Table of Contents
شخصية المسيح من أكثر الشخصيات التاريخية التي أثارت حولها جدلاً عنيفاً لم تنطفئ جذوته على مدار ما يقرب من ألفي عام، فقد كانت ولادته محل أسئلة وجدال، وكانت حياته مثار تعليق ونقاش، ثم أصبح موته وقيامته وصعوده للسماء، وانتظار مجيئه ثانية إلى أرضنا ليكون حكَماً عادلاً تحوُّلاً في مسار البشرية الفكري والاعتقادي. وبسببه قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن.
وكان من المتوقَّع أن تهدأ عاصفة الحوار حول المسيح الذي فيه نرى كمال البشرية، وكمال الألوهية، بانتشار أسفار العهد الجديد، واعتبار كلمتها كلمة الفصل في الجدل القائم. غير أن طبيعة البشر التي فُطرت على الخلاف والاختلاف، أبت إلا أن تفكر، ثم تنظر وتفكر. فمنها من آمن، ومنها من أصرَّ واستكبر.
وعُقدت المجامع الكنسية وخرجت القرارات تحسم الموقف، وما له من حاسم! والبشرية مختلفة منقسمة وما زالت!!
وإذا كانت حياة المسيح ومعجزاته لم توجّه الفكر البشري إلى اتجاه واحد، ولم يكن صلبه وتألّمه دافعاً لهذه الوحدة، ولم تفلح كتابات تلاميذه وشهود العيان في تحقيق الخلاص للبشرية جمعاء، فنحن لا ندَّعي لبحثنا، ولا نطمع لدراستنا أن تحقق هذا .. بل حسبنا أنه جهد نضعه أمام ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، شهادة لنا قبل غيرنا. رافعين صلواتنا أن يكون بركة لمن يقرأه، وأن يهدينا سواء السبيل.
المؤلفون
وردت في نصوص القرآن طائفة من الكلمات التي تعبّر عن الخطية، أشهرها:
الذنب: وقد خصص القرآن لها 39 آية، أكثرها تداولاً «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (الفتح 48: 1 و2).
الفحشاء: وتُستعمل بالأكثر للتعبير عن خطية الزنا، وقد نهى القرآن عنها بقوله: «وَلاَ تَقْرَبُوا ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» (الأنعام 6: 151).
الوزر: إذ يقول: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ٱلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (الشرح 94: 1 - 3).
الضلال: كقوله: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى؟» (الضحى 93: 5 - 8).
الإثم: كقوله: «وَذَرُوا ظَاهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ» (الأنعام 6: 120).
الخطيئة: كقوله: «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً» (النساء 4: 112).
وهناك كلمات أخرى كثيرة استخدمها الإسلام للتعبير عن مفهوم الخطية، منها الكفر والظلم والفجور والشر والسيئة والسوء والفساد والفسق والبهتان.
يؤكد القرآن وجود الخطية الأصلية ويقرّ بأنها كانت سبباً لسقوط آدم وحواء وذريتهما، وذلك في آيات كثيرة منه، نكتفي بذكر أوضحها: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ» (البقرة 2: 35 - 37). ولنلاحظ صيغة الجمع «اهبطوا» مع أن الكلام موجَّه إلى اثنين فقط، هما آدم وحواء. وهذا يعني أن آثار خطية أبوينا الأوّلَين حلّت بذريته، كما يقولون، فقد «عصى آدم فعصَت ذريته».
اختلف علماء المسلمين في المكان الذي كان فيه آدم وحواء قبل السقوط، ففي الوقت الذي يؤكد فيه الإمام «الجبائي» أن هذه الجنة كانت في السماء السابعة، والدليل على ذلك قوله «اهبطوا» نجد عالِماً آخر مثل أبو القاسم البلمني يقول إن الجنة كانت في الأرض، وفسَّر الإهباط بالانتقال من بقعة إلى أخرى.
ويتفق القرآن مع التوراة في أن آدم وحواء أقدما على الأكل من الشجرة بغواية الشيطان، إذ يقول: «فأزلَّهما الشيطان». ولما كان آدم في نظر القرآن نبياً، والأنبياء (حسب الفكر الإسلامي) معصومون عن الخطأ، فقد قام إشكال في حادث سقوط آدم. وحاول مفسرو المسلمين الخروج من الإشكال فقالوا: إن آدم عندما صدرت عنه تلك الزلَّة لم يكن نبياً، ثم بعد ذلك صار نبياً. غير أن هذا الرأي لم يلقَ إجماعاً، وقال آخرون إن آدم كان نبياً منذ البدء، وإنما وقع في زلته وهو ناسٍ. ومثَّلوه بالصائم الذي يشتغل بأمر ما يستغرقه ويغلب عليه، فيسهو عن الصوم ويأكل أثناء ذلك السهو، لا عن قصد.
ولكن كيف يمكن أن يُقبل مثل هذا التفسير، والقرآن يقول في الآية التالية: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ» (البقرة 2: 37). فكلمة «تاب» هنا تدل على أنه وقع في الخطية فعلاً وباختياره، وأنه حاول إلقاء المسئولية على حواء كما تخبرنا التوراة. ثم أن كلمات آدم وحواء إلى ربّهما تؤكد ما ذهبنا إليه «قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ» (الأعراف 7: 23).
وهذا ما قاله الإمام الفخر الرازي: قصة آدم عليه السلام، تمسكوا بها من سبعة أوجه:
إنه كان عاصياً، والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة، لوجهين:
أ - إن النص يقتضي كونه معاقباً لقوله تعالى: «ومن يَعْصَ الله ورسوله فإن له نار جهنم».
ب - إن العاصي اسم ذم، فيجب أن لا يتناول إلا صاحب الكبيرة.
في التمسك بقصة آدم إنه كان غاوياً، كقول القرآن «فغوى». والغِيّ ضد الرُّشد.
إنه تائب والتائب مذنب. والتائب هو النادم على فعل الذنب. والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلاً للذنب. فإن كذب في ذلك الإخبار فهو مذنب في الكذب، وإن صدق فيه فهو المطلوب.
إنه ارتكب المنهي عنه في قوله: «أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ؟» (الأعراف 7: 22) «وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ ٱلشَّجَرَةَ» (البقرة 2: 35). وارتكاب المنهي عنه عين الذنب.
سُمِّي ظالماً في قوله: «فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ» (البقرة 2: 35). وهو سمَّى نفسه ظالماً في قوله: «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا» (الأعراف 7: 23) والظالم ملعون لقوله: «أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ» (هود 11: 18). ومن استحق اللعن كان صاحب الكبيرة.
اعترف بأنه لولا مغفرة الله له لكان من الخاسرين في قوله: «وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» وذلك يقتضي كونه صاحب الكبيرة.
وهناك نص قرآني يحسم الموضوع في أن آدم مذنب، هو قوله: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» (طه 20: 120 و121). و «غوى» من الغواية. وقال الرازي في تفسيرها: «الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغيّ ضد الرشد. ومثل هذا الإثم لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه».
ولقد تعجب الإمام الباهلي من خطية آدم فقال: «إن واقعة آدم عجيبة، لأن الله تعالى رغَّبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله: «يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى» (طه 20: 117 - 119). ورغَّبه إبليس في دوام الراحة بقوله: «هل أدلّك عن شجرة الخلد؟» وفي انتظام المعيشة بقوله: «وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى» (طه 20: 120). فكان الشيء الذي رغَّب الله به آدم هو الشيء الذي رغّبه فيه إبليس، إلا أن الله وقَّف ذلك على الاحتراس من تلك الشجرة، وإبليس وقّفه على الإقدام عليها. ثم أن آدم مع كمال عقله وعلمه بأن الله مولاه ومربّيه وناصره، أعلمه أن إبليس عدوه، فكيف قَبِلَ قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له، وأعرض عن قول الله؟» .
لقد عجز مفسرو المسلمين عن إخفاء ذنب آدم، لأن القرآن يقول: «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» (طه 20: 121). وأجمعوا أن العصيان ذنب، وأن العاصي اسم للذم، فلا يُطلق إلا على صاحب الكبيرة، ولا معنى لصاحب الكبيرة، إلا من فعل فعلاً يُعاقب عليه.
أخطأ الإنسان منذ البداية، فقال عن آدم وحواء: «فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ» (البقرة 2: 36). طَرَدَ الله آدم من الجنة فانفصل روحياً عن الله.
تقول شريعة الله: «أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية 6: 23). والموت المقصود هنا هو الانفصال الروحي عن الله. فلما أخطأ آدم مات روحياً، وتابعت ذريته السير على منواله «عصى آدم فعصت ذريته» فكل بني آدم خطّاء. وهذا ما يقوله القرآن أيضاً: «إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَيَطْغَى» (العلق 96: 6) «إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (إبرهيم 14: 34) «إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ» أي كفورٌ جاحدٌ بالنعمة (العاديات 100: 6) ونفس الإنسان «أَمَّارَةٌ بِٱلسُّوءِ» (يوسف 12: 53) «وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ» (النحل 16: 61). إذاً كيف ينجو الإنسان من الجحيم وهو بهذه الطبيعة الساقطة؟!
ولا ينسب القرآن الخطية إلى آدم فحسب، بل ينسبها إلى كل الأنبياء - نورد منهم:
إبرهيم أب المؤمنين والأنبياء، كفر ثم اهتدى (الأنعام 6: 76 وإبرهيم 14: 41) وكذب ثلاث مرات كما يقول الحديث: «لم يكذب إبرهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله: قوله «إني سقيم» (الصافات 37: 89) وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» (الأنبياء 21: 63) وقوله لسارة هي أختي» .
وموسى صاحب الشريعة، الذي كلّم الله تكليماً (النساء 4: 164) وكز المصريّ فقضى عليه، فقال: «هَذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ» (القصص 28: 16).
وداود، صاحب الزَّبور: «وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ» (ص 38: 24 و25).
وينسب القرآن الخطأ إلى محمد فيقول: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ٱلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (الشرح 94: 1 - 3). ولابد أنه كان وِزراً ثقيلاً ذلك الذي أنقض ظهره! ويقول له: «وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى» (الضحى 93: 7)، والضلال من أعظم المعاصي والكبائر. ويقول له: «لِيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (الفتح 48: 2) فسبق له ذنوب تتبعها ذنوب. وقد شعر محمد بحاجة دائمة إلى الاستغفار «واستغفر لذنبك» (غافر 40: 55) ويتكرر استغفاره في النساء 106 ومحمد 19.
ويُنسب الشك إلى محمد، فيُقال له: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَٱسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَأُونَ ٱلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ ٱلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ» (يونس 10: 94). وتملَّق محمد قومه بالشفاعة للأصنام في (الإسراء 17: 73) فيُقال له: «وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ». وأذِنَ محمد للمنافقين بالقعود عن الجهاد: «عَفَا ٱللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» (التوبة 9: 43). وفي الحديث ورد قوله: «فوالله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (البخاري - مشكاة المصابيح حديث رقم 2323).
لكن هناك واحداً فقط لا يذكر له القرآن إثماً ولا علاقة بالخطية على الإطلاق، هو المسيح عيسى ابن مريم، ولا نجد له حاجة للاستغفار أو التوبة، بل ميَّزه القرآن بصفات، يسطع نورها بالمقارنة بما ارتكبه الأنبياء من خطايا.
وهكذا نرى أن «ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية 3: 12) فوقع الجميع تحت حكم الموت، لأن الله عادل وشريعته تقضي بموت الجميع. فإذا كان المشرّع لا يعمل بما سنَّهُ، فقُلْ على العدالة السلام. لكن حاشا لله، فلا بدّ لشريعته أن تأخذ مجراها، فالله قدوس ولا يطيق الإثم.
ومنذ البداية كانت الذبائح الدموية وسيلة التكفير عن الخطية، وهو ما نصَّت عليها شريعة موسى، ويتضح ذلك في قول الإنجيل: «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين 9: 22). وهناك مثل واضح على الفداء الإلهي في القول: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (الصافات 37: 107). وهذه كلها تشير إلى ذبيحة المسيح العظمى، لأن الذبيحة بنفسها لا يمكن أن تفدي الإنسان، لأنها لا تساوي قيمته.
وتوجد في الإسلام ذبائح دموية للحصول على مغفرة الخطايا والقبول لدى الله. فالمسلمون يعلمون أن ذبائحهم في عيد الأضحى ليست لمجرد الأكل.
فما هو سببها؟ أليست هي للتكفير عن الخطايا، ومحاولة الحصول على الغفران؟!
قاموس البستان: يوضح معنى الخطية ومرادفاتها على النحو الآتي:
خطئ = تعمد الذنب
أخطأ = أصاب الذنب على غير عمد
خطأ الهدف = أنه لم يصب الهدف
والخاطئ = من تعمد لما لا ينبغي
الآثم = المذنب
الشر = اسم جامع للرذائل والآثام
والخطية كما وردت في الأصلين العبري واليوناني تحمل المعاني التالية:
الخطية: ومعناها عدم إصابة الهدف. فلكلٍ منا هدف خلقه الله لأجله. وعندما لا نصيب هذا الهدف ولا نمجد الله نكون بذلك قد أخطأنا إليه.
الإثم: ويُقصد به عدم البر وعدم الاستقامة. إنها ترينا عَوَجَ البشر الذين لا يسيرون في الطريق المستقيم الذي هو طريق البر.
الشر: ويُقصد به التعدي وتخطي الحدود التي رسمها الله لنا، فقد نشأنا وفينا دوافع وميول لها حدود مقدسة، ومتى تعدَّينا هذه الحدود نكون قد فعلنا الشر، فعندما يتحول النظر البريء إلى شهوة، وحب الاستطلاع إلى تطفل، نكون بذلك قد تعدَّينا الحدود المقدسة التي رسمها الله.
المعصية: وهي الثورة على الله. العصاة هم المستهزئون الذين سخروا بالله واحتقروا كلامه.
وفيما عدا «المعصية» فإن الأنواع الثلاثة الأخرى يمكن أن تكون خطايا سهو أو خطايا عمد. وخطايا السهو هي التي رُسمت لها كل الشرائع والذبائح في التوراة. أما خطايا العمد فلا كفارة لها. قال داود النبي: «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مزمور 51: 16). وهذا يعني أن خطايا العمد لا يكفر عنها سوى القلب المنكسر والروح المنسحق أمام الله، ولذلك صلى داود النبي: «ٱمْحُ مَعَاصِيَّ. ٱغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي» (مزمور 51: 1 و2).
يحدثنا سفر الخروج 34: 7 عن الله أنه «غافر الإثم والمعصية والخطية» مما يرينا ثلاثة أنواع: إثم، ومعصية، وخطية. ويصوّر لنا كاتب المزمور الأول (1: 1) «الرَّجُلِ ٱلَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ ٱلأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ ٱلْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ». ونرى هنا ثلاثة أنواع: «الأشرار، والخطاة، والمستهزئين». ويُقصَد بالمستهزئين «العصاة» الساخرين بشريعة الله.
كلمة «خطية» تعبير فقهي لاهوتي وليست تعبيراً من علم النفس، لأن الخطية ترتبط بالسلوك الأخلاقي للإنسان، بينما يهتم علم النفس بدراسة «الذنب» والإحساس به الذي يلعب دوراً كبيراً في حياة الإنسان العقلية، سليمة كانت أو مريضة.
هل يبرر علم النفس الخطية؟
يقول بعض البسطاء إن علم النفس يبرِّر الخطية. وليس هذا صحيحاً، فعلم النفس لا يحل محل الدين، وإنما هو وسيلة يستخدمها الدين لتوضيح أغراضه. يعاون علم النفس الدين في فهم الأسباب الدافعة للخطية، فبينما يكشف الدين النقاب عن «الخطأ» ويوضح له خطيته بأنها «الانفصال عن الله» يكشف علم النفس النقاب عن الأسباب التي دفعت المخطئ لهذا الخطأ.
الخطية ظاهرة في تاريخ البشر، يقرّ بها كل إنسان يفحص نفسه أو ينظر إلى غيره، لأن جميع البشر، حتى الذين لم يتلقّوا نور إعلانات السماء يشعرون بخطاياهم، ويقرُّون بنقصهم وعجزهم عن القيام بما كلَّفهم الله به.
وليست الخطية هي الشر الفاضح فقط، بل هي أساساً الانفصال عن الله خالقنا والهدف الوحيد لنا. وهذا الانفصال لا يكون بارتكاب الشر فحسب، بل هو أيضاً عدم فعل الخير. وقد عُرف بالاختبار أن الإنسان «الطبيعي» لا يستطيع أن يميّز قوة الخطية وشدة فعلها في البشر كما يميزها الإنسان «الروحي» الذي أدَّبته شريعة الله وقادته إلى المسيح، فأعطاه النعمة ليعرف حقيقة الخطية وأثرها في جرّ الإنسان إلى حال الفساد، وتبعاً لذلك صار يشعر بالحاجة إلى معونة النعمة الإلهية، وإلى دم الكفارة لأجل تبريره.
والخطية بوجه عام هي التعدي (1يوحنا 3: 4) على شريعة الله، فهي جُرْمٌ بحق الله، مهما كان عذر مرتكبها، وأياً كان حجمها.
قال الرسول بولس: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية 5: 12). وهذا يعني أن الخطية بدأت في عالمنا بآدم أب البشر. ويعتبر بولس أن آدم وحواء واحد يمثل البشرية كلها، فيقول «بإنسان واحد» معتمداً على قول موسى «ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُ» (تكوين 5: 2). ولم يذكر الرسول بولس تجربة الحيَّة، ولا معصية حواء، لأن غايته أن يبيّن أن آدم كان في ما فعله نائباً عن كل نسله. وهذا يعني أن كل إنسان خاطئ فاسد بطبيعته، وخاطئ فاسد بأعماله.
لا يمكن للكائن الحي أن يلد كائناً مغايراً له، فالثور لا يلد حملاً. وقال المسيح: «هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ عِنَباً، أَوْ مِنَ ٱلْحَسَكِ تِيناً؟» (متّى 7: 16). وهذا القانون ينطبق على الإنسان، فآدم أب البشر فقد بعصيانه حياة الاستقامة، وقصاصاً له طُرد من فردوس الطهر إلى أرض لعنها الله بسبب الخطية. وعلى الأرض أنجب آدم نسلاً كان بالطبيعة مطروداً، فاقداً ميراثه في الفردوس. ويقول النبي داود: «بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور 51: 5) وقال الرسول بولس «لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ ٱللّٰهَ. ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية 3: 10 - 12).
وشرح أغسطينوس تعاليم الكتاب المقدس في السقوط، فقال:
خلق الله الإنسان على صورته. ويتفق المسلم مع هذه الفكرة، في تعليقه على قصة خلق آدم، فيقول عن آدم: «كان مختاراً خالداً، وخوَّله سلطاناً على الخلائق مع القدرة على اختيار الخير والشر، وإثبات طبيعته الأخلاقية».
ترك الله آدم لحرية إرادته، ولما جرَّبه إبليس أخطأ إلى الله وسقط من حالة البراءة التي خُلق عليها.
نشأ عن معصيته ضياع الصورة الإلهية وفساد طبيعته كلها، حتى صار ميتاً روحياً، لا يميل إلى الخير الروحي، وعاجزاً عنه ومضاداً له. وصار أيضاً قابلاً للموت جسدياً، وعُرْضة لكل سيئات هذه الحياة والموت الأبدي.
الاتحاد النيابي بين آدم ونسله هو علة ما حلَّ بهم من نفس نتائج المعصية التي حلَّت عليه، فإنهم يولدون خالين من صورة الله، فاسدين أخلاقياً، وفي حال الدينونة (راجع رومية 5: 12 - 19).
لم يرث الإنسان طبيعة فاسدة فحسب، بل أخطأ بأعماله وأفعاله.
ضياع البرّ الأصلي وفساد الطبيعة، اللذين نتجا عن سقوط آدم، وهما عقاب لخطيته الأولى.
التجديد، أو الدعوة الفعّالة، هو عمل الروح القدس العجيب الذي تكون فيه النفس مفعولاً لا فاعلاً. ويتعلّق كله بإرادة الله. فيلزم عن ذلك أن الخلاص هو من نعمة الله. والنعمة هي عطية مجانية، من شخص قادر، لآخر عاجز وغير مستحق.
قال الله لآدم: «وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين 2: 17). ونقرأ أيضاً في حزقيال 18: 20 «اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» ونقرأ في رسالة رومية 6: 23 «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» وقد مات آدم وحواء روحياً، حين سقطا وانفصلا عن الله، وفقدا تلك الشركة الروحية المقدسة مع الرب الإله. وتبعاً لذلك فقدا الشوق للمثول في حضرته، فاختبأ آدم وحواء من وجهه في وسط أشجار الجنة (تكوين 3: 8). ولا بد أنهما شعرا بالضعف الجسدي والمرض والانحلال، فتذكرا إنذار الرب: «يوم تأكل منها موتاً تموت». ومن المروّع أن يرتسم عقاب عصيان آدم أمام عينيه!
ولكن هل خسرت العائلة الأولى كل امتيازاتها؟ وهل ضاع الرجاء في عودة الإنسان إلى الفردوس الذي فقده بسبب الخطية؟ وهل انتُزعت منه طهارته إلى الأبد؟ كلا! لأن الله محب. إنه هو ذاته محبة، ومحبته غنية، وعنده غفران كثير. وهو الذي لا يُسرّ بموت الخاطئ. فأخذ المسيح دور المنقذ الفادي، الكلمة الذي كان في البدء عند الله. وأول ما صنعته محبة الله هو ستر عري آدم وحواء بلباسٍ خاصٍ من تدبيره الصالح. إنه «لباس التقوى» (الأعراف 7: 26)، «فصنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما» (تكوين 3: 21). وبذلك كرَّس الرب الإله عهد الكفارة، ثم أعطى لهما الله «كلماتٍ» هي الوعد بمجيء المسيح، نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15).
قد لا تحتاج لتعقيم الماء قبل أن تشربه. وقد تتهاون مع قليل من الغبار في الماء لو كنت في شديد العطش. لكن مهما عظم عطشك فإنك لا تتهاون مع السم!
وإذا كان عندك كأسان من الماء، بأحدهما نقطة واحدة من سم قاتل، وبالآخر عشر نقاط من نفس السم، فإنك لاتفضل أحدهما على الآخر، فبالكأسين سم قاتل.
هذا المثل يوضح لماذا يقول الله: «مَنْ عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ» (يعقوب 2: 10). فالخطية ليست مجرد غبار، بل هي أكثر ضرراً من السم نفسه! حتى أن الرسول بولس عبّر عنها وعن خطورتها وشرها بالقول: «ٱلْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً» (رومية 7: 13). فالخطية مهما صغُرت تفصل الإنسان عن الله، لأنها لا تتفق مع قداسة الله، فهو لا يطيق الإثم، فمع محبته للخاطئ إلا أنه يكره الخطية.
من البديهي أننا نحتاج لدواءٍ يناسب الداء، وكلما تفاقمت حالة الداء احتجنا لدواءٍ أقوى وأنسب.
وتكمن خطورة الخطية في أنها موجَّهة ضد الله نفسه. يخطئ الإنسان في حق من هو أقل منه، وهذا أسهل جداً من أن يخطئ في حق شخصٍ مساوٍ له. كما أن هذا أسهل جداً من ارتكاب الخطأ في حق من هو أعلى منه. فالأمر يزداد خطورة عندما يخطئ العبد في حق السيد أو الرئيس. وهذا ما حدث، فالخطية هي خطأ العبد ضد السيد الأعظم وهو الله. ومن هنا تظهر خطورة الخطية التي يرتكبها هذا العبد الضعيف في حق سيد الكون.
وتكمن خطورة الخطية في أنها موجَّهة ضد الله الذي لا نهاية لعظمته ومجده، فالعقوبة المستحقة عنها هي عقوبة لا نهاية لها، فليس من الغريب أن يقول الله لآدم إنه يوم يأكل من الشجرة التي نهاه عنها «موتاً يموت».
والخطية خطيرة تستوجب الموت، وتحتاج إلى كفارة أو ستر كافٍ. وكلمة «كفارة» في أصلها العبري تعني ستر أو غطاء، وكان لابد من كفارة تستر خطية الإنسان وعريه.
تُرى ما هي الكفارة الكافية التي ترضي الله، وتبرر الإنسان أمامه؟
يتفق الفكر الإسلامي مع الفكر المسيحي في وقوع آدم وزوجته في الخطية، ويتفقان في معنى كلمة «كفّارة» وهو ستر الإثم وتغطيته فلا يعود يُحسَب ضد مرتكبه. قال الراغب الأصفهاني في كتابه «مفردات ألفاظ القرآن»: «الكفارة ما يغطي الإثم. والتكفير ستره وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يُعمل. ويُقال: كفرت الشمس النجوم، سترتها». ولكن الفكرين الإسلامي والمسيحي يختلفان في طريقة التكفير عن الخطية.
ففي الفكر الإسلامي نجد طرقاً عديدة يكفّر الله بها عن الخطايا ويغفر بها الذنوب منها:
الإيمان: فيقول القرآن: «رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ» (آل عمران 3: 193). ونجد الفكرة نفسها في المائدة 5: 12 و65 والزُّمَر 39: 35 ومحمد 47: 2 والفتح 48: 5 و التغابُن 64: 9.
الصَّدقة: فيقول القرآن في البقرة 2: 271 «إِنْ تُبْدُوا ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ». ونجد الفكرة نفسها في المائدة 5: 12.
الاستشهاد: فيقول القرآن: «فَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ» (آل عمران 3: 195).
اجتناب الكبائر: كالغيبة والقتل. يقول القرآن: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً» (النساء 4: 31).
الصلاة: يقول القرآن: «لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ» (المائدة 5: 12).
التقوى: يقول القرآن: «يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا ٱللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ» (الأنفال 8: 29). والفكرة تتكرر في المائدة 5: 65 والزُّمَر 39: 35 والطلاق 65: 5.
عمل الصالحات: يقول القرآن: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ» (التغابُن 64: 9). ووردت الفكرة نفسها في محمد 47: 2.
التوبة النصوح: يقول القرآن: «يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ» (التحريم 66: 8).
تلاوة الشهادتين: قال أبو ذر إن محمداً قال: «ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة. قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلتُ وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، رغم أنف أبي ذر» (مشكاة 26).
وغير هذه يوجد الجهاد، وقراءة القرآن «الحرف بعشر حسنات» ومشيئة الله، والحج، وغير ذلك من الأعمال الحسنة الطيبة التي تستوجب - حسب المعتقد الإسلامي - غفران الله وعفوه.
ولكن، هل يمكن للأعمال الصالحة أن تحقق الكفارة؟ هل الصوم والصلاة والزكاة والحج ... إلخ كافية لأن تمنح فاعلها عفو الله وغفرانه؟ وهل يمكن أن تتحقق بها الكفارة؟
يقدم الإسلام خمسة عشر معنى للخطية، ويقسمها إلى كبائر وصغائر، ثم يقدم لها علاجاً خلاصته: «إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّيِّئَاتِ» (هود 11: 114).
فهل يرضى قاضٍ بهذا العلاج؟ إذا تبرع مجرم يستحق الموت حسب القانون بمبلغ كبير، لبناء مستشفى أو لعمل خيري ككفارة عن جُرْمه، فهل يُرضي هذا قاضياً عادلاً، فيقبل هذا التبرع كفارة عن الخطأ؟!
فلماذا نقول إن القاضي العادل يرفض مبدأ «الحسنات يُذهبن السيئات» ثم نقول بقبول الله لذات المبدأ؟ وهو العادل الأعظم بجانب كونه الرحمن الرحيم. فهل تطغى رحمة الله على عدله؟!
إن الأعمال الصالحة واجبات ضرورية، لكنها لا تعطينا أي حق في التعويض عن الخطايا التي ارتكبناها، ولا يمكن أن تكون وسيلة للصفح عن الذنوب السالفة. وقد قال المسيح: «فَهَلْ لِذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فَضْلٌ لأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ؟ لاَ أَظُنُّ. كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا» (لوقا 17: 9 و10). وقال الرسول بولس عن خلاص النفس إنه: «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 8 - 10).
وبما أن المال الذي عندنا، والصحة التي نتمتع بها هما من الله وله، ولسنا سوى وكلاء عليهما، فحين نجود بصَدَقة، أو نؤدّي خدمة، لا نكون قد بذلنا شيئاً من عندنا أو أسْدَينا معروفاً نستحق عليه الجزاء. وهذا ما أعلنه نبي الله داود، بعد أن قدم تبرعات ضخمة لبناء الهيكل، وقال: «مَنْ أَنَا وَمَنْ هُوَ شَعْبِي حَتَّى نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَبَرَّعَ هٰكَذَا، لأَنَّ مِنْكَ ٱلْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ! ... أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا، كُلُّ هٰذِهِ ٱلثَّرْوَةِ ٱلَّتِي هَيَّأْنَاهَا لِنَبْنِيَ لَكَ بَيْتاً لٱسْمِ قُدْسِكَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ يَدِكَ، وَلَكَ ٱلْكُلُّ» (1أخبار 29: 14 و16).
إذا حاول شخصٌ أن يهين الملك وقذف موكبه الملكي بالحجارة، فإنه يستحق العقاب، لأنه ألحق الإهانة بالموكب الملكي. صحيح أن الملك لم يُصَب، لكن المحاولة جراءة تستحق العقاب! والخطية هي التعدّي على وصية الله. وكل الأعمال الصالحة التي نقوم بها نحن الخطاة لا يمكن أن تمحو الإهانة التي وجّهناها لله بتعدّينا على وصيته، فهو العظيم الذي لا حدَّ لقداسته وبره وحقه، لذلك فهي لا تستطيع أن تحصل لنا على أي صفح.
إن الوجود في حضرة الله يتطلَّب القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب (عبرانيين 12: 14). والأعمال الصالحة في حدّ ذاتها لا تستطيع أن تصيّرنا قديسين، لأن القداسة تُعطَى للمؤمن المولود من روح الله، الذي تحقق معه قول المسيح: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ هُوَ رُوحٌ» (يوحنا 3: 5 و6).
ومن المعلوم أن الصلاة هي الصلة بالله، والتحدُّث إليه، والتأمل في شخصه. وبما أن الخاطئ منفصل عن الله بسبب خطيته، فلن تجد صلاته قبولاً عند الله، فإن «مَنْ يُحَوِّلُ أُذْنَهُ عَنْ سَمَاعِ ٱلشَّرِيعَةِ فَصَلاَتُهُ أَيْضاً مَكْرَهَةٌ» (أمثال 28: 9) وبالتالي لا تنال استجابة. قال الله: «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ. لأَنَّ أَيْدِيكُمْ قَدْ تَنَجَّسَتْ بِٱلدَّمِ، وَأَصَابِعَكُمْ بِٱلإِثْمِ. شِفَاهُكُمْ تَكَلَّمَتْ بِٱلْكَذِبِ وَلِسَانُكُمْ يَلْهَجُ بِٱلشَّرِّ» (إشعياء 59: 2 و3). وقال النبي داود: «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ» (مزمور 66: 18).
وكذلك الحال مع الصوم. صحيح أنه مظهر من مظاهر التذلل والانكسار أمام الرب، إلا أنه لا يقدر أن يُعيد الإنسان إلى حالة البر التي كان عليها قبل السقوط. وهو (مثل الصلاة) لا يقدر أن يعوّض عن الإهانة التي وجَّهتها خطية الإنسان إلى جلال الله الأقدس. لذلك لا يمكن أن يكون وسيلةً للصفح. قال الله: «لَمَّا صُمْتُمْ وَنُحْتُمْ فِي ٱلشَّهْرِ ٱلْخَامِسِ وَٱلشَّهْرِ ٱلسَّابِعِ، وَذَلِكَ هَذِهِ ٱلسَّبْعِينَ سَنَةً، فَهَلْ صُمْتُمْ صَوْماً لِي أَنَا؟ وَلَمَّا أَكَلْتُمْ وَلَمَّا شَرِبْتُمْ، أَفَمَا كُنْتُمْ أَنْتُمُ ٱلآكِلِينَ وَأَنْتُمُ ٱلشَّارِبِين؟» (زكريا 7: 5 و6).
رأينا أن الخطية خاطئة جداً، لأنها موجَّهة من العبد إلى السيد الأعظم. لكن ما هو الحل؟
نقدم مثالاً أو فكرة للتبسيط: إذا أخطأ ابني في شيء بسيط (كسر كوب ماء مثلاً) فقد أتركه يدفع ثمن هذا الخطأ. ولكن المشكلة تبدأ عندما يرتكب خطأً جسيماً لا يقدر هو على تعويضه. عندها أقوم بعمل القاضي: أحكم بأنه لا مفرَّ من التعويض. ولعجزه عن ذلك أقوم أنا به طوعاً، بسبب محبتي له، وبسبب عجزه هو. وقيامي بالسداد يعني إيفاء الحكم الذي سبق وأصدرتُه. وقد وقفت موقف القاضي، ثم أخذتُ أنا نفسي موقف المتهم، فتحمَّلت العقاب عوضاً عنه طوعاً. وهذا هو منطق المحبة.
فالرحمة: تجعلني أدفع أنا بنفسي، لأني أحبه، ولأني أقدر على الدفع مع عجزه هو عن السداد.
والعدل: يحتم تعويض الخسارة التي تسبَّب فيها ابني. وقد يكون هذا التعويض هو التضحية بحياتي! وهذا ما فعله عمر بن الخطاب، عندما أخذ عقاب الجلد نيابة عن ابنه الذي احتسى الخمر، مع أن عمراً نفسه هو الذي أصدر الحكم.
والذي يتحمَّل الحكم بدل شخصٍ آخر يجب أن يكون بريئاً. فالمحكوم عليه بالإعدام لا يمكن أن يحتمل عقاب إعدامٍ عن شخص آخر، لأنه هو نفسه مطلوب لحكم الإعدام! فأجرة الخطية موت. والجميع أخطأوا، فالجميع وقعوا تحت حكم الموت، وليس من يقدر على تحمُّل هذا العقاب الرهيب. وليس هناك بار يمتلك نفسه «بِٱلْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ» (رومية 5: 7). فلا بد من وجود فادٍ بريء يُكّفر عن خطايا البشر. فماذا فعل الله للإنسان لينقذه من خطيته؟
هناك آيات قرآنية كثيرة توضح تلازم صفتي العدل والرحمة في الله، منها:
«ٱعْلَمُوا أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (المائدة 5: 98).
«إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» (الأعراف 7: 167).
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ» (الرعد 13: 6).
«غَافِرِ ٱلذَّنْبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ» (غافر 40: 3).
فالعدل والرحمة صفتان بارزتان في الله، ولا يمكن أن تطغى إحداهما على الأخرى. فمن المستحيل أن يتصرف الله تصرّفاً تدعو إليه رحمته يكون مناقضاً لعدله، أو يفعل ما يتطلبه عدله ويناقض رحمته، فارتباط الله بقانونه (الذاتي) يجعله لا يدع رحمته توقف عدله، ولا يُنفِّذ عدلاً يناقض رحمته:
العدل: يطلب تنفيذ الحكم كاملاً بلا تساهل ولا تفريط.
والرحمة: تطلب الصفح صفحاً تاماً لا عقاب فيه أو قصاص.
والمطلبان يناقض أحدهما الآخر! وقد نشأ هذا التناقض بسبب مشكلة الخطية التي تقتضي حلاً يجمع بين هذين المطلبين المتناقضين ويُوفِّق بينهما. ولم يكن بُدٌّ من الجمع بينهما بتقديم فدية ينال بها الإنسان الصفح والغفران، ويستوفي بها العدل الإلهي حقوقه كاملة.
وقد نادت اليهودية بالذبائح الدموية للتكفير عن الخطية. ونحن نحتاج لذبيحةٍ ثمينة جداً:
تساوي كل النفوس المطلوب افتداؤها.
وتكون من نفس نوع الإنسان.
ومع ذلك تكون طاهرة وبلا عيب لتصلح للتكفير.
وتكون كافية لتتميم مطالب العدل والرحمة للبشر جميعاً.
ولكننا لا نجد مثل هذه الفدية عند البشر، فلا بد أن تكون من عند الله نفسه. فهو وحده القادر، بينما الإنسان عاجز، خاصةً بعد أن فصلته خطيته عن الله.
لنفهم عقيدة الكفارة في الكتاب المقدس ينبغي أن نذكر عدداً من الحقائق الهامة التي مهَّدت لها:
تَسَاوي صفات الله، فلا صفة فيه سبحانه تغلب على أخرى. فإن كان الله محباً فإنه أيضاً عادل وقدوس. وإن كان الله رحماناً رحيماً فإنه سريع الحساب. فلا يمكن أن تطغى رحمته على عدله.
أخطأ آدم عندما عصى ربه وغوى وأكل من الشجرة الممنوعة، رغم تحذير الله له بأنه إن أكل منها موتاً يموت. وبذلك استحق حكم الموت.
لم يخلق الله آدم عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض بلا هدف ولا تقدير، وهو محبة في ذاته، محبٌّ لخلقه ومخلوقاته.
وبناءً على ذلك كانت هناك معادلة مطروحة: إما أن يموت آدم كما قالت شريعة الله، فلا تكون هناك حياة ولا آدميون. وإما أن يحيا آدم على حساب التضحية بعدالة الله.
أوجد الله الحل وقدّمه برهاناً على عظمته ومحبته وعدله ورحمته «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).
وهذه الحقائق الخمس تسير في تسلسلٍ منطقي، كل حلقة فيها نتيجة طبيعية لما سبقها، ومقدمة بديهية لما تقدمها.
كانت العقوبة الإلهية لآدم على خطئه عادلة، كما كانت كفارة المسيح دليل محبته. ولا يعتقد أحد بأن موت آدم جزاء لأكله من الشجرة تطرُّفاً في شدة العقاب، فقد سبق أن أنذر الله آدم بهذه العقوبة. كما أن القصاص الإلهي عادل، يتناسب تناسباً طردياً مع مكانة الشخص المُساء إليه. فإذا وقعت إهانة على شخص قليل الشأن كان قصاصها لا يُذكر، وكان تعويضها (إن كان لا بد من تعويض) ضئيلاً. أما إذا وقعت الإهانة على شخص عظيم القدر كملكٍ أو حاكم، كانت جريمةً شنيعة تستحق عقاباً جسيماً لا مجال فيه للتعويض. وبما أن الخطية إهانة موجَّهة لله الذي لا نهاية لمجده ولا حدَّ لسمّوه، فالعقوبة المستحقَّة عنها هي عقوبة لا نهاية لها. فلا عجب أن قال الله لآدم إنه يوم يأكل من الشجرة التي نهاه عنها «موتاً يموت».
لا سبيل للحصول على الغفران أو التمتع بالله إلا إذا وفَّينا أولاً مطالب عدالته وقداسته بواسطةٍ ما. لكن الذين لا يدركون هذه الحقيقة، أو يدركونها ثم يتغاضون عنها لجهلهم بكيفية إتمامها، يريحون ضمائرهم بأن يتركوا الأمر إلى رحمة الله. ونحن نعتزّ برحمة الله، ونؤمن أن رحمته وحدها هي القادرة أن تأتينا بالصفح والغفران. لكن لكي لا يكون الاعتماد عليها مؤسساً على مجرد الأمل أو التمني، بل على الحق والواقع نقول:
لنفرض أن قضيةً رُفعت إلى قاضٍ مشهورٍ بالرحمة والرأفة، كما أنه مشهور بتقديس العدل وعدم التفريط في الحق، فهل يجوز للمذنب أن يُطمئن نفسه بأن هذا القاضي سوف يبرئ ساحته لأن قلب القاضي الرحيم الرؤوف لا يرضى بتوقيع العقوبة القانونية عليه؟
الجواب: لا!
وعلى هذا النسق نقول: الله رحيم رؤوف كما أنه عادل وقدوس. فلا يجوز أن نُطمئن نفوسنا برحمته قبل أن نعرف الوسيلة التي تؤهّلنا للتمتّع بتلك الرحمة دون الإجحاف بمطالب عدالته وقداسته. فما هي هذه الوسيلة؟
الجواب: لا نستطيع بالصلاة والصوم والأعمال الصالحة أن نوفي مطالب عدالة الله وقداسته، وهما لا تقلاّن في شيء عن رحمته ومحبته. فلكي نتمتع بالغفران والقبول أمام الله لا بد من الفداء أو التعويض، بواسطة كائن يقبل أن يموت عوضاً عنا، ويرضى على نفسه القصاص الذي نستحقه بسبب خطايانا، ويقدر أن يهبنا أيضاً طبيعة روحية تجعلنا أهلاً للتوافق معه سبحانه في صفاته الأخلاقية السامية، تنفيذاً لمطالب قداسته.
وتوضيحاً لما سبق فإن لهذا الفادي عدداً من الشروط التي يفترضها العقل والمنطق لفداء البشرية، منها:
بما أن الفدية يجب أن تكون على الأقل مساوية في قيمتها للشيء المطلوب فداؤه. وبما أنه لا يساوي الإنسان إلا إنسان مثله، لأنه ليس له نظير بين الكائنات يعادله ويساويه. لذلك فالفِدية أو بالأحرى الفادي الذي يصلح للتكفير عن نفوسنا يجب أن لا يكون حيواناً، بل أن يكون على الأقل إنساناً.
وبما أن هذا الفادي سيكون فادياً ليس لإنسانٍ واحد بل لكل الناس، يجب أن تكون قيمته معادلة لكل هؤلاء الناس.
وبما أنه لو كان الفادي من جنسٍ يختلف عن جنسنا لَمَا استطاع أن يكون نائباً عنا، لأن النائب يكون من جنس الذين ينوب عنهم، لذلك فإنه مع عظمته التي ذكرناها يجب أن يكون واحداً من جنسنا.
وبما أنه لو كان الفادي خاطئاً مثلنا لكان محروماً من الله، وواقعاً تحت قضاء القصاص الأبدي نظيرنا. ولا يستطيع تبعاً لذلك أن ينقذ واحداً منا من هذا المصير المرعب، لأنه يكون هو نفسه محتاجاً إلى من ينقذه. لذلك فالفادي يجب أن يكون واحداً من جنسنا، وخالياً من الخطية خلوّاً تاماً.
وبما أن خلوّه من الخطية (وإن كان أمراً سامياً) لا يدل على كماله، ولا على أهليته ليكون فادياً. فآدم مثلاً خُلق خالياً من الخطية غير أنه لم يكن معصوماً منها، لأنه عندما عاش على الأرض سقط فيها، لذلك لا يكفي أن يكون الفادي خالياً من الخطية، بل يجب أن يكون أيضاً معصوماً منها.
لو كان هذا الفادي مخلوقاً لكان بجملته ملكاً لله. والشخص الذي لا يملك نفسه لا يحق له أن يقدم نفسه فدية لله عن إنسانٍ ما. إذاً فالفادي يجب أن يكون أيضاً شخصاً غير مخلوق، لكي يكون من حقه أن يقدم نفسه كفارة.
لا يمكن الحصول على الغفران والتمتع بالوجود في حضرة الله إلا إذا تمَّ أولاً إيفاء مطالب عدالته وقداسته التي لا حدّ لها. إذاً فالفادي يجب أن يكون أيضاً ذا مكانة لا حدَّ لسموِّها حتى يستطيع إيفاء مطالب العدالة بتحمُّل كل قصاص الخطية عوضاً عنا. وإيفاء مطالب القداسة بإمدادنا بحياة روحية ترقى بنا إلى درجة التوافق مع الله في صفاته الأخلاقية السامية.
تُرى من يكون هذا الفادي العظيم القدْر، الخالي من الخطية والمعصوم منها، غير المخلوق في ذاته، وغير المحدود في مكانته، حتى يستطيع متطوّعاً أن يوفي مطالب عدالة الله التي لا حدّ لها عوضاً عنا، ويبعث فينا أيضاً حياة روحية ترقى بنا لدرجة التوافق مع الله في صفاته الأخلاقية السامية؟ ليس هناك مَن يتَّصف بهذه الصفات أو يستطيع القيام بهذه الأعمال سوى الله!
لما عجز البشر، قدَّم الله العلاج طوعاً ومحبةً.
في أمور كثيرة يعجز الصغير أو الضعيف عن الالتقاء بالكبير أو القوي، إلا عندما يتنازل العظيم ويأخذ بيد الضعيف، كما في التقاء الملك بالشحاذ. فالملك هو الذي يقدر أن يتنازل فيلتقي بالعبد الفقير. وهنا نلاحظ:
قد لا تدرك الرعية شخصيَّة الملك أثناء تنازله، ولكن هذا لا يقلل من شأن الملك، لأن المشكلة كامنةٌ في إدراكهم هم لا في عظمة الملك وتنازله. ومهما أُسيء تفسير وفهم ما عمله الملك، فهو لا يقلل من شأنه ولا من شأن ما صنعه.
يمكن أن يتنازل الملك فيلتقي بالعبد، لكن العكس غير جائز، فلا يقدر العبد أن يأخذ زمام المبادرة ويلبس ثياباً ملكية، ويذهب لملاقاة الملك! وهذا ما فعله الله، ملك الملوك. فلما عجز الإنسان الخاطئ عن الالتقاء به، خاصةً بعد أن فصلته الخطية عنه، تنازل الله المُحب متراحماً وأخذ زمام المبادرة. والإنسان يفعل نفس الشيء مع ابنه، ويدفع عنه الثمن مهما عظم. وقد رأينا عمر بن الخطاب يتحمَّل عقاب ابنه، لأنه يحبه.
يقدر الله أن يتّخذ ناسوتاً من جنسنا ليكون فيه فادياً لنا. وهو باتّخاذ هذا الناسوت:
أ - لا ينحصر في مكان ما، لأن اللاهوت لا يتحيَّز بحيّز. ووجوده سبحانه في مكان (حسب تقديراتنا البشرية) لا يمنع وجوده في مكان آخر في نفس الوقت.
ب - باتّخاذه هذا الناسوت لا يفقد شيئاً من مجده الذاتي، لأن هذا المجد لا يتعرَّض للزيادة أو النقصان على الإطلاق.
ج - اتّخاذه هذا الناسوت أمر تتطلبه رغبته في أن تكون لنا جميعاً علاقة صادقة معه، إذ لا يمكن أن تقوم هذه العلاقة إذا ظل بعيداً عن مداركنا، وظلَلْنا نحن بعيدين عن التوافق معه.
وليست فكرة التجسُّد غريبة، ففي القول: «بُورِكَ مَنْ فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا» (النمل 27: 8) توضح لنا الله «مَن في النار» في شجرةٍ تحترق مع أنها كانت تُعبَد كوثن. وهو في الوقت نفسه «مَن حولها» يملأ السماء والأرض. فبالأولى يظهر في صورة إنسانٍ مخلوق على صورته (كما تقول التوراة، وكما يقول تفسير صحيح مسلم لسورة الرحمن).
أما عن تحيُّز الله فيقول الحديث الإسلامي: «إن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا ليسمع دعاء عباده» (صحيح البخاري ج 4 باب صلاة نصف الليل). وفي حديث صحيح آخر يقول محمد: «أستأذِنُ على ربي في داره، فإذا رأيت ربي وقعتُ له ساجداً» (صحيح البخاري تقسيم مصطفى البغا رقم 7002). ومن هذا نرى أن التجسّد لا يمنع وجود الله في كل مكان.
وخلوّ هذا الناسوت من كل ميلٍ للخطية ممكن، لأن الله عندما يتَّخذ لنفسه ناسوتاً لا يحتاج في تكوينه إلى بذرة حياة من رجل ما، لأنه هو الحياة نفسها. وبما أن الطبيعة التي تميل إلى الخطية تنتقل إلى الإنسان بالتناسل الطبيعي، فمن البديهي أن يكون هذا الناسوت خالياً من الطبيعة الخاطئة، ويكون أيضاً (بسبب كماله الذاتي) معصوماً من السقوط في الخطية.
ومساواة نفسه لنفوسنا جميعاً في القيمة ممكن، لأنه مقترنٌ به تعالى، وقيمته لا حدَّ لها. فإن هذا الناسوت قدوس كل القداسة، والقدوس أعظم من كل الخطاة بما لا يُقاس.
وامتلاك الفادي لناسوته أمر قائمٌ، فهو غير مخلوق بواسطة كائنٍ ما، لأن هذا الفادي هو الله، خالق كل الأشياء ومالكها.
واحتمال قصاص الخطية عوضاً عنا إيفاءً لمطالب العدالة الإلهية يتوافر فيه أيضاً، لأنه بوصفه الله يحيط بمطالب هذه العدالة، ويقدر أن يحقّقها في الناسوت الذي يتَّخذه.
واستطاعته أن يرقى بنا إلى حالة التوافق مع الله يتوافر فيه كذلك، لأنه في ذاته هو الله، والله هو الذي يقدر أن يقوم بهذه المهمة.
فإذا درسنا حياة الأشخاص الذين ظهروا في العالم، نرى أن الشخص الوحيد الذي تتوافر فيه كل شروط الفداء هو المسيح:
فهو لم يرث الخطية في طبيعته الإنسانية، لأنه وُلد بدون أبٍ يورّثه الخطية، فقد وُلد من عذراء بقوة الروح القدس (لوقا 1: 28).
وعاش المسيح بقوته الذاتية دون خطية. صحيحٌ أنه كانت له كل الإحساسات الطبيعية مِن شعورٍ بالجوع والعطش والألم والحاجة إلى النوم (متى 4: 2) وهي التي كان يمكن أن تميل به إلى الانحراف عن حق الله. ولكن بسبب كماله الذاتي لم ينحرف عن حق الله على الإطلاق، ولذلك كان أسمى من آدم بما لا يُقاس. فمع أن آدم خُلق خالياً من الخطية، إلا أنه مال إليها وسقط فيها. على النقيض من المسيح تماماً.
تساوي نفس المسيح نفوس البشر جميعاً، بل وتفضل عنها قيمة وقدراً، لأنه هو الكامل. أما هم فبسبب خطاياهم ناقصون. وإن اجتمع بعضهم إلى البعض الآخر، فإن هذا لا يقلل من نقصهم، بل يزيده نقصاً.
ومع ذلك كان المسيح - من الناحية الناسوتية - إنساناً حقيقياً من جنسنا. فجسده وإن كان خالياً من الخطية، كان جسداً مادياً مثل أجسادنا «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ (المسيح) أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا» (عبرانيين 2: 14). ولما ظنَّ تلاميذه بعد قيامته أنه روح قال لهم: «اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي» (لوقا 24: 39).
ورغم أنه كان إنساناً حقيقياً، كانت نفسه ملكاً له، قال عنها: «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا (أي أسلّمها) أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا 10: 18).
وقد برهن عملياً على صدق شهادته هذه، لأنه بعدما قدم نفسه كفارة عن البشر استردَّها ثانية وقام من بين الأموات.
وكان في إمكان المسيح أن يبعث حياةً روحية في البشر، ترقَى بهم فوق ضعفهم الذاتي وتجعلهم أهلاً للتوافق مع الله في صفاته الأخلاقية السامية إلى الأبد. فقد قال عن رعيته: «أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنا 10: 28).
وكان من الناحية الباطنية هو ذات الله، فاستطاع أن يكفّر عن البشر جميعاً تكفيراً يوفي مطالب عدالة الله.
وقَبْلَ مجيء المسيح ليقدم نفسه كفارة عن خطايا البشر نادت شريعة موسى بالذبيحة التي يقدمها المعترف بالخطأ، طالباً غفران الله، فتموت الذبيحة بدلاً منه، ويحيا هو. وعيد الأضحى ينقل هذه الفكرة نفسها فلقد فدى الله ابن إبراهيم بذبْحٍ عظيم (الصافات 37: 107)، ومن هنا نرى أن سفك الدم والفداء متلازمان مترابطان.
والدليل على أن الله قبل كفارة المسيح، أنه عند صلب المسيح انشقَّ حجاب الهيكل مِن أعلى إلى أسفل، بمعنى أن المبادرة جاءت من عند الله. وهذا يعني أن ذبائح شريعة موسى قد انتهت لأنها كانت مجرد رموز لذبيحة المسيح العظمى. وبعد أن جاء المرموز له، وقدَّم نفسه فداءً للبشرية توقفت الذبيحة الموسوية،وتحقق في الصليب الوعد الإلهي «ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ ٱلْتَقَيَا. ٱلْبِرُّ وَٱلسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مزمور 85: 10) وكلمة «الحق» هنا تعني العدل، فالله صالحنا لنفسه في المسيح (2كورنثوس 5: 19). وسنوضح في الفصل القادم حقيقة الصليب.
ملاحظة هامة: إذا كانت لديك تساؤلات أو اعتراضات اطلب منا كتاب «كفارة المسيح» لعوض سمعان، فهو يعالج هذا الموضوع بتفصيل ودقة أكثر، خاصة عن كيفية انتفاعك بكفارة المسيح، فلن تجد قبولاً أمام الله إلا مِن خلال كفارة المسيح الذي يُطهر من كل خطية.
رأينا فيما سبق أن كفارة المسيح حتمية تشريعية، وفرضية عقلية. والآن سنُثبِت أنها حقيقة تاريخية:
يقول القرآن إن المسيح «كلمة الله» و «روح الله» (النساء 4: 171) حلَّ في مريم العذراء المطهَّرة والمصطفاة والمفضَّلة على نساء العالمين (آل عمران 3: 42) ومنها وُلد من غير رجل، وعاش قدوساً بلا شر (مريم 19: 19) ولم يمسَّه الشيطان، ولم يخطئ قط، وتأيَّد بالروح القدس وبالبيّنات، يَخلق من الطين كهيئة الطير، ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى (آل عمران 3: 49 والمائدة 5: 110) ويرزق الجياع بطعامٍ من السماء (المائدة 5: 114). وهو فوق ذلك آية ورحمة للعالمين (مريم 19: 21) وهو صاحب «البشرى» الطيبة للبشر. وقد كفر به اليهود، واعترفوا أنهم صلبوه، وأنه قد مات. ولكنه بُعث حياً، ورُفع إلى السماء، وهو الوجيه والشفيع في الدار الآخِرة (آل عمران 3: 49)، وسيأتي ثانية إلى أرضنا حَكَماً عادلاً. ومجيئه الثاني هو علامة الساعة وانقضاء العالم.
ولدراسة موضوع صلب المسيح نبحث آراء الأئمة حول بعض آيات القرآن، وأهمها ثلاث: مريم 19: 33 والمائدة 5: 117 وآل عمران 3: 55
أ - سورة مريم وموت المسيح: تحدثت سورة مريم عن ثلاث مراحل من حياة يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا) فقالت: «وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ (يحيى) يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً» (مريم 19: 15). قال ابن كثير تفسيراً لهذه الآية: أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال، وقال سفيان بن عُيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن قد عاينهم، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم اللهُ فيها يحيى بن زكريا فخصَّه بالسلام عليه.
من الواضح جداً أن الأفعال الواردة هنا «وُلد، يموت، يُبعث» تتعلق بالحياة والموت فقط دون سواهما، فلا علاقة لهذه الأفعال بالنوم. فقد وُلد المعمدان ومات وسُيبعث حيّاً يوم القيامة.
وفي نفس السورة يقول على لسان المسيح: «وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً» (سورة مريم 19: 33) ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية عن المسيح: «... له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشقّ ما يكون على العباد».
ونلاحظ تكرار نفس الأفعال، وبنفس الترتيب الزمني: الماضي فالحاضر عن المسيح، تماماً كما ورد عن المعمدان. فكما وُلد المعمدان ومات هكذا المسيح ولد ومات موتاً طبيعياً، ولكنه بعد ثلاثة أيام بُعث حياً.
وجاء في مريم 19: 31 قول منسوب للمسيح: «وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلّزَكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً» يفسرها ابن كثير بقوله: قال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس: قال أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت. فالمسيح يقدم الزكاة مادام حيّاً، فإن كان ارتفع إلى السماء دون أن يموت، فالسؤال هو: لمن يقدم الزكاة في الجنة؟ وإذا كان لم يزل حيّاً في الأرض، فأين هو؟ ومن هم الذين يتناولون منه الزكاة؟! واضح أنه قدم الزكاة ما دام حيّاً، ثم انتهى هذا بموته.
ب - سورة المائدة والوفاة: ورد على لسان المسيح في المائدة 5: 117 و118 «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ». قال ابن عباس: قام فينا رسول الله (ص) بموعظة فقال: يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عز وجلّ حُفاة عُراة حفاة عراة غرلاً «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» (الأنبياء 21: 104). وإن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبرهيم، ألا وأنه يُجاء برجال من أُمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول «أصحابي» فيُقال إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح (الآية). فيُقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. ورواه البخاري عن هذه الآية عن أبي الوليد، وعن شُعبة، وعن محمد بن كثير عن سفيان الثوري. كلاهما عن المغيرة بن النعمان (ابن كثير في تفسير المائدة 5: 117)
فالمفارقة تمت وقت الوفاة، فعندما أُسلِمَ المسيح للصلب تركه الذين تبعوه وتشتتوا. فأين هو الآن بعد هذه المفارقة التي تمت وقت الوفاة؟
ج - سورة آل عمران والوفاة: «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ» (آل عمران 3: 55).
يقول الإمام الرازي: من مباحث هذه الآية موضع مشكل، وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال: «وماقتلوه وماصلبوه ولكن شبه لهم» والأخبار أيضاً واردة بذلك، إلا أن الروايات اختلفت، فتارة يُروى أن الله تعالى ألقى شبَهه على بعض الأعداء، الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه، وتارة أخرى يُروى أنه رغَّب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه عليه حتى يُقتل مكانه. فكيفما كان، ففي إلقاء شَبهه على الغير إشكالات:
الإشكال الأول: لو جوَّزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة، فإني إذ رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوّز أن يكون هذا الذي رأيته ثانيةً ليس بولدي، بل هو إنسان أُلقي شبهه عليه، وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات. وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً (ص) يأمرهم وينهاهم وجب أن لايعرفوا أنه محمد، لاحتمال أنه ألقى شبهه على غيره وذلك يقضي إلى سقوط الشرائع. وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة، على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس. فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات، كان سقوط خبر المتواتر أولى. وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.
الإشكال الثاني: وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام، بأن يكون معه في أكثر الأحوال. هكذا قال المفسرون في تفسير قوله: «إذ أيَّدتُك بروح القدس» ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر. فكيف لم يكفِ في منع أولئك اليهود عنه؟ وأيضاً المسيح لما كان قادراً على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرُّض له؟
الإشكال الثالث: إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء. فما الفائدة من إلقاء شبَهه على غيره، إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة؟
الإشكال الرابع: إنه إذ أُلقي شبهه على غيره، ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء، فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى، مع أنه ما كان عيسى. فهذا كان إلقاءً لهم في الجهل والتلبيس. وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.
الإشكال الخامس: إن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام، وغلوُّهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً. فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر. والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد (ص) ونبوة عيسى، بل في وجودهما ووجود سائر الأنبياء، وكل ذلك باطل.
الإشكال السادس: إنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً. فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره، لأظهر الجزع، ولقال: لستُ بعيسى بل إنما أنا غيره، ولبَالغ في تعريف هذا المعنى. ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى. فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم. (تفسير الإمام الرازي لآل عمران 55).
ويقول ابن كثير (في تفسير هذه الآية): «اختلف المفسّرون في قوله تعالى: إني متوفّيك ورافعك إليَّ». قال قتادة وغيره: «هذا من المقدَّم والمؤخر، تقديره إني رافعك إليَّ. ومتوفيك إليَّ يعني بعد ذلك». وقال طلحة عن ابن عباس: «إني متوفّيك أي مُميتك» (فابن عباس يقول ما يقوله المسيحيون). وقرينة الآية لا علاقة لها بالنوم.
ثم بحث بعضهم في مدة الوفاة والموت. فقال محمد بن اسحق عن وهب بن منبه قال: «توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه». قال ابن اسحق: «والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه». وقال الربيع بن أنس: «إن الله توفاه حين رفعه إلى السماء». وقال إسحق بن بشر عن إدريس عن وهب: «أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه» (وهذا ما يقوله المسيحيون)!
ثم يستعرض ابن كثير الآراء حول الموت، فيقول: قال مطر الوراق: إني متوفّيك من الدنيا وليس بوفاة موت. قال الحسن: قال رسول الله (ص) لليهود: «إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة». وقوله: «ومطهِّرك من الذين كفروا» أي برفعي إياك إلى السماء. ويقول ابن كثير: قال الأكثرون المراد بالوفاة هنا النوم كما في الآية: «وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِٱللَّيْلِ» (الأنعام 6: 60) والآية: «ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا» (الزمر 39: 42). وكان رسول الله (ص) إذا قام من النوم يقول: «الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا» (حديث صحيح أورده ابن كثير في تفسير الآية). وقال مالك: «يُحتمل أنه مات حقيقة وسيحيا في آخر الزمان... ويقتل الدجال» (شرح الآبي والسنوسي للآية). ويقول الإمام محمد عبده: إنها وفاة إنسان عادية.
وأمام هذا التباين والاختلاف لابد من الرجوع لقواميس اللغة وإلى طرق التفسير كالقياس العقلي:
قواميس اللغة: في المصباح المنير: توفاه الله أماته، والوفاة الموت (ص 667).
ولا يختلف المعنى في القواميس الأخرى عن ذلك، فالوفاة تعني قبض الروح، وتُوفي فلان (على المجهول) تعني قُبضت روحه ومات.
القياس العقلي: هو واحد من أهم طرق التفسير، وهو طريقة منطقية لفهم ما غمض من النص القرآني بمقارنته بالآيات الأخرى، فإذا كان هناك خلاف حول معنى كلمة «متوفّيك» فيجب الرجوع للآيات الأخرى التي وردت فيها «الوفاة» وعددها 27 آية، وردت منها آيتان فقط بمعنى النوم، وهما اللتان ذكرهما ابن كثير في تفسيره. (وهما: «إني متوفيكم بالليل» و «الله يتوفى الأنفس حين نومها»).أما باقي الآيات وعددها 25 آية فالمعنى المقصود فيها هو المعنى الطبيعي المتعارف عليه وهو «الموت»!
فإذا غمض نصٌّ ما في معنى كلمة «الوفاة» فيكون المعنى بالقياس هو «الموت». فوفاة المسيح تعني موته لمدة ثلاثة أيام ثم الرفع حياً.
وإن كانت الآيات السابقة تقول بالوفاة أو الموت، فهناك آيات أخرى عن قتل الرُسل: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (البقرة 2: 87) فكلمة «تقتلون» هنا لا لبس فيها، ولايصح تفسيرها بغير القتل. ولما كان القرآن لم يذكر كيف قُتل المسيح، فالإنجيل هو المرجع الأصلي أولاً وآخراً في هذا الموضوع.
«ٱلَّذِينَ قَالُوا (أي اليهود) إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟» (آل عمران 3: 183).
فإذا تقصَّينا الأمر من روايات القرآن نرى أن الرسول الوحيد الذي أتى بالقربان هو المسيح. فالقرآن يقول: «قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱلَّلهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَاِئدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ» (المائدة 5: 114).
وهناك آيات أخرى تقول بعدم وجود آخر سوى الله باقٍ. ففي الرحمن 55: 26 و27 «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ». فهل مات المسيح أم لم يمت؟! وإن قلنا إنه لم يمت، فمن يكون؟!
وفي القصص 28: 88 «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ». فهذه من الآيات التي تؤكد خطأ من يتصور أن المسيح الحي حالياً، موجود في مكان ما، وأنه سيموت قبل يوم الحشر! فقد مات وقام بعد ثلاثة أيام، وهو حي في السماء.
يقول ابن كثير في تفسيره للنساء 4: 155 «وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» إن ذلك لكثرة إجرامهم (اليهود) واجترائهم على أنبياء الله، فإنهم قتلوا جماً غفيراً من الأنبياء عليهم السلام. ولكن ابن كثير لا يذكر اسماً واحداً من أسماء هؤلاء الأنبياء المقتولين، بل يقول في تفسيره للنساء 4: 157 «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ» أي هذا الذي يدَّعي لنفسه هذا المنصب قتلناه، وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء، كقول المُشركين (لمحمد): «يَا أَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» (الحِجْر 15: 6). ثم يقول ابن كثير إن اليهود حسدوا عيسى على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله، ويُصوّر من الطين طائراً ثم ينفخ فيه فيكون طائراً يشاهد طيرانه، بإذن الله عز وجل، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، وأجراها على يديه، ومع هذا كذّبوه وخالفوه ... وسعوا إلى ملك دمشق، وأنهوا إليه: أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويضلّهم، ويفسد على الملك رعاياه. فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه، ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس. فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر، وقيل سبعة عشر نفراً، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هناك. فلما أحس بهم، وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم قال لأصحابه: «أيكم يُلقى عليه شبَهي وهو رفيقي في الجنة؟». فتطوَّع لذلك شاب منهم، فكأنه استصغره على ذلك، فأعادها ثانية وثالثة. وكل ذلك لا يتطوع إلا ذلك الشاب فقال: «أنت هو». وألقى الله عليه شبَه عيسى، حتى كأنه هو. وفُتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى عليه السلام سِنةٌ من النوم فرُفع إلى السماء، وهو كذلك كما قال: (الآية). فلما رُفع خرج أولئك النفر. فلما رأوا ذلك الشاب، ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل، وصلبوه، ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه، وتبجّحوا بذلك، وسلّم لهم طوائف من النصارى، فظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويُقال إنه خاطبها، والله أعلم. وهذا كله من امتحان الله عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة.
ونحن نسأل ابن كثير: إن كان الشبيه خاطب العذراء، فكيف لم تميّز صوت ابنها؟ وإن كان قد كلّمها فلماذا لم يستغث مستنجداً بها لتعلن أنه ليس المسيح.
ويختم ابن كثير تعليقاته بقوله: «الله أعلم». فلماذا لم يسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم، والقرآن يأمره بذلك في النحل 16: 43 والأنبياء 21: 7.
أما ابن عباس فقال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه، وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فقال إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي (تعليقنا: غالباً يقصد ابن عباس إنكار بطرس ثلاث مرات). قال: ثم قال: «أيُّكم يُلقى عليه شبَهي فيُقتَل مكاني، ويكون معي في درجتي؟» فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال له (المسيح): اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: «أنا» فقال: «هو أنت ذاك» فأُلقي عليه شبه عيسى، ورُفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء. وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به. وافترقوا ثلاث فرق قالت فرقة: «كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء» وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: «كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه» وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: «كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً (ص)». (رواه النسائي عن أبي كريب عن ابن معاوية بنحوه (عن ابن كثير في تفسير النساء 4: 157).
ونحن نسأل إذا كان هذا الإسناد صحيحاً، فأين كانت تلك الفرقة المسلمة قبل الإسلام بستة قرون؟ وتعتقد الفرقتان أن المسيح هو ابن الله أو الله الظاهر في الجسد بدون اختلاف. وكل من اختلف معهم فهم الهراطقة الذين رفضتهم المسيحية القويمة.
أما الإمام الرازي فقد أصاب كبد الحقيقة في تفسيره عندما قال: «شُبه لهم» - مسنَد إلى ماذا؟ إن جعلتَه إلى المسيح فهو مشبَّه به وليس بمشبَّه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يَجْرِ له ذكر.
وإن جاز أن يُقال: إن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة، فإنّا إذا رأينا زيداً فلعله ليس بزيد، ولكنه أُلقي شبهُ زيد عليه، وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والملك موثوقاً به، وأيضاً يفضي إلى القدح في التواتر، لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس. فإذا جوَّزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجَّه الطعن في التواتر، وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع، وليس لمجيب أن يجيب عنه.
والحقيقة الظاهرة: إن الإمام الرازي لم يجد جواباً قاطعاً ولا حلاً شافياً في آراء الذين يتشككون في صلب المسيح، فقال بالنص: «اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوهاً .. وهذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور» (الفخر الرازي في تفسير النساء 4: 157).
ولو كان الله يقصد (كزعم بعضهم) أن يخلّص المسيح من الصلب لكان بالأولى خلَّصه بمعجزة ظاهرة قاهرة، ونجَّاه من أيدي اليهود مُظهراً عدم مقدرتهم على إيصال الأذى إليه.
ولكن المعجزة التي يتوهَّم بعض المسلمين إتمامها لتخليص المسيح لم تفد الفائدة المطلوبة رغم ما فيها من غش لا يمكن صدوره من الله، لأن هذه المعجزة لم تُظهر لليهود قدرة الله، ولا أظهرت لهم عجزهم.
ولو أن الله رأى في الصليب إخلالاً بشرفه الأقدس، فهل يُعقل أن يجري معجزة الشبيه التي تقيم الدليل على احتقاره فعلاً، مع أنه رفع المسيح إليه لينفي ذلك الاحتقار المزعوم؟
وقال الإمام البيضاوي: رُوي أن رهطاً من اليهود سبّوه (يقصد المسيح) وأمه، فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله .. وألقى الله الشبه على آخر. فلما خرج ظُن أنه عيسى فأُخذ وصُلب. وقيل كان رجل ينافقه فخرج ليدل عليه فألقى عليه شبَهه، فأُخذ وصُلب وقتل. وقيل لم يُقتل أحد لكن أرجف بقتله فشاع بين الناس. وقال قوم: صُلب الناسوت وصعد اللاهوت (البيضاوي في تفسير النساء 157).
والبيضاوي لا يقول إنه اقتبس تفسيره من وحي الله بل من أقوال الناس التي يختلف بعضها عن البعض الآخر، مما يدل على أنهم لم يعتمدوا فيها على مصدر حقيقي ثابت بل على آرائهم الشخصية. ولذلك يمكن القول مع الإمام الرازي: «هذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور» أي لكل من الناس عقيدته والله أعلم بالحقيقة.
وبالرغم من النصوص التي تقول بموت المسيح، فإن هناك مَن ينكرون صلب المسيح، ويتمسكون بظاهر نص النساء 157 و158 «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً».
لكننا مع تأويل هذه الآية نجد برهاناً على الصليب، وتأييداً للحقيقة التاريخية التي سجلها كتابنا المقدس:
لسنا نعتقد أن هذه الآية تنفي تاريخية الصليب، لكنها تتحدث عن آثار الصَّلب ونتيجته. فإن اليهود لم يحقّقوا غرضهم من موت المسيح، لأن الله رفعه إليه بالقيامة من الموت ثم بالصعود. وفكرة نفي الأثر والنتيجة، لا التاريخ والحقيقة، فكرة قرآنية وردت في آل عمران 3: 169 «وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ». فالشهداء ماتوا فعلاً، لكن هدف قتلهم لم يتحقق، لأنهم أحياء عند ربهم. فالشهيد تاريخياً مات، ولكننا نحسبه حياً لأنه كذلك عند الله. فلولا موت المسيح لما أُعلنت نصرته على الموت بالقيامة (بالطبع لم يكن المسيح شهيداً، فقد بذل نفسه طوعاً).
ويمكننا أن نقول إنه بسبب هذا الموت الجسدي أُعلنت قيمة فداء المسيح، فإماتته لم تحقق غرض اليهود منها، بل على العكس فإن موته الجسدي أعلن عظمته الروحية، فهو حيّ عند الله.
وهكذا نرى أن إنكار الصلب في النساء 157 ينصبُّ على آثار الصلب ونتيجته، وليس على الحقيقة التاريخية، التي لا يمكن أن تُنسخ. فالنسخ للأحكام وليس للتاريخ.
هذه الآية اعتراف صريح من اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه، وهي تضرب بكبريائهم عرض الحائط، لأنها تُبين أنهم رغم صلبهم للمسيح لم يصلوا إلى هدفهم المنشود، ولم ينالوا غرضهم المطلوب، إذ أقامه الله، وفوّت عليهم ما قصدوه به من إعدام. وما ظهر لهم في صلبه أنه الهزيمة الساحقة له والنصرة الكاملة لهم كان مجرد ظنّ، فشُبه لهم «أمر القتل» كما أسنده البيضاوي في بعض تأويلاته، وتصوَّروا أنهم أحكموا الكيد له، ولكن ذهب كيدهم وطاش سهمهم إذ عاد المسيح حياً ورفعه الله إليه، فعظُم شأنه، وانتشرت تعاليمه، وجعل الله الذين اتَّبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة (آل عمران 3: 55).
أن اليهود ما قتلوا المسيح وما صلبوه بأنفسهم، لأنهم كانوا تحت الحكم الأجنبي، وقالوا للوالي الروماني: «لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَداً» (يوحنا 18: 31). فهم بأنفسهم لم يقتلوا المسيح، بل الرومان هم الذين قاموا بقتله.
أن صلب المسيح (وإن يكن قد تمّ بيد بشرية أثيمة) ولكنه ما كان ليتم ويُنفَّذ إلا بمقتضى مشورة الله ومحبته للبشر. فما قتله اليهود وصلبوه، ولكن الله بذله فداءً ورحمة للعالمين ثم رفعه إليه. وقد جرى هذا الاصطلاح في القرآن كقوله: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ رَمَى» (الأنفال 8: 17).
بديهي أن اللاهوت لا يموت، فنحن نؤكد عدم موت المسيح باعتبار لاهوته، ولكننا نؤمن بصلبه وموته باعتبار ناسوته.
قال البيضاوي في تفسير: «وإن الذين اختلفوا فيه» في شأن عيسى عليه السلام، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس، فقال بعض اليهود إنه كان كذاباً فقتلناه حقاً. وقال قوم: صُلب الناسوت وصعد اللاهوت.
والقارئ المنصف يرى أن هذه المعاني هي التفسير الصحيح. أما القول إن الله ألقَى شبه عيسى على رجل آخر وصلبوه عوضاً عنه فهو قول هراء:
لأنه ما الداعي لالقاء الشبه؟
وما منفعته للمسيح إن كان سيُرفع؟
وما منفعته للقتيل وهو يُظلم؟
وما منفعته لليهود إلا تمكينهم من الاستمرار في مواصلة غيّهم؟
وما منفعته للناس إلا قلب الأوضاع وتغيير الحقائق؟
وما منفعته لله؟ فإنه يُظهره (سبحانه) كخادع! فلو أن الله أراد أن ينقذ المسيح لأنقذه بمعجزة من عنده تتناسب مع كمال قداسته الإلهية.
قبل أن يسجل الإنجيل تفاصيل حادثة الصلب، وقبل تأكيد نصوص القرآن لها، فإن أسفار التوارة قد تنبأت بها. وبذلك لم يعد هناك مجال لقول متشكك، أو ادّعاء مدعٍ للطعن في حقيقة حادثة الصلب.
وقد تحققت في المسيح أكثر من 300 نبوة وإشارة توراتية، معظمها عن أسبوع الآلام من الصلب للقيامة. وقد قام بيتر ستونر (وهو عالِم رياضيات أمريكي) بحساب نسبة تحقيق 48 نبوة فوجد أن نسبة تحقيقها بالصدفة هي فرصة واحدة من بين واحد وأمامه 181 صفراً من الفُرص (أي1: 1 x 10 أسّ 181).
تنبأ النبي زكريا عن الثلاثين من الفضة التي قبضها يهوذا ليسلّم المسيح: «فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَٱمْتَنِعُوا. فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ. فَقَالَ لِي ٱلرَّبُّ: أَلْقِهَا إِلَى ٱلْفَخَّارِيِّ، ٱلثَّمَنَ ٱلْكَرِيمَ ٱلَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ. فَأَخَذْتُ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى ٱلْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ» (زكريا 11: 12 و13).
وسجل البشير متى في إنجيله إتمام هذه النبوة: «حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ قَائِلاً: قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً. فَقَالُوا: مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ! فَطَرَحَ ٱلْفِضَّةَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَٱنْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ ٱلْفِضَّةَ وَقَالُوا: لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي ٱلْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ. فَتَشَاوَرُوا وَٱشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ ٱلْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ» (متى 26: 14 و15 و27: 3 - 7).
وتنبأ النبي داود في مزاميره عن ترك الآب للمسيح: «إِلٰهِي! إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟» (مزمور 22: 1). وقد سجل البشير متّى إتمامها في إنجيله: «وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي (أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)» (متّى 27: 46). وتنبأ النبي داود أيضاً عن شرب المسيح الخل على الصليب: «وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مزمور 69: 21). وسجل البشير يوحنا إتمامها: «بَعْدَ هٰذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ ٱلْكِتَابُ قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ. وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ، فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ ٱلْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ» (يوحنا 19: 28 و29).
وتنبأ داود أيضاً عن تقسيم ثياب المسيح بالقرعة، فقال: «يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مزمور 22: 18). وجاء تحقيقها في إنجيل يوحنا: «ثُمَّ إِنَّ ٱلْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً... وَكَانَ ٱلْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ» (يوحنا19: 23 و24).
وتنبأت المزامير أنه لا تُكسر عظامه: «يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ» (مزمور 34: 20). وجاء تحقيقها في إنجيل يوحنا: «فَأَتَى ٱلْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ ٱلأَوَّلِ وَٱلآخَرِ... وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ» (يوحنا 19: 32 و33).
وتنبأ النبي زكريا عن طعن جنبه بالحربة، فقال: «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، ٱلَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ، وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْه» (زكريا 12: 10). وجاء تحقيق النبوة في إنجيل يوحنا: «لٰكِنَّ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يوحنا 19: 34).
لم يرد لفظ «الصليب» في أسفار العهد القديم، لكنه ورد بأكثر من معنى في العهد الجديد، فالكلمة التي تترجم حالياً «صليب» تفيد في اللغة اليونانية «آلة تعذيب وإعدام» ولكنها اكتسبت معنى خاصاً لارتباطها بموت المسيح. وهناك كلمتان يونانيتان تُستعملان للتعبير عن آلة التعذيب التي نُفّذ بها حكم الموت على المسيح:
«إكسيلون» «Xylon» وتعني خشبة أو شجرة.
«إستاوروس» «Stouros» وتعني صليب بمفهومه الحالي.
الكلمة الأولى «إكسيلون» وردت في العهد الجديد عادة للتعبير عن الخشب كمادة، وهي الكلمة التي وردت في تثنية 21: 23 والتي اقتبسها بولس الرسول في غلاطية 3: 13 «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ». وقد وردت كلمة «استاوروس» ومشتقاتها مرتين في العهد الجديد، في قصة آلام المسيح، في متى 27: 40 و42 ولوقا 23: 26 ويوحنا 19: 17. وفي رسائل بولس الرسول سبع عشرة مرة: وردت كلمة «الصليب» سبع مرات، ووردت كلمة «يُصلب» ثماني مرات، وورد تعبير «يُصلب مع» مرتان.
وقبل أن نسوق شهادة الأناجيل لصلب المسيح، نورد ما قاله الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه «عبقرية المسيح» ص 126: «ليس من الصواب أن يُقال إن الأناجيل جميعاً عُمدة لا يُعوّل عليها في تاريخ السيد المسيح، إنما الصواب أنها العُمدة الوحيدة في كتابة ذلك التاريخ... إنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح. وليس لدينا نحن - بعد قرابة ألفي عام - أحقّ منها بالاعتماد».
أعلن المسيح لتلاميذه في مناسبات عديدة أن عمله الخلاصي يستلزم موته على الصليب، وأبرز تصريح منها جاء في خطبة وداعه لهم في الليلة التي أُسلم فيها. وفي ما يلي إعلاناته الخاصة بموته على الصليب لفداء البشر:
«مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متّى 16: 21). ونراه هنا يحدد المدينة التي سيموت فيها.
«وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي ٱلْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (متّى 17: 22 و23 و20: 18 و19).
«وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ ٱلْفِصْحُ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ» (متّى 26: 1 و2). وتراه هنا يحدد الموعد الذي سيموت فيه.
«وَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس 8: 31). وقال هذا الكلام علناً. فانتحى بطرس بالمسيح وقال له: «حاشا لك يا رب!» ولكن المسيح قال لبطرس: «اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس». وقد حدث أن بعض اليونانيين جاءوا إلى المسيح يدعونه لزيارة بلادهم ليجنّبوه الصليب، ولكنه أعلن ضرورة صلبه، وضرب هذا المثل: «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا» (يوحنا 12: 24 و25).
ولقد جاء قادة اليهود للمسيح يطلبون منه معجزة تبرهن أنه من عند الله، فرفض أن يُجري معجزة لقوم يعلم أنهم لن يقبلوا الإيمان به حتى لو أجرى المعجزة، وقال: «لاَ تُعْطَى لَهُ (هذا الجيل) آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» - يقصد بذلك موته ودفنه (متّى 12: 39 و40).
وعندما سمع اليهود قول المسيح هذا، ثم شاهدوا صلبه يوم الجمعة وقيامته يوم الأحد، لم يقولوا إن هذه الفترة ليست ثلاث أيام وثلاث ليالٍ، وذلك لأنهم كانوا (أ) يحسبون جزءاً من يوم يوماً وليلة، (ب) كما كانوا يبدأون اليوم بعد مغيب الشمس. لذلك اعتبروا يوم الجمعة يوماً (لأن المسيح صُلب قبل غروب شمس يوم الجمعة)، واعتبروا السبت يوماً ثانياً، واعتبروا يوم الأحد (الذي بدأ بعد غروب شمس يوم السبت) يوماً ثالثاً. وهم أولى الناس بتفسير طريقة توقيتهم والحكم عليها.
«كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ» (مرقس 9: 31).
«هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (مرقس 10: 33 و34).
«يَنْبَغِي أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (لوقا 9: 22).
«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 14 و15).
ومن الأدلة القاطعة على أن المسيح صُلب أنه بعد الصليب قال لتوما: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً». أَجَابَ تُومَا: «رَبِّي وَإِلٰهِي» (يوحنا 20: 27 و28). فلو لم يكن المسيح قد صُلب ما قال هذا لتوما وللتلاميذ العشرة الموجودين وقت هذا الظهور المجيد بعد القيامة. فالمسيح صادق بشهادة الجميع، وهو هنا يعلن عن الصليب بعد حدوثه.
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة لظهور المسيح بعد قيامته، فقد ظهر عدة مرات لمريديه. وكان أكبر عدد منهم رآه لما «ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى ٱلآنَ. وَلٰكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا» (يعني وقت كتابة الرسالة - انظُر 1كورنثوس 15: 6). كل هؤلاء وغيرهم شهود للصليب ولموت المسيح وقيامته.
شهادة الرسل: كل من يقرأ سفر أعمال الرسل ورسائل تلاميذ المسيح يلاحظ أن التعاليم التي نشروها وبشروا بها في كل العالم، قامت على المناداة بالمسيح مصلوباً من أجل خطايا العالم. وبعد أيام قليلة من حادثة الصليب، وعلى بُعد أمتار قليلة من مكان الصَّلب في أورشليم، قام بطرس الرسول يقول لليهود: «يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ... أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أعمال 2: 22 و23). فلو أن الصَّلب لم يحدث لدافع كهنة اليهود وحكام الرومان عن أنفسهم. لكن لم يعترض أحد، بل بالعكس، لما سمعوا نُخسوا في قلوبهم!
- وقال الرسول بولس: «نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ... لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، ٱلَّذِينَ يُبْطَلُونَ. بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ - لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1كورنثوس 2: 6 - 8). ويوضح الرسول بولس الأمر كله بقوله: «ٱلْكُلُّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ... أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ... لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (2كورنثوس 5: 18 - 21).
وقد سجل الرسول بولس لنا قانوناً مختصراً للإيمان قال فيه: «وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِٱلإِنْجِيلِ ٱلَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ... فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ حَسَبَ ٱلْكُتُبِ» (1كورنثوس 15: 1 - 4).
- وقال الرسول يوحنا: «إِنْ سَلَكْنَا فِي ٱلنُّورِ كَمَا هُوَ فِي ٱلنُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يوحنا 1: 7).
وما قدمناه هو مجرد أمثلة بسيطة لشهادات الرسل، الذين قدموا الفكر دون تقديم أدلة، فلم يكن الصليب في قرون المسيحية الأولى موضوع جدل، ولا اعتراض عليه أحد، فعرض رسل المسيحية الحقائق في سلاسة ويسر لأن قرّاءهم يعرفون الحقيقة.
برهان سيكولوجي (نفسي):
ليس الصليب إلا أداة موت، فكيف افتخر الرسل بموت قائدهم؟ الإجابة: لأن هذا الموت بالصليب قد حدث فعلاً، ولأن نتيجة الصليب كانت بركة عظمى. ونسوق مثلاً للتوضيح: قام قائدٌ بثورة ضد المستعمر فشنق المستعمرون القائد. ولم يهدأ الشعب بعد شنق قائدهم، فقاموا بثورة كبرى ضد المستعمِر نتج عنها هزيمته وخروجه من بلدهم. فقرر أنجال ذلك القائد وأحفاده أن يفتخروا بوالدهم وجدّهم هذا الشجاع، بأن يعلّقوا على صدورهم رسماً للمشنقة، وبأن يسمّوا أنفسهم «عائلة المشنوق». لقد افتخروا بالمشنقة، لا لأنها أداة إعدام، بل لأن والدهم وجدّهم هو الذي مات عليها، وكانت نتيجة موته المفجع حريةً لوطنه.
لكن لو افترضنا أن إعدام هذا القائد كان عبثاً، فلا المستعمر خرج، ولا الشعب انتصر، فلن يفتخر أحد بنَسَبه إليه! ولو افترضنا أن المستعمرين جاءوا ليمسكوا ذلك القائد، فأخطأوا وألقوا القبض على غيره، فإن المستعمر سيبقى، والشعب لن يفتخر بهذ القائد، لأنه لم يمت، بل «شُبه» للمستعمرين وأخذوا غيره!
فافتخار الرسل والمسيحيين بالصليب يؤكد حقيقتين:
أ - لا بد أن المسيح هو فعلاً الذي صُلب. فلو أن الشبيه هو الذي أُلقي القبض عليه لما استطاع أن يُجري معجزة شفاء أذن ملخس التي قطعها سيف بطرس. ولو أن الشبيه هو الذي صُلب لما قام من الموت في اليوم الثالث. ولو أن يهوذا هو الذي صُلب بدلاً من المسيح لما وجدوا جثته بعد انتحاره أسفاً على خيانته لسيده!
ب - إن هناك نتائج إيجابية للصليب، أهمها الكفارة التي تستر خطايا البشر.
منذ البداية رفع المسيحيون الصليب على كنائسهم وصدورهم، وعلى تيجان الملوك، وعلى أعلام بعض دولهم، وفي كل مكان ينتمي إليهم حتى على مقابرهم!
وقد توفّر عدد لا يُحصى من شهود الصليب والموت والقيامة. فلو تصوّرنا أننا في محكمة يتفق فيها كل الشهود في التعرُّف على القتَلة، ويعترف القتلة بأنهم خططوا للقتل ونفَّذوه. أما المجني عليه فقد سبق وقال إنهم سيقتلونه. ثم توفَّر لنا شيء غريب، وهو أن هذا القتيل (بعد موته وبعثه) شهد بنفسه أن هؤلاء القتَلة هم الذين قتلوه! (وهذا ما حدث مع المسيح المصلوب المُقام) فلا نعود نحتاج لأي دليل آخر على حدوث جريمة القتل. ولن نشك، خصوصاً وأن الذي يشككنا جاءنا بعد حادثة الصليب بعدة مئات من السنين، وهو ليس شاهد عيان، كما أنه لا يملك من البراهين ما يبني عليه إنكار تاريخية الصليب.
وهناك برهان آخر نسوقه على صدق حادثة الصليب، وهو أن الذين جذبهم المسيح إليه بموته كانوا أكثر من الذين جذبهم إليه أثناء حياته على أرضنا. ونحن عادة نقول: لو عاش البطل الفلاني أكثر لأنتج أكثر، ولكن موته في ريعان الشباب أوقف إكمال عمله. غير أن الأمر مختلفٌ تماماً مع المسيح، فإن صليبه كان القوة التي جذبت الكثيرين إليه ليتبعوه ويضحّوا بحياتهم شهداء في سبيله. وقد قال المسيح: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ (يقصد طريقة موته مصلوباً) أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32). وهذا ما حدث.
وتؤكد قوانين الإيمان المسيحية منذ بدئها أن المسيح صُلب في عهد بيلاطس البنطي وتألم وقُبر وقام ظافراً. والممارسات المسيحية منذ البداية كالعشاء الرباني والمعمودية كلها تؤكد ذلك، فهما رمزٌ وذكرى لموت المسيح وقيامته.
وتغيير يوم العبادة من السبت إلى الأحد يعلن احتفال المسيحيين بقيامة مسيحهم من الموت بعد صلبه يوم الجمعة.
وهناك براهين من غير المسيحيين على أن صليب المسيح حقيقة تاريخية، نذكر منها ما يلي:
أولاً: شهادة اليهود (الذين صلبوه): والاعتراف سيد الأدلة. القاتل معترف ولا يختلف معه القاضي ولا الشهود. لو أن الصلب لم يحدث لدافع الكهنة اليهود والحكام الرومان عن أنفسهم بأنهم غير مسئولين عن قتله. ولكننا نجد عند اليهود الأدلة التالية:
جاء في التلمود: وهو أهم كتب اليهود الدينية بعد التوراة: «صُلب يسوع قبل الفصح بيوم واحد» (فصل السنهدرين ص 43 لسنة 1943 - طبعة أمستردام).
فلافيوس يوسيفوس: وهو من أعظم المؤرخين في زمن المسيح، وكان قائداً للقوات اليهودية في الجليل سنة 66م، وكتب تاريخهم في عشرين مجلداً، قال: «كان يسوع الرجل الحكيم، إن كان يحقُّ لي أن أدعوه رجلاً، لأنه عمل أعمالاً عجيبة، وعلَّم تعاليم قبِلها أتباعه بسرور فجذب لنفسه كثيرين من اليهود والوثنيين .. وحُكم عليه بالصلب بناءً على إلحاح قادة شعبنا. ولم يتركه أتباعه، لأنه ظهر لهم حيّاً في اليوم الثالث».
الحاخام يوحنا بن زكا: وكان تلميذاً لهليل الشهير (صاحب أحد أكبر مدرستين في الفكر اليهودي وقت المسيح) ومن هنا تنبع أهمية شهادته التي تطابقت مع شهادة فلافيوس يوسيفوس السابقة.
الحاخام العالِم يوسف كلوزمر: كتب في العصر الحديث كتاباً عنوانه «يسوع الناصري» جاء فيه: «إن الأناجيل سجلات صحيحة، وإن يسوع الناصري عاش ومات وفقاً لها». وهي شهادة تتفق مع شهادة العقاد في كتابه «حياة المسيح» (ص 126).
ثانياً: شهادة المستندات التاريخية الرومانية:
عثر عالم ألماني على الرسالة التي رفعها بيلاطس البنطي الذي حكم بصلب المسيح، إلى طيباريوس قيصر مُبيّناً له فيها الأسباب والظروف التي دعت إلى ذلك. وأُودعت بمكتبة الفاتيكان، ونُشرت ترجتمها في مجلة Witness Tower Zeiroun في فبراير 1892.
اكتشف الجيش الفرنسي في البندقية سنة 1280م صورة الحكم الذي أصدره بيلاطس وحيثيات الحكم على المسيح بالصلب.
كرنيليوس تاسيتوس: وهو حاكم آسيا الصغرى سنة 112م وكتب يدين نيرون وقال عن المسيح: «إنه قُتل في عهد بيلاطس البنطي حاكم اليهود أثناء سلطنة طيباريوس وأمكن مبدئياً السيطرة على خرافته، ولكنها عادت وانتشرت لا في اليهودية فقط حيث نشأ هذا الشر، بل في كل روما».
ثالثاً - شهادة فلاسفة الوثنيين ومؤرخيهم:
لوسيان: (وهو مؤرخ يوناني ولد سنة 100م) تحدث باحتقار عن المسيحية وقال: «مات المسيح في فلسطين لأنه جاء بديانة جديدة للعالم، وقال لأتباعه إنهم إخوة، ورفضوا آلهة اليونان. وعبدوا السوفسطائي المصلوب».
تاسيتوس: المؤرخ الشهير الذي وُلد سنة 25م) وتقلّد منصب قاضي القضاة، وكتب تاريخ الإمبراطورية الرومانية في 16 مجلداً. قال: «لُقّب الذين كان يعذبهم نيرون مسيحيين نسبة لشخص اسمه المسيح، حكم عليه بيلاطس البنطي بالقتل في عهد طيباريوس قيصر».
كلسوس الفيلسوف الأبيقوري: (ولد سنة 140م) وكان من ألدّ أعداء المسيحية، أيَّد في كتابه «البحث الحقيقي» صلب المسيح، وقال ساخراً من الغرض من الصليب: «احتمل المسيح آلام الصليب لأجل خير البشرية».
هذه عيّنة من الشهادات لتاريخية صلب المسيح. ولكن لا زالت رواية الأناجيل لأحداث الصلب هي المرجع الأول والأوضح، فهي تعرض القصة في سلاسة ودقة تفصيلية لا تجيء إلا من شاهد عيان. وعندما تقرأ القصة كما رواها البشيرون الأربعة ستجد نفسك مقتنعاً بصحتها. فارجع إلى النص الإنجيلي، لأنه الأساس.
نقدم في هذا الفصل دليلين لا يدعان مجالاً للشك أن المسيح صُلب وقام، وهما:
1 - القبر الفارغ
2 - كفن المسيح
والمقصود منه قبر المسيح الذي دُفن فيه بعد صلبه، فقد خلا من جسده بعد دفنه بثلاثة أيام. ولا يوجد تفسير معقول لهذا إلا في نصوص الإنجيل.
إن خلوّ قبر المسيح من جسده هو من أقوى الأدلة على القيامة. ولم يستطع مؤرخ عادل أن ينكر حقيقة فراغ القبر. فلقد ربح تلاميذ المسيح كثيرين آمنوا بالمسيح رغم عداوة السامعين، بعد أن أعلنوا خبر القيامة وهم على بُعد قريب من القبر، بعد أيام قليلة من خلوّ القبر من الجسد الذي أُودع فيه. وكان يمكن لمن يشاء من السامعين أن يذهب إلى القبر الفارغ ليتأكد بنفسه. فهل كان من الممكن أن يربح التلاميذ كل هؤلاء، لو أن جسد المسيح كان مسجى في قبره؟
وهل يمكن أن يقبل الكهنة والفريسيون وقادة اليهود ما أعلنه التلاميذ لو لم يكن القبر فارغاً فعلاً؟!
إن حقيقة قيامة المسيح ما كان يمكن أن تُعلن في أورشليم لو لم يكن المسيح قد مات وقام فعلاً.
لم تحظ قيامة المسيح من بين الأموات رغم خطورتها وأهميتها باهتمام الباحثين الإسلاميين، ولم يصل إلى حدّ علمنا أن أحداً من المسلمين المهتمين بعلم مقارنة الأديان - على كثرتهم - قد استقلَّ ببحث قدَّم فيه حلاً للغز القبر الفارغ. الذي يمكن صياغته كما يلي:
لو أننا سايرنا المسلمين في اعتقادهم أن الصلب قد وقع تاريخياً، ولكن على إنسان آخر شبيهٍ بالمسيح، فإن على المسلمين أن يسايرونا أيضاً في أن هذا المصلوب نزل من على صليبه ودُفن. ومن هنا تبدأ قضية القبر الفارغ، فإن التاريخ يؤكد لنا أن تلاميذ المسيح ذهبوا إلى القبر بعد ثلاثة أيام فوجدوه فارغاً، وأن الحجر الضخم الذي كان يسدّ باب القبر وخُتم بالخاتم الروماني قد زُحزح.
وبناءً على هذا فإن المسلمين عندما أنكروا صلب «يسوع» وجب عليهم أن يجيبوا على سؤالين:
- أين ذهب جسد المصلوب - أياً كان؟
- ومن الذي دحرج الحجر الضخم الذي كان يسدّ باب القبر، رغم وجود حراسة الجنود الرومان المشدَّدة؟
قال الإمام «محمد أبو زهرة» في كتابه «محاضرات في النصرانية»: «لم يبيّن القرآن ماذا كان من عيسى بين صلب الشبيه ووفاة عيسى أو رفعه - على الخلاف في ذلك - ولا إلى أين ذهب.. وليس عندنا مصدر صحيح يُعتمد عليه. فلنترك المسألة ونكتفي باعتقادنا اعتقاداً جازماً أن المسيح لم يُصلب. ولكن شُبّه لهم». وقال أحد علماء الأزهر: «إن قضية القبر الفارغ لا ناقة لنا فيها ولا جمل، فإن القرآن قد حسم قضية الصلب بقوله: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم».
أما البحث عمَّن دحرج الحجر، وما مصير الجسد المصلوب، فهذا من شأنه الاعتراف الضمني بالصلب الذي نفاه القرآن.
وقضية القبر الفارغ لا يمكن أن تُحل بآية القرآن السابقة، لأن القضية المطروحة الآن ليست قضية «مَنْ صُلب؟» فهذه مسألة مختلَف عليها، وقد عالجناها. لكن القضية الحالية هي قضية مصير جسد «الشبيه». فإن إجماع المؤرخين بما فيهم القرآن على وقوع حادثة الصلب قد دفع بالتساؤل عن مصير الجسد الذي صُلب، وأصبح إيجاد تفسير لخلوّ القبر من الجسد بعد ثلاثة أيام من دفنه ضرورة يحتّمها الحوار الهادف.
لا بديل للقول إن المسيح جاء ليخلّص الخطاة، وليقوم بالفداء، فقد صار نائباً عن البشر ودفع الدّيْنَ كله عنهم، ليرفع وزر الخطية. ومن خصائص فداء المسيح أنه لا يكتفي برفع الخطية عن الإنسان، بل إنه يشفيه منها. فكل من يقبل المسيح تتجدد حياته وتتغيَّر فيصبح إنساناً جديداً. ليت اختبارك يكون ما قاله بولس رسول المسيحية: «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ ٱلَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا» (1تيموثاوس 1: 15).
هذه دراسة تُعدّ شهادة علمية موثّقة، تؤكد وقوع حادثة صلب المسيح، وقد وقّع عليها أكثر من أربعين عالماً في مختلف فروع العلم، من بلاد متفرقة كأمريكا وفرنسا وسويسرا والنمسا وانجلترا. ولم تموّل هذه الدراسة أية هيئة مسيحية، بل درس هؤلاء العلماء الكفن للبحث العلمي وحده، ودرسه بعضهم لتفنيد رأي الكنيسة. وكان بعضهم يقرأ الإنجيل ليجد فيه دليلاً على عكس ما تنادي به الكنيسة.
وكفن المسيح محفوظ بكاتدرائية يوحنا المعمدان بمدينة تورينو بإيطاليا. وقد رفضت السلطات الكنسية أن يفحص أحدٌ من العلماء الكفن. وكان هذا لحكمةٍ إلهية، حتى يأتي السماح بهذا العمل في وقت تتوفر فيه الإمكانيات العلمية الحديثة.
وسترى توافقاً كاملاً بين أوصاف كفن تورينو وما جاء في الأناجيل الأربعة عن صلب المسيح:
فالكفن عبارة عن قطعة واحدة من الكتان الأبيض، طوله حوالي أربعة أمتار وربع المتر، وعرضه متر وربع المتر، وفي الكفن صورة أمامية وأخرى خلفية لإنسان طوله 181 سم، والصورة سلبية (نيجاتيف Negative) وهو وضع مستحيل، فلا يمكن لأي فنان أن يرسم صورة «نيجاتيف». ولا توجد حدود للصورة لأن التصوير لم يُعرف إلا منذ مائة عام تقريباً. وبناءً على طول الكفن، وعلى حبوب اللقاح العالقة به، قال علماء الأجناس إنه لإنسان طويل القامة، من شعوب البحر المتوسط.
ولقد تعرّض الكفن للحريق سنة 1532م نتيجة حرق الكنيسة كلها، واحترق الصندوق الذي يحتوي على الكفن، لكن الكفن نفسه لم يتأثر إلا باحتراق طفيف في أطرافه. وقد بحث العلماء عن نوع الأصباغ التي يمكن أن تكون الصورتان قد رُسمتا بها، ولكنهم لم يجدوا أي نوع من الأصباغ، فالصورة موجودة لأكثر من فتلة واحدة في النسيج. قال علماء التشريح والطب الشرعي إن الصورة التي للإنسان الذي وُضع في الكفن تدل على أنه في الثلاثينيات، كان يؤدي عملاً يدوياً شاقاً: عرفوا ذلك من الآثار التي في اليدين. وقالوا إن الكتف الأيمن مرتخٍ عن الكتف الأيسر نتيجة العمل باليد اليمنى. وكانت رِجله الشمال موضوعة على رِجله اليمين، والمسمار في المشط بين السلامية الثانية والثالثة. والمسمار الذي سُمّر في اليدين ليس في الكف بل في عظام الرسغ. والعظام لم تُكسر (تماماً كما قالت نبوات التوراة)، وعلى رأسه آثار طاقية شوك مغروسة كانت آثارها من الجبهة حتى قمة الرأس. وآثار الدماء على الوجه تأخذ منظراً متعرجاً نتيجة تقلّص عضلات الوجه بسبب الآلام الشديدة. وقال العلماء إن الكفن لإنسان صُلب، فقد شاهدوا سير الدماء في اليدين. وقاسوا الزاوية بين الرأس وبقية اليد فوجدوها 65 درجة، ووجدوا أن الكتف فيه آثار حمل الصليب، وتوجد كدمات كثيرة جداً في الوجه وأجزاء متورمة، كما يوجد قطع على شكل مثلث في الخد الأيمن من كثرة اللطم. أما الجراحات الموجودة بالظهر فكانت في شكل دائرتين غائرتين متصلتين ببعضهما نتيجة الضرب بالسياط. ثم بحثوا عن أنواع السياط التي جُلد بها فوجدوا أنه سوط روماني مثل العينات المحفوظة منه بالمتاحف، وهو سوط ذو ثلاث شعب، تنتهي كل شعبة بقطعتين معدنيتين.
وقالوا إن هذا الإنسان تناوب على جلده اثنان، وكان الذي يضرب من جهة اليمين أطول من الذي يضرب من جهة الشمال، والضارب القصير من جهة الشمال كان قاسياً لأن ضرباته تركت أثراً أعمق من الضارب في جهة اليمين!!
وهناك فتحة في الجنب الأيمن سالت منها كمية دماء كبيرة، يشبه شكلها مقدَّم الرمح الروماني، كورق الشجرة، والفتحة بمَيْل وموجودة بين الضلعين الخامس والسادس. وهناك آثار ماءٍ سائل قال بعض العلماء إنه من السائل المحيط بالقلب، لكن كميته قليلة، وقالوا إن القلب يمكن أن يفرز أكثر، نتيجة للإجهاد الكثير. وهناك رأي ثان لفريق آخر من العلماء قال إن هذا الماء من السائل المحيط بالرئتين، ويمكن أن تزداد كميته نتيجة الشد العضلي، وهو الرأي الأرجح.
يقول علماء النبات إنه يمكن معرفة موطن صاحب هذا الكفن بفحص حبوب اللقاح اللاصقة بقماش الكفن، ويُقاس حجمها بواحد من المليون من المليمتر، ولا تُرى إلا بالميكروسكوب الالكتروني. وقد أخذوا بعض التراب اللاصق بالكفن ودرسوه لمدة ثلاث سنوات لمعرفة النباتات التي تتبعها حبوب اللقاح، وأين تنمو؟ فوجدوا أن هذا النبات كان موجوداً في مرسيليا، وباريس، والقسطنطينية، وقبرص، وصور، وصيدا. لكن إلى جانب ذلك وجدوا مجموعة من حبوب اللقاح لم يتوصلوا إلى حقيقتها ولا إلى مكان وجودها. وأقام أحد العلماء لمدة ستة شهور في أورشليم. وهناك وجد النباتات التي لا تنمو إلا فيها، والتي تتبعها حبوب اللقاح التي كانت موجودة في كفن تورينو.
بحثوا أيضاً عن عمر قماش الكفن بواسطة تجربة الكربون 14 المشع، فوجدوا أنه يرجع لحوالي ألفي سنة.
أما عن صورة وجه المسيح المطبوع فلا تتفق مع ما رسمه فنانو أوربا، ولكنهم وجدوها تطابق الرسوم الموجودة في الكنائس الشرقية التي رُسمت في قرون المسيحية الأولى. وأقرب الصور إليها هي صورة رسمها كيرلس الكبير البطريرك الإسكندري الرابع والعشرون في القرن الخامس، وصورة أخرى في كنيسة أيا صوفيا، وثالثة في إحدى كنائس سوريا.
أي صورة لها بعد ثالث، ما عدا صورة الكفن فليس لها بُعد ثالث، رغم استعانة العلماء بأجهزة البحرية الأمريكية شديدة الدقة، والصورة بلا رسم ولا أصباغ.
قالوا: ربما تعرَّض هذا الكفن لإشعاع مُعيّن. لكن علماء الطاقة الذرية نفوا معرفتهم لإشعاع يطبع الصورة. وأخيراً قالوا إنه يُحتمل أن هذه الصورة تكون قد تكوّنت نتيجة خروج شعاع ما وقت قيامة المسيح.
تعليق: أشاع البعض أن الكنيسة أوقفت البحث في موضوع الكفن لأنه ليس للمسيح! ومهما كان، فإننا لا نبني إيماننا على مجرد وجود الكفن، فحقيقة موت المسيح وقيامته أرسخ من أية حقيقة تاريخية أخرى. فلو لم يكن كفن تورينو خاصاً بالمسيح فهذا لا ينفي موت المسيح وقيامته.
ونرجو أن يرجع القارئ إلى كتاب «من دحرج الحجر؟» الذي كتبه المحامي البريطاني فرانك موريسون، الذي كان ينوي الكتابة ضد تاريخية القيامة، ولكن الأدلة على صدقها بهرته، فكتب يبرهنها. والكتاب مترجم للعربية.
وهنا أطلب إلى القارئ الكريم أن يجلس في هدأة غرفته ويفكر تفكيراً رزيناً جديّاً مسترشداً بالله ليوضح له الحقيقة، وليهديه للمعرفة الحقة للمسيح، فهو الطريق إلى الله وهو الحق وهو الحياة الأبدية.
أيها القارئ الكريم
أيها الأخ الكريم، إن ما يتفهمه المرء جيداً يعبّر عنه بوضوح، ويستطيع أن يقوله بسهولة.
اقرأ هذا الكتاب بتأنٍ وتمعّن. لتختبر معلوماتك وتحدد موقفك بدقة تجاه هذا الموضوع الخطير، اكتب اجابتك وافكارك عن الاسئلة التالية. نحن بانتظار اجوبتك.
ماذا تستنتج من قول القرآن: «فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا اهبطوا» (البقرة 2: 35 - 37)؟
اذكر خمس خطايا ارتكبها آدم، حسب شرح الإمام الفخر الرازي.
نسب القرآن الخطية للأنبياء. اذكر ما قاله بخصوص خطايا إبرهيم وموسى ومحمد.
ما هي أجرة الخطية، ولماذا يعاقبها الله؟
اذكر عشر طرق يقول المسلمون إن الله يكفر بها عن الخطية ويغفر بها الذنوب.
لماذا تعجز أعمالنا الصالحة عن تحقيق الكفارة؟
لماذا ترى أن الكفارة لازمة، وهل تطغى الرحمة على العدل؟
لماذا نقول إن كفارة المسيح حتمية؟
ماذا تقول الآية 15 من سورة مريم عن موت المسيح؟
ما هي الإشكالات الستة التي أوردها الإمام الرازي على فكرة إلقاء شبه الإنسان على غيره؟
ماذا قال علماء المسلمين في مدة وفاة المسيح؟
ما هي الروايات الإسلامية حول الشبيه؟
اذكر خمسة تفاسير مسيحية لسورة النساء 157.
ما هي شهادة المسيح للصليب قبل حدوثه وبعده؟
أعط برهاناً نفسياً لأن الصلب حقيقة تاريخية.
اذكر خمسة أدلة من خارج التوراة والإنجيل على تاريخية الصلب.
ما مغزى خلوّ قبر المسيح من جسده؟
ما هو موقف الإسلاميين من قضية القبر الفارغ؟
قدم فكرة مختصرة عن كفن تورينو.
ما هو موقفك من صليب المسيح؟
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the-good-way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland