عظيماً. ومشهور أن كثيرين من ذوي الحِرف قد تركوا أشغالهم لأنهم انشغلوا بمثل هذه الأقوال. ومعلوم أن هذه الأقوال محبوبة كثيراً لدى الجمهور إذ تُبيِّن لهم السعادة الناشئة عن طرح الأعمال الشاقة جانباً بقصد تطهير النفس بالهيام والتهيّج الصوفييْن. ولا يلبث العوام حتى يدَّعوا لأنفسهم مثل هذه الحقائق، ويتمسكوا بأساليب تهورية وهمجية كهذه».

زد على ذلك أن أفكار ألوهية الكون هذه تؤدي إلى الانصباب في شهوات مضرّة، فإن الإنسان لما يتأكد أن حالته الوجودية ما هي سوى شيء سريع الزوال إذ يغوص ويصير واحداً مع الله، فلماذا يكدّ نفسه ويتعب في عمل الخير ولأجل عمل إرادة الله وخدمة الآخرين. فليأكل ويشرب ويفرح، ما دام بعد قليل يُبتلع في الوحدانية مع الله! وعليه يقول عمر الخيام:

يا نديمي بدّد شجون الصدور

بخمور يا حُسنها من خمور

فعتيد نزولنا في القبور

في القبور النزول دان عتيد

وتراباً تحت التراب تعود

لست يا راجي المآب بكنز

أسلكوه سبل الفناء فآبا

محو النفس

الآن قد وصلنا الى نهاية جهد الصوفي وغاية مسعاه وهو انحلال النفس وذوبانها في الله كانحلال الغيم في ضوء الشمس. فقداسة الصوفي هي نفي الفكر والعمل والشخصية. أما المسيحية فهي عكس ذلك على خط مستقيم، لأن الإيمان في المسيحية يشغل كل شخصية الإنسان: يشغل عقله وقلبه وإرادته. عوضاً عن محو الفرق بين المتكلم والمخاطب (أنا وأنت) يصير اتصال أخلاقي تام ومحبة كلية بينهما وحفظ الوحدانية برباط الكمال. فالإيمان ليس هو إزالة النفس ومحوها بل بالحري هو ظهورها بالمحبة. والمسيحية لا تجعل عمل البر أمراً يُستهان به، بل تعلّق عليه كل الأهمية، وتعلّم أن الله واحد ولكنه لا يمتص الكثيرين، بل بالحري يسكن في الكثيرين، ويحسّن أخلاق الكثيرين ويطهر عقولهم ويقوّم إرادتهم. والمسيحية تعلّم أيضاً أن حياة الله تنعش كل حياة، إنما تنعش بهيئة خصوصية تلك الحياة التي تقبل الرب يسوع فاديها ومخلصها. وهكذا يملأ الحياة بالهمة الأدبية والأخلاق الروحية، حتى أن النفس لا تستطيع أن تفصل ذاتها عن الآخرين، بل تسير جميعاً معاً ببهجة الحماس وفرح العمل وإظهار محبة الله.

فقد قال ربنا يسوع المسيح له المجد: «اثْبُتُوا فِيَّ» (يوحنا 15: 4)، و «اثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي» (يوحنا 15: 9). وفي الوقت ذاته قال: «تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ» (يوحنا 15: 12). فهاتان الوصيتان تلازم إحداهما الأخرى ولا تنفصلان البتة. فهذه المحبة هي كمال شخصية الإنسان وجوهر الإيمان المسيحي، وكلما شعر الإنسان بعُمق هذه المحبة في قلبه ظهرت أكثر في العمل والسيرة.

فالاختبارات الصوفية عند المسيحي تُفيد غرضاً أخلاقياً، إذ تقدّره على إتمام واجباته نحو الله والانسان، فتعين الأولاد على تأدية واجباتهم نحو والديهم، والأزواج نحو أزواجهم، والصديق نحو صديقه، وكل وطني من نحو أهل وطنه، وكل واحد من نحو الهيئة الاجتماعية لتشييد مملكة الله وبناء مدينته المقدسة بين بني البشر.

الفصل الخامس: المرشد الروحي الكامل

توجد نقطة دارت حولها المناقشة كثيراً مع الصوفيين وهي: هل يمكن وجود وساطة في الوحدة مع الله؟ فإنه وإن ظهر هذا الأمر لكثيرين أنه مخالف للفكر الموضوع تحت النظر، لكن الصوفية والدراويش يقبلون بكل يقين الفكر عن الوسيط سيما في أدوار التصوف الأولى، فإنه لا يستطيع أحد أن يباشر الطريقة الصوفية بدون مرشد روحي، وهذا يسمونه إماماً أو شيخاً أو مرشداً. ويقتضي أن يكون ذلك الإمام قد جاز الطريق بنفسه ووقف على كل الأسرار. وأوامر الدراويش تشدّد على هذه النقط تشديداً كلياً.

فالطالب السالك يخضع خضوعاً كلياً لإرشادات الإمام وتعاليمه. ويقول أحدهم إنه ينتظر من التلميذ في الدور الأول أن يحب الشيخ محبة تامة، وينظر إليه ككونه الكل في الكل. ويجب أن يتمثل بالشيخ في أعماله وكلامه وصلاته وحتى في أكله وشربه ومشيته، وأن يفكر فيه على الدوام. والشيخ هو الذي يتسلّم الدخيل الحديث العهد تحت إرادته، وهو الذي يعيّن له ما ينبغي أن يتعلّمه، وهو الذي يعترف إليه التلميذ بما أصابه من النجاح أو الفشل في أعماله وعيشته التتلمذية، وهو الذي يحكم في نجاحه من عدمه.

سلطة الإمام

من نصائح الإمام لتلميذه: «يجب أن تموت قبلما تموت». وهذا يعني أنه يجب أن تقتل نفسك الدنيئة السافلة بضبطك شهواتك وتطهير أفكارك. ولما يصف نسبته لتلميذه يقول له: «أنت هو الجثة وأنا مغسّل تلك الجثة. أنت البستان وأنا البستاني». ويقصد الإمام أن التلميذ يخضع له خضوعاً تاماً. ولا يسمح له أن يريد شيئاً لنفسه سوى ما يريده المرشد الروحاني. وحقاً إن كل الممارسات الدينية المعطاة للتلميذ في الأدوار الأولى لا يُقصد بها أن يعرف الله حالاً وسريعاً معرفة تامة، بل هي فقط كأسلوب يتدرج فيه «للفناء في الشيخ» حتى يستعد لأن يتدرج «للفناء في الله».

فيظهر من ذلك أن الإمام هو وسيط، ويقال إن له قوة استثنائية منتقلة إليه من رئيس رُتبته (الله). وهو يتوسَّط في إيهاب القوة والمعرفة الإلهيتين. وأما مركزه في النظام الصوفي فهو أن الطالب لا يمكن أن يخلص إلا بواسطته، فالخطر كل الخطر من إساءة استعمال وظيفته أو هتك حرمتها، فكثيرون قد خانوا وظيفتهم باستعمال المخدرات والتنويم المغناطيسي فخدعوا كثيرين من طالبي الحياة الإلهية وعبثوا بهم. على أن المسلمين في كل البلاد الإسلامية يؤمنون بهؤلاء الأئمة إيماناً غريباً. ويوجد ملايين المسلمين اليوم الذين حلَّت بينهم عبادة الإمام محل عبادة الله تقريباً. وعلى ما يظهر أنه يُقدَّم له الاحترام من الجميع سواء كان حياً أو ميتاً.

وعليه ترى أن الوهابيين يشهِّرون بالكلام وبالكتابة ضد الملايين الذين يعبدون الأئمة، قائلين عنهم إنهم يعبدون البشر. ولكن ماذا ينتظر من الصوفي الذي تقول كتبه عن هؤلاء الأئمة إنهم الله المتجسد، والقنطرة بين المحدود وغير المحدود؟ حتى الرومي نفسه لم يسلم من هذا الفكر حيث قال: «تعال واستظل تحت ذلك النِّحرير (الإمام) الذي لا تجده بين أهل الحديث، ذلك الإنسان الذي بينه وبين الله قرابة تامة. فلا تتخلَّ عن طاعته بأي كيفية كانت. وبما أنك اخترت لنفسك هذا الرئيس فكن أطوع له من بنانك، فإن يده ليست سوى يد الله ذاته!».

الباب المفتوح

ألا نرى من هذا جميعه أن نفس الإنسان تهتم كثيراً بالحصول على شخص له المعرفة بأسرار المصالحة؟ فإن النفس تعبّر عن احتياجها إلى وسيط بينها وبين الخالق بألف كيفية وكيفية، وتشعر بوجود حائل يفصلها عن الله. وأشواقها وتمنياتها تبيّن أنها عارفة أنها مخلوقة لحياة أكمل وأعظم، فلذلك تتبع ذاك الذي يدَّعي بأن له إلماماً تاماً بالطريقة الأمينة الموصِّلة للحياة الكاملة.

يا ترى من هو «الإمام» عند المسيحيين ومن هو مرشدهم الروحي؟ يوجد في المسيحية عدد وافر من المبشرين والمعلمين الذين كرسوا ذواتهم بالتمام لإذاعة إنجيل نعمة الله وبشارة محبته، فهم إذاً يرشدون الناس الى الطريق، ولكنهم لا يدَّعون أنهم وسطاء بينهم وبين الله كما يدّعي الإمام، لكنهم يعلّمون الناس أن الإيمان بالمسيح يخلص نفوسهم، ويحثونهم على أن يسلّموا ذواتهم للمسيح وليس لخادمه، وأن يرفعوا أنظارهم إليه وحده، لأنه الطريق الوحيد للقداسة ولنوال الكمال، والباب المفتوح المؤدي إلى مقادس الله الآب.

وفكر أولئك الخدام الوحيد هو أن يمجدوا ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي يقول الإنجيل: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيح» (1تيموثاوس 2: 5). وقوله: «أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يوحنا 10: 9).

فانظر الى مقياس مرشدك الروحي. هل هو خالٍ من الخطية أو هل هو كامل؟ فإنه بحسب أفكار الصوفيين نرى أن الإمام الوسيط يجب أن يصل الى درجة معلومة من الكمال، وإلا لما استطاع أن يعلّم غيره عن كيفية الحصول على الكمال. ويدَّعون أن كثيرين من الأئمة هم خلفاء الرسول، ولذلك كمالهم مؤكد. لكن لا يمكن أن ادّعاءهم هذا يحتمل الفحص والامتحان المدققين. أما المسيحيون فلا ينظرون إلى مبشريهم ومعلميهم على أنهم مقياس الكمال. والديانة المسيحية غير مفهومة بالتمام لدى العالم في هذه الأيام، لأن كثيرين ينظرون إلى ضعفات أتباع المسيح ونقائصهم، لكنهم لا ينظرون الى المتبوع، لأن رئيس الإيمان ومكمّله في المسيحية هو يسوع المسيح (عبرانيين 12: 2).

المرشد الكامل

يعترف المسيحيون أن المسيح هو المرشد الروحي الكامل، ولهم كل الحق في ذلك، لأنه له المجد كان كاملاً في تعاليمه، وسيرته. وكانت أخلاقه على تمام المطابقة لتعاليمه، فإننا إذا تصفَّحنا جميع الكتب المعتبرة أنها مقدسة بين كل أديان العالم، وراجعنا تاريخ البشر بالتدقيق، نجد أنه لم يقم بين البشر في كل زمان ومكان شخص ظهر فيه الكمال في عيشته وأعماله وتعاليمه سوى يسوع المسيح وحده! وهو وحده بين كل المعلمين الدينيين قادة الجنس البشري العظام كان له صورة الله الخالية من العيب. وإذا أردنا أن نعرف شخصاً ممثلاً لله ذاته، فلا نجد سواه بين كل الذين عاشوا على وجه البسيطة في كل زمان ومكان.

ويظهر لنا المسيح كالمرشد الروحي الكامل لما نتأمل في التفسير الروحاني الذي فسَّر به التوراة التي هي ناموس موسى - فقد قال: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متى 5: 17). فلم يقل المسيح شيئاً يدل على أن ديانته تنسخ ديانة موسى، بل بالعكس هو صادق على أسفار العهد القديم، واستعملها في تعاليمه، وأمر بدرسها وأوضح معانيها الروحية والعميقة المطابقة لاختبارات الانسان. ولنوضح قولنا هذا من تعاليمه:

مرة سأل ناموسي المسيح: «يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟ فَقَالَ لَهُ (يسوع): مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟ فَأَجَابَ: تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ. فَقَالَ لَهُ: بِٱلصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا» (لوقا 10: 25 - 28). ففِكر المسيح من أوله إلى آخره مبنيٌّ على هذين المبدأين الأساسيين، وهما وجوب المحبة لله والمحبة للقريب. فإذا فحصتم كل نقطة في تعاليم المسيح فحصاً دقيقاً ظهرت لكم صحة هذا القول. ويظهر من جواب المسيح لذلك الناموسي أن المسيح لا يعوّل على الناموس ككونه مجموع فروض خارجية، أو ككونه ناموساً أخلاقياً أكثر مما يعوِّل الصوفي على الشريعة بحسب الظاهر، بل هو ينظر الى معنى الناموس الباطني، وهو يفسر الناموس تفسيراً جديداً وباطنياً، بحيث لا يمكن أن يُقال إنه يُنسخ بواسطة ذلك التفسير.

تذكرون أننا أشرنا في ما مرَّ إلى الدكتور عماد الدين وانتقاله من الصوفية الى المسيحية، فيقول إنه ابتدأ يقرأ الانجيل من بشارة متى. ولم يصل الى الأصحاح السابع حتى اقتنع بأن المسيح كان المرشد الكامل الروحاني ومخلّص العالم، لأنه يعرف القلب البشري ويعرف احتياجه إلى طريق روحية باطنية.

ولنراجع الآن بعض أقوال المسيح الواردة في بشارة متّى (أصحاح 5 - 7)، فنراه يقول عن القتل: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْم» (من الله) (متّى 5: 21 - 22). وبعبارة أخرى إن الغضب في القلب يبلغ الى القتل. فلاحظوا الكيفية التي يميز المسيح بها الوصية الجديدة من الوصية القديمة على الخصوص، وهي قوله: «أما أنا فأقول لكم».

ونراه يقول عن الزنا: «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ» (متّى 5: 27 و28). وعقَّب المسيح حالاً على هذا بقوله إنه خير للإنسان أن يقلع عينه الشريرة ويقطع يده الشريرة من أن تعيقاه عن النمو والتقدم في الحياة الباطنية. وتعليم كهذا يُرضي الصوفي تمام الرضى، لأنه تعوَّد على إنكار النفس وإذلالها.

وقال المسيح عن الطلاق: «وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ ٱلزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَّوَجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي» (متّى 5: 31ى و32).

وبخصوص أقوال المسيح عن الفروض الدينية يجب أن لا ننسى أنه كان دائماً يعلّم عن روحانية الله وروحانية العبادة. فيقول: «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 4: 24). فاذا خصصنا هذا القول لكل أعمال العبادة فلا نستطيع أن نجعل الديانة إلا تكريس النفس لله، وإيمانها به إيماناً قلبياً.

وقال المسيح أيضاً عن الصلاة: «مَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ (دور العبادة) وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!» (متّى 6: 5). فنراه يشهّر بالتظاهر بالتقوى ويذمّه، إذ علم أن مثل أولئك استوفوا أجرهم في هذا العالم عندما اعتبرهم الناس أتقياء كثيراً، بينما أبونا السماوي يرغب أننا في صلاتنا نغلق أبواب حياتنا الخارجية حتى تختلي نفوسنا معه تعالى وتحادثه بما يرغب، لأنه متى وُجدت الحياة الروحية حقيقة في النفس فلا يمكن وجود حب التظاهر والمباهاة بالتقوى.

يعلّمنا المسيح أننا لا ننتظر أن الله يسمع صلواتنا ويغفر لنا ذنوبنا إذا صلينا له وفي قلوبنا خصام مع الآخرين، بل قال أكثر من ذلك: «إِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى ٱلْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَٱتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ، وَٱذْهَبْ أَوَّلاً ٱصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ» (متّى 5: 23 - 24).

ويقول المسيح عن الصدقة: «اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَّوِتْ قُدَّامَكَ بِٱلْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي ٱلأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (متّى 6: 1 - 4).

وكذلك علَّم المسيح عن الصيام أنه يجب أن يكون بطريقة باطنية روحية وليس بقصد التظاهر: «مَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَٱدْهُنْ رَأْسَكَ وَٱغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَة» (متّى 6: 16 - 18).

فهل يستطيع إنسان أن يقول عن وجود ديانة أخرى تحت الشمس فيها ما في هذه من الشرائع الروحية السامية، أو ما يمكن أن يُذكر بجانبها؟ فهي من الجهة الواحدة تحترم التوراة (الشريعة) وتمجدها، وفي الوقت نفسه تستقصي أعماق اختبارات النفس وتطلب الحق والصراحة في كل ما تُجريه. فكيف يمكن للناس أن يتكلموا عن تعاليم إذا كانت قد نُسخت أو أُلغيت؟

ولا نقول إن تعاليم المسيح الكاملة هذه لم تُنسخ فقط، بل نقول أيضاً إن الإنسان الذي يفتح قلبه لقبول هذه التعاليم ولحقائق الإنجيل الأخرى ينال مفسراً روحياً وترجماناً سماوياً - هو الروح القدس، الذي يأتي ويجعل القلب مسكنه، فيمدّ ذلك القلب يومياً بأفكار جديدة وحاسيات جديدة وعواطف جديدة، وينمّيه في القداسة كل يوم.

الروح القدس وسكناه في القلب

رأيت أن الروح القدس هو روح الله الذي يعطي حياة جديدة للمؤمن، فيوضح الإنجيل أنه لا يمكن للإنسان أن ينمو في الحياة الباطنية بدون الحياة التي يهبها الروح القدس، فهو بكيفية سرية يبدأ بالحياة التي أتى بها المسيح للجنس البشري، وهو الذي يكملها.

وماذا يقول المسيح عن الروح القدس هذا؟ معلوم أنه كان مزمعاً أن يترك العالم عندما قال لتلاميذه: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَٱحْفَظُوا وَصَايَايَ، وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ ٱلآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ ٱلْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ» (يوحنا 14: 15 - 17). ثم قال المسيح: «إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ، وَلٰكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا ٱلآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهٰذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يوحنا 16: 12 - 15).

فواضح من كلام المسيح هذا أنه لم يُشعِر تلاميذه أنهم متروكون مهمَلون، ولذا قال لهم ذلك القول لزيادة الحياة الإلهية فيهم ولمعونتهم في التبشير بإنجيله بين كل الامم، ولذا نراه يقول لهم: «لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ» (يوحنا 14: 18). فيشير لهم عن مجيئه ليس بهيئة جسدية، بل بالروح القدس الذي يسكن قلوبهم ويعمل بواسطة عيشتهم وأقوالهم أعمالاً تظهر أنها مستحيلة. وهذا يتضمن الوعد بمجيئه الثاني أيضاً.

الفتوا أنظاركم إلى ما قاله المسيح: هو «يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ. ويُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. وذَاكَ يُمَجِّدُنِي... يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» . فهو يفسر كل حق المسيح للمؤمن، ولذلك نقول بكل يقين إن الروح القدس هو المرشد الروحي الكامل، والمفسّر للحقائق الإلهية. هو هو الذي يأخذ النبوات والمواعيد من المسيح، الباب المفتوح نحو السماء، ويأخذ أخبار عيشته على هذه الأرض وتعاليمه السامية ويوضحها لنا ويكشفها لأفهامنا. فهو الترجمان والمفسر الإلهي.

الروح القدس يمجد المسيح دائماً

يقتفي الروح القدس بواسطة التوراة والزبور والإنجيل آثار محبوبنا المسيح، ويوضح لأفهامنا حالة المسيح في كونه فادياً للبشر. هو الذي ينير لنا إنارة تامة ليكشف لنا إرادة الله بخصوص الحياة السعيدة التي يتمتع بها جميع المتحدين بالمسيح بالإيمان والثقة بكل ما أتمَّه على الصليب. كما قال بعضهم: إن الروح ينفخ في الكلمة الإلهية فيعلن بها حق الله، ويمدّ تعاليم الله ومواعيده بنور مقدس.

وماذا نقول لنوضح عمل هذا المرشد الروحي الغير المنظور؟ فإن المؤمنين بالمسيح في كل أنحاء المسكونة يعرفون باختباراتهم الكثيرة أن روح الله القدوس يأتي إليهم ويسكن فيهم، عاملاً فيهم. فتمتاز المسيحية عن غيرها من الأديان بحضور الروح ومرافقته لعمله الذي هو إعلان المسيح للنفس.

ولكي نساعد القارىء على فهم المراد من كلامنا هذا نقول إن قلب الإنسان متزعزع ومملوء من الخوف، وهو عالم بالجهاد القائم في داخله، ويشتاق إلى المصالحة والمحبة والسلام مع الله ويفتح الباب قليلاً نحو النور والحرية. والروح القدس قريب وساهر دائماً يقنع الإنسان بخطيته وبالدينونة العتيدة بواسطة رسالة الكتب المقدسة المقدَّمة بواسطة خدامه أو افتقاداته العائلية بالمرض أو بالموت، وكثيراً ما يشجع الإنسان بإعلان حقه له من حين لآخر إلى أن يعلن المسيح الذي هو «صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ» (كولوسي 1: 15) إعلاناً واضحاً، وترتبط النفس به بواسطة محبته التي أحبها بها. فجمال المسيح الأخلاقي يظهر بواسطة المحبة والإيمان اللذين يُمنَحان لقلوبنا بالروح القدس.

فكأن الروح القدس في هذه الحالة يرفع غطاء آلة التصوير (الكاميرا) فيلقي نوراً على صورة المسيح، ويجعلها تنعكس على قلوبنا الحساسة بواسطة إلقائه شعاعة نور عليها. وإذ تنطبع هذه الصورة على قلوبنا تقدّرنا أن نرى الله وأن نعرفه ونعطيه مقامه اللائق به تعالى في كل أعمالنا.

«مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ فَأَعْلَنَهُ ٱللّٰهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ ٱلرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 2: 9 و10).

وعلى المؤمن أيضاً أن يتمم ما عليه، لأنه لا يليق أن يصمت بدون أن يعمل شيئاً معتمداً على عمل الروح القدس، مفتكراً أن سكوته بالاستسلام والخضوع كافٍ لنموه في الحياة الباطنية. بل يجب على المؤمن أن يجتهد ليعرف كل ما يجب معرفته من كلمة الله المعلنة بخصوص طرق الله مع الانسان وتاريخ الخطية والفداء. وكذلك يحتاج أن يجلس تحت قدمي المسيح ويتطعم من كلماته الحلوة، ويصرف وقتاً كافياً في التأملات مع الله وفي الشركة معه وفي تقديم الصلوات لدى عرش النعمة. فبهذه الكيفية دون سواها يقدر أن يعدّ قلبه لحصاد ثمر الروح الذي هو «مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غلاطية 5: 22، 23).

الفصل السادس: المسيح والاتحاد الباطني

يحترم الصوفيون ربنا يسوع المسيح أحسن احترام، فيقولون عنه إنه كان صوفياً طاهراً، ويسمونه «إمام السائحين» ويفتكرون أن حياته وتعاليمه قريبة جداً لعقائدهم الصوفية إذا نُظر اليها من وجهتها الروحية السامية. فكونه لم يملك بيتاً يسكن فيه، وكان عائشاً فقيراً وليس له علاقة بأمور هذا العالم، فهذا مما يوافق مبادئهم الزهدية. وكثيراً ما يقتبسون قوله: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متى 8: 20).

ووردت في كتب الصوفية أقوال وحوادث كثيرة منسوبة للمسيح، بعضها حقيقية وبعضها ليست حقيقية، سيما في كتب المشهورين من المسلمين مثل الغزالي وجلال الدين الرومي.

فيقول الغزالي إن المسيح قال عن عدم كفاية العالم لإشباع نفس الإنسان ما معناه: مثَل طالب الدنيا مثَل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله!

ويقول أيضاً إن المسيح قال: واعلموا أن أصل كل خطية حب الدنيا، ورُبَّ شهوة ساعة أورثت أهلها حزناً طويلاً.

وقال أيضاً: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد.

شهادة الصوفيين للمسيح

قال الغزالي إن المسيح لكي يبين حالة العالم المتغيرة والتي لا تبقى على حال - لما أتى إليه القوم وطلبوا أن يبنوا له بيتاً، أنه أخذهم الى شاطىء البحر، وأراهم الأمواج المزبدة وطلب منهم أن يبنوا البيت فوق تلك الأمواج.

ويقول الغزالي: قال يسوع: من الذي يبني على موج البحر داراً ؟ تلكم الدنيا، فلا تتخذوها قراراً.

لكن يغلط الصوفيون والدراويش عندما يحسبون المسيح زاهداً على نموذج زهدهم. نعم إنه كان يأوى الجبال مراراً كثيرة ويصرف وقتاً في الصلاة والتأملات والشركة مع الله، ولكنه لم يترك الجماهير وينفرد في الجبل لغاية شهوانية أو بقصد الاستئثار وحب الذات، بل بالحري قصد العزلة في مكان هادىء ليتمكن من مخاطبة أبيه ليستعد للواجبات الخطيرة التي كانت تنتظره بين الشعب الذي كان كغنمٍ لا راعي لها. وفعلاً صرف بضعة أسابيع منفرداً في البرية حيث كانت نفسه الطاهرة القدوسة تتحارب مع الشيطان الذي كان يجرّبه تجارب كثيرة، وانتصر عليه انتصاراً تاماً. نعم وقد بقي تلك المدة بدون أكل وشرب محتملاً الأحزان، ولكن لم يكن ذلك زُهداً منه بالمعنى المعروف عند الصوفي، بل بقي هناك لينال الغلبة على الشيطان، وليُظهر أن له القدرة على أن يعمل خيراً مع نفوس الناس المضروبة بالشر. وكانت تلك الحادثة عنوان التواضع وانكار الذات. أَوَلَم يُذكر عنه في خبر التجربة أنه فضَّل الملكوت الروحي على كل ممالك هذا العالم ومجدها؟

المسيح لم يكن زاهداً على طقس الزهد الصوفي

ينبغي أن نلاحظ أن نظام الزهد عند الصوفية مؤسس على مبدأ كون الإنسان فيه عنصر الشر والفساد، وأنه لا يقدر أن يتغلب عليه ويقهره إلا بأنواع الزهد المتنوعة المقصود بها إماتة الجسد. وإماتة الجسد هذه ضرورية جداً عند الصوفي. وسبقنا فرأيناها دوراً مهماً من أدوار الطريقة التي يسير فيها المباشر. فإذا كان الأمر كذلك، فما هي حاجة المسيح لأن يمارس أسلوب هذا الزهد؟ إن كل مسلم يعرف يقيناً أن المسيح كان خالياً من الخطية خلواً تاماً، ولم يكن محتاجاً إلى التوبة وإماتة الجسد مثل أئمة الصوفيين، لأنه لم يكن فيه شيء مما يجب أن يبيده ليجعل نفسه في حالة مناسبة للاتحاد مع الله، ذلك الاتحاد الذي اختبره اختباراً حيوياً في أيام جسده؟

وحياة الله في المسيح هي التي جعلت له القوة والسلطان، ليس على شفاء أجساد الناس فقط، بل على شفاء الأرواح وتجديد الحياة. والتجديد هذا لا يزال جارياً لوقتنا الحاضر، والحمد لله بواسطة الروح القدس الذي يعطيه المسيح لكل من يؤمن به.

نفخة يسوع

نُعجب كثيراً بالكيفية التي أشار بها جلال الدين الرومي الى قوة المسيح الغريبة، فقد قال في قصيدته المؤثرة المعروفة بالمثناوي ما نثره:

«إن دار عيسى دار وليمة لقلوب الناس، فلا تتركوا بابه أيها البائسون والمتضايقون. ولقد احتشدت الناس من كل صوب من عُمي وعُرج ومُقعَدين وبائسين. احتشدوا باكراً حول باب بيت عيسى ليشفي كل أوصابهم بمجرد نفخته».

وقال أيضاً: «إن الماء والطين بنفخة عيسى قد صارا طيراً باسطاً أجنحته، وطائراً يطلب طعامه».

وقال أيضاً: «إن مئات الألوف من أطباء الأبدان مثل الحكيم جالينوس لا يساوون شيئاً أمام عيسى ونفخته».

وقال أيضاً: «إن هزات الطرب الدينية تتوقف على الحاسيات والإرادة، لكن هزة الطرب النقية الطاهرة تتجدد في الإنسان بنفخة المسيح».

ويقول الرومي في محل آخر قولاً يُدهش الألباب، وحقاً هو غريب قوله: «قد يأتي الربيع ولكن لا ينبت أي نبات أخضر على الصوَّان، فهو قاحل في الشتاء كما أيضاً في الربيع. ولكن قلب الإنسان الصوفي لما تدخله نعمة المسيح تسحقه وتكسوه بالخضرة، ولما تمس نفخة عيسى صميم القلب حينئذ يحيا ويتنفس ويزهر ثانية بعدما كان عقيماً».

وماذا يقصد الرومي بنفخة يسوع الشافية؟ واضح من كلامه أن نفخة المسيح لها فعل عجيب في شفاء الأمراض الجسدية، وفي إحياء الموتى، ولكنها في كلامه هنا تتضمن أكثر من ذلك. فإن نفخة عيسى لها قوة عظمى في إحياء القلوب وإيهابها نعمة مطهرة ومجددة. فما هي هذه النفخة إذاً سوى الحياة الإلهية والروح الإلهي الموجود في يسوع؟ ومعلوم أن المسلم يعتقد أن المسيح هو روح الله حسب نص قرآنه، فلا عجب إذا كان يصادق على أن للمسيح قوة لتغيير القلوب وتجديدها. وإذا وُجد شخص يعرف الفكر الصحيح عن الشريعة والطريقة والمعرفة والحقيقة، فيكون ذلك الشخص هو يسوع.

هلم بنا نقترب أكثر إلى سيدنا يسوع المسيح، فكم من الناس أساءوا فهمه! قلنا إنه لم يكن زاهداً على الطقس الصوفي، ولكنا أقررنا بكماله واحترمنا قداسته، فلنتقدم أكثر ونبيّن أنه قال إن له القدرة على إيجاد اتحاد سري بين الله والإنسان، ويمكننا أن نرى ذلك إذا تتبعنا كل تعاليمه التي قيل كثير منها بأمثال وتشبيهات، ومع ذلك هي واضحة تمام الوضوح لكل ذي عينين.

قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 8: 12) و «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا 14: 6) و «أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ» (يوحنا 10: 11). وكذلك «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ... لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6). فيظهر من ذلك أنه هو «الطريق» الحقيقي ولا سواه.

فمجرد شرح هذه الأقوال يكفي لمساعدتنا على فهم روحانية الديانة التي علّم المسيح بها، ولكني أشير بنوع خصوصي الى تعليمين من تعاليمه:

(1) قال المسيح عن نفسه: «أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 6: 35). ولا يمكننا أن نجد فكراً روحانياً أكثر من هذا القول. ويا له من غذاء روحي يغذي به الذين يستوعبونه! لاحظوا أن المسيح قال: «أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (يوحنا 6: 51). ثم قال: «جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ» (يوحنا 6: 55). فتكون النتيجة الطبيعية من قوله هذا هي «مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (يوحنا 6: 56). فنتج من ذلك أنه لا يقصد الأكل المادي بل الأكل الروحي، وتمثيل الطعام تمثيلاً روحياً. وعليه يقول: «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا 6: 54).

يقول الصوفي: إذا أردنا أن نقف على الحقيقة، فعلينا أن ننظر الى ما وراء الشَّبه. فماذا يا ترى قصد المسيح أن نفهمه من قوله: «.. فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يوحنا 6: 57)؟ كان سامعوه وقتئذ خليطاً من يهود ومن أتباعه المؤمنين به، وهؤلاء كانوا يفهمون أن أكله إشارة إلى قبول تعاليمه الدينية. ولكن المسيح كان يقصد به أكثر من مجرد القبول، وإن كان تلاميذه لم يفهموا معناه جيداً في ذلك الحين، لكنهم فهموه جيد الفهم لما حلّ عليهم الروح القدس بقوة يوم الخمسين، وأرشدهم إلى معنى تعاليم المسيح الكامل.

ونعرف أن الخبز يؤكل للتغذية، ويصير حياة للعالم من وجهة واحدة فقط، فنأكل ويتمثل فينا لنمو أجسادنا، وإلا فلا يفيد في الغرض من التغذية المقصودة به. وهكذا الحال مع المسيح «الخبز الحي الذي نزل من السماء» فإنه خبز أرواحنا ومعطينا القوة للاتحاد به هو وبواسطته مع الآب. وهذا الاتحاد لا ينفصم، وهو الطعام الذي يعطي النفس حياة وقوة، ولكن على شرط أننا نشترك فيه ونقبله بالإيمان ونخصّصه لأنفسنا.

فيسوع هو الطعام الحقيقي لأنه هو إله المحبة الذي ظهر في الجسد، وقلوبنا لا تشبع إلا بالمحبة، فهو الذي أتى وبذل نفسه لأجلنا. ولما تقبل قلوبنا ذلك الحبيب داخلها فحينئذ تتغذى به وتشبع منه وتفرح بحضوره. وتقديمه جسده ودمه ذبيحة محبة لأجلنا وحياته لأجلنا يجعلنا نتعلق به أكثر فأكثر بصفته حبيب نفوسنا.

(2) وقال المسيح له المجد: «أَنَا ٱلْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ ٱلأَغْصَانُ» (يوحنا 15: 5). وهذا تعليم آخر عجيب عن الاتحاد السري بين الإنسان والله، فيوجد في هذا التشبيه تعاليم عميقة لكل واحد خصص نفسه للمسيح، فتبين له الرابطة الحقيقية بينه وبين المسيح والشركة التامة معه، وتدل على وحدة روحية مستمرة فيه.

ولنقتبس أقوال المسيح بهذا الخصوص:

«اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ ٱلْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْكَرْمَةِ، كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. أَنَا ٱلْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ ٱلأَغْصَانُ. ٱلَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هٰذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَٱلْغُصْنِ، فَيَجِفُّ» (يوحنا 15: 4 - 6).

ففي هذا القول يوضح المسيح لتلاميذه أن سكناه في قلب المؤمن يُنتج حتماً إتيانه بثمر، أي نموه في الحياة الداخلية بالمسيح وتأثيره تأثيراً روحياً في الناس الذين يعيش بينهم. والمطلوب هو وجود اختبار داخلي لائق بحياة الإنسان الفضلى، بل سكناه في قلب المؤمن هو خاصية الشعور الدائم في نفس الإنسان بمحبة المسيح. وبهذه الواسطة دون سواها يمكن للإنسان أن يأتي بثمر.

هب أن الاتحاد بين الإنسان والمسيح تم، فحينئذ يكون العمل الصالح مؤكداً نظير بروز الأوراق والأثمار من غصن الكرمة الطبيعي، فلا يسعى الغصن في عمل شيء ما دام متحداً في الأصل اتحاداً حياً. وهكذا كل من يثبت في الأصل الذي هو المسيح ينال كل ما يحتاج إليه، لأنه يتحد في الأصل «فَإِنَّهُ فِيهِ (المسيح) يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي 2: 29) «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يوحنا 1: 16).

فكل أقوال المسيح المذكورة تشير إلى الإتيان بالثمر، لأنه لا يريد أن أتباعه يعرفونه معرفة إسمية فقط، ولا أن ينظروا إليه نظراً سطحياً، بل يطلب أن يكون في حياتهم قوة لإعلان صورته القدوسة للناس، كما أنه هو قد أعلن صورة الله غير المنظور، وقصد أن يكون تلاميذه الوسيلة التي بواسطتها يأتي بالثمر، فهو يملأهم بعصير الحق الإلهي وجوهر المحبة الالهية، وما عليهم إلا أن يعطوه الفرصة ليحوّل ذلك العصير إلى عنب، أو بعبارة أخرى: أنه أودع المؤمن مسألة إقناع الآخرين لقبول حياة الإيمان بالمسيح. والمؤمن يُقنع الناس بحسب قياس تأثير حياة المسيح في قلبه.

فيتضح من ذلك أن المسيحية لا تنحصر في تقديم تعاليم خارجية، ولا في وضع فرائض وأوامر، بل في أن المسيح حياة النفس، وأنه يقدم نفسه للناس حتى يسكن فيهم فيعطيهم حياته ليتحدوا بالله اتحاداً حياً. وهو يؤكد ذلك كمال التأكيد ويقول: «لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» (يوحنا 15: 5).

فنرغب أن كل إخوتنا الذين سعوا مدة طويلة للحصول على محبة الله ومعرفته والحياة فيه، أن ينظروا إلى يسوع المسيح، ويدخلوا فيه باعتباره الباب المفتوح الوحيد الذي به تتطعم حياة الإنسان القلبية بعصارة الروح وخمرة الله المقدسة ومحبته الكاملة. وإن ذلك يستلزم دراسة الإنجيل على الدوام، والتأمل والصلاة وطلب معونة الروح القدس ومساعدته للحصول على البصيرة الروحية التامة.

الفصل السابع: البلوغ المسيحي

لا شك أن القارىء يرغب أن يعرف إذا كان نموذج الكمال المسيحي هذا قد اختبره أحد من الناس نظيرنا، أو هو مجرد تعبير كلامي، فيكون كلام المسيح بلا فائدة عملية!

كان يمكننا أن نطيل الكلام ونذكر كثيرين من ذوي النفوس السامية الذين اشتهروا بين رجال الله، وعاشوا عيشتهم اليومية متحدين بالرب يسوع المسيح، وظهرت حياته فيهم. ولكن إذا ذكرنا عن حياة شخص واحد وعن اختباراته الروحية فحينئذ يكون كلامنا أكثر وضوحاً وأسهل للفهم. إنما يجب أن تهتم بدرس حياته والوقوف على اختباراته. وعلى ذلك فهلمَّ نشير إلى حياة بولس الرسول، الواضحة في رسائله التي أرسلها الى جماعات المسيحيين في الأناضول، وتلك الرسائل تؤلف جزءاً مهماً من الكتاب المقدس.

كان بولس هذا يشبه الغزالي من أوجه كثيرة، فكلٌّ منهما كان فقيهاً في دينه ومطَّلعاً على تأثير الشريعة الدينية في الحياة. وكلٌّ منهما صرح أن الإنسان يجد الدين الحقيقي في تدريب الحياة الباطنية ونموها بواسطة أخرى غير الشريعة.

عبراني بلا لوم

كان اسم بولس الرسول قبلاً «شاول الطرسوسي» افتخر بنسبته العِرْقية، وبسمعته كفقيه عالِم وغيور في ديانة آبائه وتضلعه في شريعة موسى وعيشته بلا لوم. ويقول عن نفسه: «إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ فَأَنَا بِٱلأَوْلَى. مِنْ جِهَةِ ٱلْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ ٱلنَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ. مِنْ جِهَةِ ٱلْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ ٱلْكَنِيسَةِ. مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ» (فيلبي 3: 4 - 6). فهل يمكن أن يوجد وصف أتم من هذا عن شخص كمَّل كل المطالب المطلوبة من اليهودي التقي؟ بل ويقول علاوة على ما ذُكر: «كُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي» (غلاطية 1: 14). وتربى شاول من طفولته بالتوراة والزبور متتبعاً نظام الأمة اليهودية، ومارس حتى أصغر التفاصيل لشروحاتهم الطقسية، مفتكراً أنه يمكن للإنسان أن يصير باراً بواسطة صلته بالناموس والتقليد بهذه الكيفية.

وزيادة على ذلك افتكر بولس أنه يكون أحسن يهودي، ويقدم أفضل خدمة لله إذا كان يضطهد ويهلك المسيحيين المؤمنين بأن يسوع هو المسيح. ولكنه لم يتأثر من عيشة القديسين الطاهرة الذين ضُربوا ورُجموا وسُجنوا واستشهدوا. وبلا شك أنه لاقى إيماناً أدهشه أيّما إدهاش في أولئك المستشهدين من المسيحيين، ولاقى نوعاً جديداً من الديانة التي انتجت نوعاً من الرجولة التي لم يرها قبلاً. وقد تحيَّر كل الحيرة من عيشتهم الروحية الغريبة، ومن شجاعتهم الفائقة، ومن محبتهم المخلصة، ومن عطفهم على إخوتهم في البشرية ورأفتهم على الفقراء والمساكين من أي طائفة كانت! ولم يقدر أن ينفض عنه الشعور أن أولئك المسيحيين المضطهدين كان لهم سر الحياة الحقيقية، وكانوا موشَّحين بقوة لا يعرفها ولم يسمع عنها، لا يمكن أن ديانته تعطيها له حتى وإن حفظ كل نقطة في الشريعة وسار بموجبها بلا لوم كل أيام حياته. ولا شك أنه ابتدأ يسأل نفسه: ما العمل إذا كانت التعاليم المسيحية حقيقية؟ تلك التعاليم عن الايمان والرجاء والمحبة المؤسسة على قبول المسيح المصلوب والمقام من الموت والذي صعد إلى السماء؟

رؤيا بولس وتجديده

من المحتمل كثيراً أن يكون ضمير شاول غير مرتاح تمام الراحة بحالته التي كان فيها، ومع ذلك من غيرته الدينية كان لا يزال يضطهد المسيحيين. ثم حدث في ظهر أحد الأيام، وهو مسافر الى دمشق، أن أبرق حوله بغتة نور من السماء أبهى من نور شمس الظهيرة. ولما سقط الى الأرض سمع صوتاً يقول له: «شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ فَسَأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ. فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: قُم وَٱدْخُلِ ٱلْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ» (أعمال 9: 3 - 7). أما الرجال المسافرون معه فرُبطت ألسنتهم عن الكلام، لأنهم اندهشوا إذ سمعوا الصوت ولو أنهم لم يميّزوا كلماته. لكنهم لم يروا أحداً. فتغيير شاول الفريسي القاسي إلى بولس المبشر الرقيق المحب، هو من أعجب الاختبارات الروحية المعروفة في تاريخ الديانة المسيحية، والمبرهنة بتغيير ذلك الشخص تغييراً كاملاً. إذ بعدما كان ذلك الطاغية الفريسي المتكبر، صار فيما بعد من أتباع يسوع الوديع المتواضع. والذي كان مضطهِداً صار أعظم معلم للطريق الذي كان يضطهده، ولم يعد تعليمه فيما بعد عن المبادىء اليهودية المنحصرة بين الشعب اليهودي، بل عن التعاليم المسيحية التي تعمّ كل الجنس البشري.

جعل بولس الرسول أهمية عظمى على تغييره العجيب هذا الذي صار في حياته وسلوكه، ولم يجد تشبيهاً يشبّه به حالته بعد ذلك التغيير أعظم من تشبيه خَلْق النور من الظلمة، عندما خلق الله العالم حيث قال في (2كورنثوس 4: 6) «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ». عرف بولس أنه قد رأى رؤيا، وكان له خبرة بالمسيح المصلوب والمقام، ذاك الذي لما كلَّمه من وسط النور الذي كان أبهر من نور الشمس في الظهيرة، بيّن له أنه لا يزال حياً، وأن الاضطهاد الذي كان يضطهد به بولس المسيحيين إنما هو موجَّه للمسيح نفسه.

لماذا تغيَّر بولس من الشريعة الى المسيح؟

ولرُبَّ سائل يقول: لماذا تغير بولس من شريعة موسى الى إنجيل نعمة الله بالمسيح يسوع؟ فنقول: إنه لما كان يقيس نفسه بمقياس البر الذي بحسب الشريعة كان يجد نفسه كاملاً، وذلك بحسب ما كان يظنه في حالته اليهودية. ولكنه ابتدأ يرى أن الشريعة ليس لها قوة لتكمله في عيني الله، وتأكد أن «ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰه» (رومية 3: 23). تأكد أيضاً أنه إن لم تتجدد الطبيعة الداخلية بطريقة يدبرها الله نفسه فلا بد أن نفسه (أي طبيعته الخاطئة الفاسدة) تهبط بروحه إلى حضيض الهلاك. وقد أثبت بالأدلة وجود طبيعة فاسدة في كل واحد منا متناسلة من آدم، وهذه الطبيعة لا تؤثر فيها أوامر الشريعة، بل ولا تمسها! وقد أيقن انه لا يمكن حدوث تجديد في نفس إنسان إلا بالإيمان بالمسيح.

فمبادىء المسيحية وآراؤها علّمت بولس جميع الحقائق العظمى التي يسعى وراءها الصوفي، كما يظهر من قولهم «مُتْ قبل أن تموت». ومن استعمالهم كلمات مثل: «الانفصال» و «التسليم» و «إنكار النفس» و «الاتحاد» وما شاكل ذلك. وبولس إذ تعلَّم من الروح القدس، شرح كل هذه الأفكار شرحاً مستفيضاً وفسرها تفسيراً لذيذاً.

وبعد ما قبل بولس المسيح يسوع كطريق الخلاص، صار له المسيح الكل في الكل، كما يستفاد من قوله: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2: 20).

فهذه الأقوال الجميلة التي نطق بها بولس معبّراً عن اتحاد حياة المسيح بحياته، ما هي إلا تعليم الروح القدس عن ذلك الاتحاد السري الذي قال عنه المسيح عندما سمَّى نفسه «الكرمة» و «الخبز الذي نزل من السماء».

تغيير المركز

لما اختار بولس هذا الشعار لنفسه لم يقصد به التأمل في ما عمله المسيح، ولا التمثُّل بالمسيح فقط (فهذا ميزة كل إنسان يعرف المسيح). بل اختار هذا الشعار لأنه وجد مركزاً جديداً لحياته، فقد قُلعت نفسه من مركزها الأصلي، وغُرست في حياة جديدة هي حياة الله، بحيث لما كان يقول: «أنا» بعد إيجاده ذلك المركز، كان قوله يختلف كل الاختلاف عن ذي قبل - فنراه يقول: «لست (أنا) بل نعمة المسيح الساكنة فيَّ». كذا لم يقل - لي الحياة هي نفسي - بل: «لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيح» (فيلبي 1: 21) ولا يُسمح للنفس الخاطئة فيما بعد أن تستبد بالحياة وتتسلط عليها ما دام المسيح قد سكن في النفس ليعطيها حياة ونمواً في القداسة. وبالإجمال يعطيها حساً جديداً بالملء الالهي الذي يملأها من الرجاء والمحبة والحرية والفرح في الروح القدس. ولذلك نجد أن بولس بعدما كان ينوح قائلاً: «مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هٰذَا ٱلْمَوْتِ؟» (رومية 7: 24)، نجده يصيح بصوت اليقين والفرح قائلاً: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ... ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا؟» (رومية 8: 35 و39).

لقد أوضح بولس ذلك جلياً في كل رسائله الى أن صار الاختبار الداخلي عند المؤمن الحقيقي بالمسيح لا يفرق شيئاً عن الحقيقة المنظورة والمحسوسة. وأحسن تعبير عن قولنا هذا واضح في قوله: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20). فكأن الغاية من تنفُّس بولس وعيشته وأكله وشربه وكل حركاته، أنه يوجد في شركة مع فاديه الذي صُلب لأجله وقام ثانية من بين الأموات. وحسب بولس أنه قد اشترك مع المسيح في آلامه تماماً، كأن تلك الآلام حلَّت عليه مراراً في كل أطوار حياته وفي جميع مظاهر عيشته.

وعلم بولس أن الايمان يطعّم المؤمن في المسيح، فيصيّره شريكاً معه في صليبه وقيامته ثانية من القبر. وكما مات المسيح فعلاً لأجل خطايانا وقام لأجل تبريرنا أمام الله، هكذا بصليبه يعطي القدرة للذين يؤمنون به لأن يموتوا كل يوم عن الخطية، وبقوة قيامته أن يحيوا للبر. وهكذا الإيمان الكامل يعني تسليم القلب والإرادة تسليماً كلياً لرئاسة الرب يسوع ولربوبيته، والتمثُّل به بعزم القلب واليقين. بل يعني أنه قبلما يقبل الإنسان المسيح، فالقُوَى تعمل فيه للإفساد. ولكن بعد أن ينال حياة جديدة (هي حياة المسيح فيه) تصير فيه قُوى جديدة تداوم على خطة الخليقة الجديدة العاملة للخير والإصلاح ولتخليص الآخرين. أو بعبارة أخرى إنه بما أن إرادة الانسان تُسلَّم تسليماً تاماً ليد الله، فحينئذ تعمل إرادة الله نفسه في شخصية الإنسان. فالفرق كله ينشأ عن جعل الإرادة الالهية عاملة يسري مفعولها فينا!

موتنا للخطية

على أن الطبيعة الخاطئة الفاسدة لا تزال موجودة ولكنها محسوبة أنها مصلوبة، ولذلك يقول الرسول بولس: «عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ» (رومية 6: 6). وشُبِّهت الخطية بشجرة نُزع قشرها جميعه وفعلاً صارت شجرة ميتة. فنتكلم عنها كأنها ماتت، ولكن لا تزال تحمل أغصاناً طرية. هكذا حال من صَلْب إنسانه العتيق، عنده حاجة لإماتة الشهوات والأميال. وهذه الإماتة وإن كانت مستحيلة على الإنسان الطبيعي، لكنها تصير ميسورة وممكنة للمؤمن الذي يعرف معنى الثبوت في المسيح، ويختبر سكنى المسيح فيه، ويعرف قوة الحياة المنتصرة التي يوجدها المسيح. فنحن لنا كمال اليقين أنه ما دام المسيح نال الغلبة على الخطية بالموت لأجلنا، فلا بد أنه ينال الغلبة أيضاً على الخطية بالحياة فينا. وعليه يقول الرسول بولس: «ٱحْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلٰكِنْ أَحْيَاءً لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 6: 11). و «قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ لِلّٰهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرٍّ لِلّٰهِ» (رومية 6: 13).

ونرى بولس الرسول يحثّ المسيحيين في كولوسي أن يكملوا اتحادهم السري بالمسيح بواسطة صعودهم في حياتهم الروحية إلى السماء عينها، بحيث كما صعد المسيح الى السماء هكذا يجب على المؤمن ان يصعد. فقد قال: «قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ. ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللّٰهِ» (كولوسي 3: 1 - 3). أَوَليس هذا الاختبار هو عين ما يبتغيه المسلمون المتعبّدون؟ نعم! إنه سر عظيم كما يسمّيه الرسول، ولكنه يُنَال بالإيمان، إذ يقول: «فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2: 20).

فلاحظوا إذاً أن كل ما قاله بولس في كل رسائله عن الخلاص والاتحاد السري بالمسيح يمجّد الله لأجل نعمته العجيبة ورحمته الوافرة ومحبته المجانية، التي بها أعدَّ الطريق ودبَّر الواسطة التي بها أمكن أن يصالح الخطاة لنفسه.

المسيح حياة الكنيسة

توسَّع بولس أكثر في إيضاح هذه الحقيقة، فبيَّن لنا أن المسيح هو النقطة المركزية للمؤمن، وذلك ليس عن اختبار الفرد فقط بل أيضاً هو عن اختبار كنيسة المسيح الحقيقية التي تضم المؤمنين بالمسيح إيماناً صحيحاً. ويتضح ذلك من مراجعة قول المسيح: «أَنَا ٱلْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ ٱلأَغْصَانُ» (يوحنا 15: 5) .. و «حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متى 18: 20).

فقرر المسيح أُخُوَّة المؤمنين، بل إنه أسس «أخوية» لهم، بحيث لا يكونون متحدين معاً نظير اتحاد الجمعيات والاتفاقيات العالمية (التي ما هي سوى محالفات ومعاهدات استبدادية قائمة على طلب المنافع الشخصية) بل جعلهم عائلة واحدة كبيرة ولها رأس واحد هو المسيح نفسه. وقد علّم بولس الرسول أن تلك العائلة لها وحدة التصاق الواحد بالآخر، لأن لهم حياة واحدة عامة هي حياة المسيح، فلذلك الكل واحد فيه وبه.

ولقد شبَّه القديس أكليمندس الاسكندري (الذي عاش بعد بولس الرسول بوقت وجيز) وحدة الكنيسة بسلسلة متصلة حلقاتها معاً بقوة مغناطيسية. ولكن المهم لدينا هو تشبيه بولس الرسول الذي قال: «أَنْتُمْ... بِنَاءُ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 3: 9) والأساس هو المسيح، والبناء بأكمله مقام على الأساس كأنه حجر واحد!

الكنيسة هي عضوية روحية حية

أجمل تعبير عبّر به بولس عن وحدة المسيح وشعبه هو «جسد الإنسان ورأسه». وهذا متفق تمام الاتفاق مع فكر المسيح عن كنيسته كونها عضوية روحية - المسيح هو رأس جسده الذي هو الكنيسة. فهو مركز الوحدة والسلطان. وكما أن أبعد غصن في الكرمة يحيا بحياة الأصل، هكذا كل عضو في الجسد بمفرده له صلة حيوية بالرأس. فهكذا حياة الفادي المحيية تفيض منه إلى كافة أعضاء جسده الذي هو الكنيسة. و يقول الرسول: «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلْجَسَدَ هُوَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ أَعْضَاءِ ٱلْجَسَدِ ٱلْوَاحِدِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً هِيَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَذٰلِكَ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً. لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً ٱعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ.. َوجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً.. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَاداً» (1كورنثوس 12: 12و13و27). ويقول أيضاً: «نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ ٱلَّذِي هُوَ ٱلرَّأْسُ: ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ ٱلْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي ٱلْمَحَبَّةِ» (أفسس 4: 15و16).

ثم نرى أن بولس يشبّه اتحاد المسيح وكنيسته بتشبيه آخر هو الاتحاد بين الزوج والزوجة. إذا نظرنا إلى الزواج من جهة أسمى معانيه، فيعلمنا أن المسيح هو رأس الجسد، ولذلك له السلطان على كنيسته. وهكذا الرجل هو رأس المرأة. وكما يخضع الجسد للرأس هكذا النساء يخضعن لأزواجهن. لكن ذلك السلطان وذلك الخضوع يكونان بالمحبة، لأنه «كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا كَذٰلِكَ يَجِبُ عَلَى ٱلرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا ٱلرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ. لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ» (أفسس 5: 25و28 - 30).

وينبغي أن نشير هنا إلى أن اتحاد المؤمن هذا لا يستلزم أنه يبقى جامداً بدون عمل، ففي توضيح بولس الرسول عن البناء نجده يبيّن واجبات كل فرد، ويشدد على كل واحد بوجوب عيشة القداسة لأن المؤمن هو هيكل الله وروح الله القدوس يسكن في قلبه. ولما شبَّه المؤمنين بجسد شدد على نشاط كل عضو لكي «يُحَصِّلُ نُمُوَّ ٱلْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي ٱلْمَحَبَّةِ» (أفسس 4: 16) وبيّن أيضاً أن الأعضاء المتنوعة يجب أن يكون لها حِس واحد، ويشترك الواحد مع الآخر في أفراحه وأحزانه، وقال: «بَلْ تَهْتَمُّ ٱلأَعْضَاءُ ٱهْتِمَاماً وَاحِداً بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ» (1كورنثوس 12: 25 و26). فالحياة الروحية يجب أن تستمر على النشاط الديني لأن العبرة كل العبرة على العمل والسيرة، لأن المؤمن الذي يبدأ في اختبار الحياة في المسيح ينتظر منه ألاَّ يهمل الصلاة، والذهاب إلى بيت الله، ومساعدة الإخوة في أعوازهم. يقول بولس: «مُواظِبِينَ عَلَى ٱلصَّلاَةِ» (رومية 12: 12). وكانت شفقته على الآخرين واشتراكه في حاسياتهم مثالاً حسناً لكل واحد، فإننا نجد عيّنة من عطفه ظاهرة في قوله: «مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟» (2كورنثوس 11: 29).

فهل يمكن وجود اتحاد بين الله والإنسان أفضل من الاتحاد الذي يُنتج الوحدة البديعة بين الإنسان وأخيه الإنسان، ويربطهم برباط متين في شخصيتهم وحياتهم بذلك المركز الذي هو المسيح الفادي الوحيد والشفيع الفريد والطريق والباب الوحيد؟

وعلّمنا بولس أن بالمسيح تتسبَّب وحدة مفرحة لكل الأشياء في الكون، وأُوحي إليه أن كل الأشياء قد خُلقت في المسيح وبه وله، وأن المسيح هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل، وهو أصل كل شيء ورأس كل شيء، وبه يقوم كل شيء (كولوسي 1: 17). وبالاختصار فإن المسيح هو المفتاح الذي يفتح كل أسرار الكون، وكل الكون يكمل به وبواسطته.

ولا غرابة في ما كتبه براوننج حيث قال:

«لما يقبل العقل معرفة الله في المسيح، تنحل أمام الإنسان كل المسائل في الأرض، ويزداد العقل حكمة وفهماً».

لقد اجتهدنا أن نوضح للقراء المعنى الحقيقي للطريقة الباطنية، ورأينا أن التصوف والمسيحية يقرران ضرورة وجود وسيط له نسبة أقرب لله. ورأينا أيضاً أن التوبة وإنكار الذات والإيمان والاستسلام لله هي وسائط ضرورية بالنسبة لنا لنوال الطهارة الكاملة والمصالحة مع الله ونوال الاتحاد معه تعالى.

ولإزالة كل سوء فهم لنعيد النظر في أقوال الانجيل المعَبّرة عن المصالحة التي تتم بالمسيح بين الله والناس، فقيل في (2كورنثوس 5: 19) «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ». وواضح من هذا أن فداء الجنس البشري هو من الأمور الأولية عند الله، وأن محبة الله ونعمته المجانية قد دبرت طريقة بها تتحول ظلمة قلوب البشر الى نور، ويتحول كل تشويش وفساد إلى نظام ونقاوة، وينقلب كل نفور وابتعاد إلى مصالحة وقبول، وان هذه المصالحة يعملها الله بنفسه. وواضح أيضاً أن المسيح هو الواسطة الوحيدة في هذه المصالحة، لأن بفدائه وبشفاعته انفتح طريق جديد حي وفعال به يمكننا أن ننال الخلاص من خطايانا، ونحظَى بقربى عظمى لله، بل نحظى بالاتحاد به حتى نقدر أن نقول له بملء القلب: «أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 6: 9).

ويخبرنا الانجيل عن نسبة المسيح لله فيقول: «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ» (كولوسي1: 19 و20). وهذا القول يعني أن المسيح لأنه مركز عهد النعمة، والمُرسَل لإتمام المشيئة الإلهية بخصوص خلاصنا، كان له كل الصفات القدوسة والكمالات الروحية التي يُنتظَر وجودها في الله، والقائم عليها الله جل جلاله - لاحظ ماذا يقول الكتاب: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ» (كولوسي 2: 9). أي أنه لم يحلَّ فيه كل ما هو إلهي، بل اللاهوت نفسه. وفي تقديمه نفسه ذبيحة عن خطايانا فوق الصليب ظهر في شخصه كمال القداسة والمحبة والقدرة الإلهية وكمال البر الإلهي. وفي عمله الكفاري بسفك دمه وبشفاعته قد تمم الكيفية التي أوجد بها الله السلام للجنس البشري جميعه، وقد اكتفت قداسة الله واقتنعت بصليب المسيح، وفي الوقت نفسه ظهرت نعمة الله المجانية وتبرهنت محبته الكاملة. وكل من يؤمن إيماناً حقيقياً بالمسيح المصلوب لأجله، يعرف سلام الله المشتَرى لنا بدم المسيح، السلام الناشئ عن شعورنا بالوحدة مع الله، وعن يقيننا بوجود حياة في داخلنا مرتبطة بالحياة الالهية. أما غير المؤمنين فلا يمكنهم أن يعرفوا شيئاً عن هذا السلام أو هذه الحياة، ما لم يسلكوا سبيل المسيح الذي قال: «أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ ... وَيَجِدُ مَرْعًى» (يوحنا 10: 9).

مسابقة كتاب «الطريقة»

أيها القارئ العزيز،

إن كنت مجتهداً في قراءة هذا الكتاب، يمكنك الإجابة على الأسئلة التالية بسهولة. الرجاء إرسال الإجابات على قسيمة الاتصال بنا الموجودة على الموقع.

  1. من هم أتباع الديانة الباطنية؟

  2. أوردنا ستة أبيات من الشعر لمحيي الدين الشيخ عبد القادر الكيلاني، يقول مطلعهم «قطعتُ جميع الحُجْب» - اكتب هذه الأبيات الستة نثراً َبأسلوبك.

  3. ما هو التغيير الأخلاقي، الذي نسمّيه أحياناً «التجديد»؟

  4. اذكر كيف تغيَّر طاغور أمير شعراء الهند.

  5. اذكر كيف تغيَّر الإمام الغزالي.

  6. من هم «المساكين بالروح» الذين مدحهم المسيح؟

  7. كيف وجد العلاَّمة عماد الدين «من البنجاب» سلامه مع الله؟

  8. «وإن منكم إلا واردها» (مريم 72) - ماذا كان تأثير هذه الكلمات على العلاَّمة عماد الدين البنجابي؟

  9. «يجب أن تموت قبلما تموت» - كيف تتحقق هذه النصيحة؟

  10. ما معنى قول المسيح: «أنا هو الباب»؟

  11. كيف ترى في المسيح المرشد الروحاني الكامل؟

  12. ماذا قال جلال الدين الرومي في قصيدته «المثناوي» عن المسيح؟

  13. ما معنى قول المسيح «أنا هو خبز الحياة»؟

  14. ما معنى قول المسيح: «أنا الكرمة وأنتم الأغصان»؟

  15. كيف تغيرَّت حياة شاول الطرسوسي؟

الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:

www.the-good-way.com/ar/contact

او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:


The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland