Table of Contents
ف.ا. مكناس - المغرب
لست من العلماء، وإنما أنا إنسان عادي خلصني المسيح وأعطاني روح التمييز بين الأمور، فصرت أشعر أن لي حياة يجب أن أرقى بها إلى أسمى حد مستطاع، وأشعر أن إلهاً غنياً في المحبة والحكمة يدير شؤون هذه الحياة. ولكن الباحث في أمور الله لا يمكنه أن يحيط بكل أطراف هذا الموضوع ودقائقه. ومهما كان عقله مستنيراً وبحثه وافياً لا بد أن يترك وراءه نقطاً لا يمسها. وإنما معلوماتي المتواضعة يمكنها أن تمهد لك السبيل للوصول إلى بعض الشيء عن حقيقة الله:
لا يقدر مخلوق أن يعرف الله كما هو، وإنما يمكننا أن نعرفه بما يميزه عن كل من سواه، مستعينين بكلمة المسيح «اَللّٰهُ رُوحٌ» (يوحنا 4: 24). وأصحّ ما قيل في هذا الشأن، ما جاء في كتاب التعليم المسيحي لمجمع وستمنستر وهو: «الله روح، غير محدود في ذاته، وكامل، منه وبه وله كل الأشياء. كماله كافٍ للكل، سرمدي غير متغير، ولا مُدرَك، حاضر في كل مكان، قادر على كل شيء، عالم بكل شيء. حكيم قدوس عادل رحيم، رؤوف بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء». وجاء في كتاب أصول الإيمان: «الله روح غير محدود، سرمدي غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله وصلاحه وحقه».
يقول الكتاب المقدس إن معرفة الله ممكنة بواسطة المسيح الذي أعلن الله، فقد قال: «لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلٱبْنَ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلٱبْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلٱبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 27 و28) ... «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي... اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآب» (يوحنا 14: 6-9).
وهناك المعرفة الغريزية، وهي صفة طبيعية في المخلوق العاقل، وهي لا تفتقر إلى براهين لإثباتها أو إلى شهادة إنسانٍ لتصديقها. وقد شهد التاريخ على أن الإنسان مخلوق متدين، أي أنه ذو ميول طبيعية دينية، حتى أنه لم يوجد شعب في زمان أو مكان بدون ديانة ما، ولا وُجدت لغة في العالم خالية من اسم الله. وبما أن اللغة تعبّر عن أفكار الإنسان وإحساساته، يكون ذلك دليلاً على أن شعور الإنسان بوجود الله عام. صحيح أن كثيرين ملحدون لا يؤمنون بوجود الله، ولكن هذا ناشئ عن قدرة الإنسان على مضادة طبيعته، وإنكار ما هو مغروس في نفسه عن الله.
هذا الكون المتناسق في مجموعته يحتم على العِلم الاعتراف بأن لكل معلول علة. فإذا اختلّ تناسق شيء ما ظن العلم أن فكرته ناقصة، وأن الحقائق لم تتوفر كلها، وأن هناك حلقات ما تزال مفقودة. فالنظرية العلمية تفرض أن يستعرض الباحث أمامه تفصيلات الموضوع، وأن يزنه ويحلله مقارناً الحقائق، وبعدئذ يطبق نتائج بحثه على الفرض الذي افترضه، ليرى مبلغ توافقه مع هذه النتائج. والآن آتي بك إلى نقطة يلتقي عندها طريقان: طريق العقل المسلَّح بالعلم، وطريق الاختبار.
يقرُّ العِلم أن للعالم قصداً معيَناً، وأن وراء هذا القصد إرادة عاملة. ولا يسلّم العلم بأي شيء إلا إذا عرف علته. ولكن من جهة أخرى يطل علينا طريق الاختبار الديني، ذلك الشعور العميق بوجود قوة عُليا تحيط بنا وتهدي أقدامنا وتسند ضعفنا. هذا الشعور هو الذي يدفع الإنسان لأن يلقي نفسه على قوة أعظم منه وخارجة عنه. وقد شهد كثيرون أن هذه القوة قد تدخلت فعلاً وأسندتهم عند الحاجة.
ولكن الإنسان لا يقدر أن يؤمن بالله ما لم يسلم قبل كل شيء أن معرفته صادرة من الله، لأنه مصدر «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ» (رسالة يعقوب 1: 17). وإن كان الله واهب كل شيء في هذا العالم، وإن كان قصده واضحاً في كل حقائق الحياة، فعندما نتأمل في هذه الحقائق كأننا نتأمل نتاج قصد الله وعمل يديه. وكلما تأملنا في خليقة يديه عرفنا شيئاً عن الصانع نفسه. وهذا ما عبر عنه داود بالقول: «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19: 1).
ويصل الفيلسوف إلى وُجهة نظره عن ذات الله وطبيعته بعد التفكير والبحث والجدل، إلى أن يقول: بما أن هذه الحقائق صحيحة ظاهرياً يكون الله كذا وكذا...
أما المتصوّف فيبدأ تفكيره، لأن شيئاً قد اعترض سبيله، أو لأن اختباراً معيناً مرّ به، ولم يفهم مرماه. ولكنه لا يلبث أن يقبله بالتسليم للمشيئة الإلهية، فيقول: «هكذا يقول الرب» .
فإن كان العلم والفلسفة يسعيان وراء معرفة الله، فإن الاختبار الديني وحده يعطينا معرفة الله. بيد أن الاختبار يشترط في الإنسان صفة الذهن المفتوح الذي يُسر بما لله.
لوجهة النظر التي يعتنقها الإنسان عن الله تأثير فعال على كيانه وصفاته وحياته، وهذا التأثير يكيّف ويصيغ الحياة كلها. فإن كانت صورة الله كمنتقم جبار راسخة في اعتقاد إنسان، يُخشى أن يصبح شعار حياته القسوة والمحسوبية، واضطهاد من هم أضعف منه. فإذا أردت أن أرقى بحياتي إلى أجمل وأكمل مظاهرها، وجَب أن أفكر في ذلك الإله الذي أعلنه لي المسيح قائلاً: «أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 6: 9) بكل ما في الأبّوة السماوية من حب غني في الحنان والرحمة.
وكمسيحي أود أن أذكر لك بعض الصفات التي عرفتها في إلهي الذي أعبده بروحي:
عرفتُ في إلهي القدرة على كل شيء: والفكرة عن قدرة الله في المسيحية قائمة على فكرتنا نحو مقصده الأسمى. وقد أعلن لي ولغيري أن قصده في الخليقة هو الإخاء والمحبة، وجعل كل الخلائق البشرية عائلة واحدة. وتنفيذ مثل هذا القصد يتطلب نوعاً من المقدرة وهي المحبة. وإذ أؤمن بأن الله قادر على كل شيء لا أتصور أن الله الذي جعل الإنسان حراً في اختياره يمكن أن يعود فيقيِّد هذه الحرية بحسب الهوى، فيفعل الإنسان ما لا يريده...
إنّ قدرة الله تتوازى مع محبته للإنسان والمحبة لا تتوفر عن طريق القهر والإرغام، بل عن طريق الأناة الطويلة، ولا عجب في ذلك فقد وُصف الله بطول الأناة والرأفة.
عرفتُ في إلهي الحكمة: وإني أقرأ في كل صفحة من صفحات الطبيعة آيات حكمة الله المتناهية، فإن التلسكوب بما يكشف لي من النجوم والكواكب والسيارات الدائرة في الفلك والسائرة بسرعة مدهشة في فضاء لا نهائي، لا تحيد عن خط مدارها، تنبئني بحكمة الله. وكذلك المكروسكوب (المجهر) الذي يكشف لي الدقائق الصغيرة والذرات الدقيقة جداً، والتي لا تراها العين المجردة تنبئني بحكمة الله. وكذلك تعاقب الليل والنهار والفصول وما يجري خلالها ينبئني بحكمة الله. والمبادئ التي تتخلل الطبيعة مثل قدرة الحيوان والنبات على التكيف بالوسط الذي يعيش فيه تعلن لي إلهاً عظيماً هو مصدر الحكمة.
عرفتُ في إلهي العدالة: لأني أشعر في داخلي بوازع يشاطرني فيه كل بني البشر، يتحداني ويؤنبني عند فعل الخطأ، ويحبّذ لي فعل الصواب. وبسبب هذا الوازع الداخلي، الذي يُسمى الضمير، أعرف أن الخالق الذي وهب الإنسان هذا الضمير، لا بد أن يكون عادلاً إلى منتهى حدود العدالة. وبهذا الضمير أصدّق إعلان الله عن يوم الدينونة الذي هو مقياس أبدي للعدالة، فيه يُثاب البر، ويُعاقب الإثم. وهذا الضمير يؤكد لي أن الله قدوس كامل يكره الخطية التي يبغضها ويحتقرها العنصر الطيب في نفسي، كما يؤكد لي أن الله مستعد أن يفعل كل شيء لمساعدة الإنسان وإعطائه الغلبة على الخطية عدوه الشرير الذي تسلل إلى الحياة البشرية بسبب إساءة استعمال الإنسان لحريته الأدبية واختياره الحر.
عرفتُ في إلهي الرحمة: وقد ظهرت رحمته في يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية عن كثيرين. وقد عرفت من شهادة روحه القدوس في ضميري أن رحمته ليست الرحمة المنبعثة عن هوى في النفس، والتي تبدو من قاهر إزاء نخبة من محاسيبه، لأن المحسوبية والمحاباة من عمل الشيطان، وليست من عمل الله، فليس عند الله محاباة. بل رحمته منبعثة عن محبته لكل إنسان، وفقاً لقول الإنجيل: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).
إنّ الله يحب كل إنسان خلقه، ومحبته تصبر على كل إنسان بلا استثناء حتى يصل الكل إلى كمال الغرض الذي خلقهم لأجله. وهذا الغرض في اعتقادي هو الشركة معه.
ورحمة الله تميّز بين الخاطئ وخطيته، فبقدر ما يكره الله الخطية يحب الخاطي ويديم له المراحم، وفقاً لقوله «مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَدَمْتُ لَكِ ٱلرَّحْمَةَ» (إرميا 31: 3).
عرفتُ في إلهي أباً حنوناً كثير الرأفة: فلأن عقولنا محدودة وبشرية لا يسعنا ابتكار اسم واحد نطلقه على الله. وليس أمامنا إلا أن نفكر فيه بحسب الاصطلاحات والتشبيهات البشرية وأسمائه المذكورة في الأسفار المقدسة. وأحَبُّ أسماء الله في المسيحية «الآب» لأن هذه اللفظة تنطوي على كل معاني المحبة.
وقد ظهر أروع مثال لهذه المحبة الأبوية في مَثَل الابن الضال الذي تكلم به الرب يسوع، والذي أوجزه بهذه العبارات: كان لإنسان ابنان، اجترأ أصغرهما بدافع الحرية المعطاة له أن يطالب بنصيبه في الميراث، ويذهب إلى كورة بعيدة. ولكن محبة الآب لم تضعُف أمام هذا العقوق ونكران الجميل، لأن الابن الضال كان محبوباً لديه. ومحبته قد تزايدت من جراء الآلام التي تجرَّعها ابنه في الغربة حيث عانى من الفاقة والذل بعد أن نفدت أمواله.
وكان قلب الآب خلواً من كل نقمة على الولد العاق، وكان ينتظر عودته بفارغ الصبر ليتخذ مكانته في الأسرة. ولهذا الغرض تحملت المحبة كل مدى الصبر وكل مدى الألم (لوقا 15: 11-32).
وخلاصة القول، إن الله في المسيحية هو الإله المحب لجميع البشر، ليس لاستحقاق فيهم، ولا لبر في أعمال عملوها بل بمقتضى محبته، التي حين تأمل الرسول الملهم يوحنا في أبعادها، قال: «اَللّٰهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي ٱللّٰهِ وَٱللّٰهُ فِيهِ» (1 يوحنا 4: 16).
ا.م. أسيوط
علينا أن نستعين بتاريخ الكنيسة لنرى كيف نشأ اعتقاد المسيحيين الأوائل بالثالوث الأقدس، وكيف اختلف فيه بعض مفكري الكنيسة، فقدموا آراءهم للمجامع العامة للبحث فيها، للإجماع عليها أو رفضها. فنشأت الفرق المسيحية، إذ لم يسلّم الكل بالرأي الذي حصل على الإجماع. وقد اضمحلَّت بعض تلك الفِرق وزالت بعد مدة ليست طويلة كالأفكار الأريوسية، ولم يزل بعض آخر باقياً، كالكنائس النسطورية.
ولعل الحماس الديني كان قوياً حتى اتخذ شكل التعصب الطائفي، حتى أن الذين لم تُقبل آراؤهم من إجماع الكنيسة، حُسبوا ليس فقط مبتدعين، بل كفرة لا علاقة لهم مع المسيح.
وبحسب ما لدينا من السجلات المسيحية لم تكن الكنيسة الأولى تفتكر كثيراً في عقيدة الثالوث. ويظهر من تاريخ الكنيسة في ما بعد أن تلك العقيدة هي كقمة البناء، لا يصل إليها إلا من بدأ من الأساس. فمن وثق في المسيح ثقة الإيمان، وقبل كلام المسيح عن نفسه وعن علاقته بالآب، كما هو مدوَّن في الإنجيل، لا يسعه إلا أن يصل إلى الإقرار بالثالوث، عندما يفكر في طبيعة الله.
ولهذا يأسف المسيحي إذا رأى من يأبى التعرف بالإنجيل أو بالمسيحية، إلا بعد ما يكون قد أدرك سر الثالوث، غير عالم أن الطريق الصحيح لإدراكه هو التعرف بالمسيح ومبادئه وقوته الروحية، وتأثيره في الحياة الداخلية. فإذا تمادى الإنسان في هذا الطريق لن يجد في عقيدة الثالوث ما يحول دون قبوله المسيح، لأنه يثق بمغفرة خطاياه، ويختبر قوة المسيح في حياته الأخلاقية. وقد يصل إلى هذه النتيجة دون أن يفكر في سر طبيعة المسيح، أو يحمّل نفسه عناء السؤال كيف يملك قوة داخلية حية كهذه. ولكنه يجد حلاً لأي إشكال محتمل في إعلانات الكتاب المقدس ابتداءً من إشعياء 9: 6 حيث يقول النبي الموحَى إليه «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» . ويمكنه الاستشهاد بقول المسيح «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ... اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ... أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيّ» (يوحنا 10: 30 و14: 9-11).
قد يصعب هذا الفكر على الأخ المسلم، ولكنه يجد في القرآن نصوصاً تنسب للمسيح أسراراً امتاز بها عن غيره من الأنبياء والرسل، كالقول إنه «كَلِمَةُ ٱللَّهِ وَرَوُحٌ مِنْهُ» (سورة النساء 4: 171). «وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ» (سورة آل عمران 3: 45). «تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً َتُبْرِئُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوْتَى بِإِذْنِي» (سورة المائدة 5: 110).
أما الإجماع المسيحي منذ القديم فقد اصطلح أن يعبِّر عن سر طبيعة المسيح بكلمة «أقنوم» وهي كلمة يونانية معناها «شخص» من أقانيم اللاهوت الثلاثة في جوهر الإله الواحد. ونحن المسيحيين لا نرى الرأي القائل إن البحث في ذات الله كفر. مع العلم أننا من الوجهة الأخرى لا نعتقد بإمكان معرفة حقيقة الذات الإلهية، بل نقرّ أن أفكار الله أعلى من أفكارنا، وطرقه أعلى من طرقنا، فإن ذات الله وطبيعته الحقيقية أسمى من أن يستطيع الإنسان أن يعبّر عنهما تعبيراً صحيحاً بواسطة الاصطلاحات البشرية الناقصة العاجزة.
ونحن لا ندعي المقدرة على إثبات عقيدة الثالوث بأدلة علمية أو طبيعية، كما أنه لا يمكن إثبات وجود الله نفسه بأدلة منطقية أو علمية. ثم إن العديد من العلماء والفلاسفة يقرون بوجود الله مع أنه ليس من شأنهم ولا في إمكانهم إثبات ذلك. هكذا الأمر مع عقيدة الثالوث المستخرجة من الكتب المقدسة، فقد قبلتها الكنيسة دون أن يخطر ببالها أن تثبتها ببراهين منطقية.
وعقيدة الثالوث كغيرها من العقائد المسيحية، ليست لقوم يحيدون عن الخطة التي انتهجها تلاميذ المسيح أولاً، الذين قبلوها ليس عقلياً بل بالاختبار. وكل إنسان يقبلها عقلياً بدون الاختبار الشخصي الروحي لا يستفيد منها، لأن المسيح نفسه قال «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 7: 21) أي ليس من اعتقد عقائد الدين فحسب، بل الذي صار الدين في حياته حقيقة فعلية.
وأنا لا أتعجب إذا توقف المسلم أو غيره عن قبول عقيدة الثالوث، طالما أنه لم يعرف بعد المسيح كما هو في الإنجيل ويختبره في حياته، لأن القرآن لا يقول بالثالوث بل يرفضه بقوله «وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ ٱنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» (سورة النساء 4: 171). والواقع أن هذا القول ينصبُّ على رفض آراء متطرفة غير أصيلة في تعليم المسيحية الأساسي. الذي يظهر أن الإسلام لم يتعرف به تماماً كما تعرّف بآراء المتطرفين من النصارى، بدليل قول القرآن «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ؟» (سورة المائدة 5: 116). فهذا القول ينصبّ على رفض رأي متطرف لم تعتقده الكنيسة المسيحية الصحيحة في أي عصر من عصورها.
إني أتمنى أن يميل المسلمون الذين يبحثون عن الحق إلى درس تاريخ الكنيسة المسيحية للوقوف على وجهات نظر المسيحيين حول الثالوث، وعندئذ لا يلبثون أن يروا أن هذه العقيدة ليست قائمة على ظنون، بل على ما جاء في أقوال الكتاب المقدس نفسه عن سر المسيح وعلاقته بالآب.
ولو آثر الأخ المسلم دراسة أسفار العهد الجديد بالدقة والإخلاص، لسهُل البحث بين المخلصين من مسيحيين ومسلمين، ولعرف المسلمون أن عقيدة الثالوث هي تفسير لما تكلم عنه الإنجيل بعبارات بسيطة، كما في قول المسيح «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ، فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى 28: 18-20)... «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ» (2كورنثوس 13: 14).
س. م. القاهرة
كان عليك يا صديقي أن تكمل ما قرأته من قانون الإيمان بالعبارات التالية: «الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء، وصار إنساناً».
وعلى ذلك لا يكون السؤال كيف يجرب إبليس الله، بل كيف يجرب شخصاً كان إنساناً، وكان الله في ذات الوقت متجسداً فيه. فليست المشكلة هي ما قلته، فإن المسيحيين لم يقولوا إن المسيح تجرَّب كإله، إنما تجرب كإنسان، وصارع التجربة كما يصارعها أي إنسان. وليس خطية أن يتجرب الإنسان. وإنما الخطية أن يستسلم الإنسان للتجربة وينهزم أمامها. والمسيح دخل التجربة، بعد أن أخلى نفسه مختاراً من استخدام قوات اللاهوت، ترك لنا مثالاً للغلبة على تجارب الحياة. وقد قيل عنه في كتب الوحي «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّة... لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ ٱلْمُجَرَّبِينَ» (عبرانيين 4: 15 و2: 18). وفي هذه التجربة نرى نحن المسيحيين حلاً لمشكلة طالما تصدَّت للناس، وهي أن السمو الروحي تعترضه تجارب شديدة. ولكن التجارب ليست دليلاً على أن الله قد تخلّى عن الإنسان. العكس هو الصحيح، فقد قال الرسول يعقوب «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ ٱمْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً. وَأَمَّا ٱلصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ» (يعقوب 1: 2-4).
أما المشكلة الحقيقية فلم تبيّنها، وهي ليست مما يمكن حله تماماً طالما نحن على هذه الأرض، لأنها تنطوي على فهم اتحاد الشخصية في كائن هو إله وإنسان. وهنا اسمح لي أن ألفت انتباهك إلى ما يقوم به علماء النفس منذ مئات السنين من أبحاث لدرس طبيعة الشخصية البشرية، دون أن يعرفوا إلا اليسير. فكم بالحري لا نستطيع أن نفهم الشخصية الإلهية، إلا بقدر ما أعلنه لنا الله غير المحدود عن ذاته بمصطلحات الفكر البشري واللغة البشرية. كان رسول الجهاد العظيم بولس من أعظم مفكري عصره، وقد أوُحي إليه فكتب لنا أشياء مجيدة جداً عن الرب يسوع. ولكنه مع ذلك قال: «ٱلآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ» (1كورنثوس 13: 12). وليس في وسعنا أن نحيط بطبيعة شخص اتحد فيه العنصر الإلهي والبشري. وقبلنا تأمل إشعياء النبي في شخصه، وإذ لم يستطع أن يحلل شخصيته قال: «ويُدعى اسمه عجيباً» .
وأنت نفسك يا صديقي الكريم، يجتمع فيك عنصر النفس العاقلة المفكرة وعنصر الجسد البشري، وهذا الاتحاد بين النفس والجسد ما زال سراً لا يعرف أحد كيف يبدأ ولا كيف يستمر ويعمل. ونحن ندرك أن هذا الاتحاد لم يحصل اعتباطاً، بل هو تناسق تام تتعاون فيه كل العناصر. وحياتك الجسدية لا تبطل ولا تنسخ باتحاد حياة الروح معها. فهل تستطيع أن تعطي بياناً وافياً عن سر هذا الاتحاد العجيب بين الجسد والروح في شخصك؟
هكذا نحن الذين لم تتوفر لدينا إلا معرفة محدودة عن الله، أعلنها لنا بمصطلحات تدريها أفهامنا المحدودة! إننا لن نقدر طالما نحن على الأرض أن ندرك سرائر الله، ولكن تعزّينا كلمة قالها الرسول بولس مسوقاً بالروح القدس «لٰكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ» (1كورنثوس 13: 12). وبانتظار ذلك نكتفي بما أفصحت عنه الكتب المقدسة التي بين أيدينا عن المسيح، الذي نرى فيه هذا الاتحاد بين العنصرين الإلهي والبشري، الاتحاد الذي يرينا المسيح إنساناً كاملاً وإلهاً كاملاً. فهو إتحاد لم تتعطل به إحدى الطبيعتين، ولم تُنقض أيّهُما.
فكإنسان وُلد تحت الناموس، وكطفل بشري نما، وكصبي بشري جلس عند قدمي المعلمين يسمعهم ويسألهم، وكإنسان جاز اختبار التجربة. ولكنه كإله انتهر عناصر الطبيعة، وأسكت البحر الهائج، وأقام الموتى، وغفر الخطايا، وطهر البرص، وأعطى كل الذين قبلوه «سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 1: 12).
أنا لا أستغرب حيرتك أمام هذا الأمر، ولا أستنكر تساؤلك، كيف يكون المسيح إلهاً ويُجرَّب؟ ولكن قبل أن أختم جوابي هذا أرى لزاماً عليَّ أن أحيطك علماً بوظيفة ربنا يسوع الكهنوتية. فالكتاب المقدس يعلمنا أنه رئيس كهنة. وإنها لتعزية كبرى في وسط تجارب الطريق، أن نعلم أن لنا رئيس كهنة عظيماً رحيماً، نستطيع أن نلجأ إليه في وقت الضيق. وإنه لأمر مبارك أن نعلم أنه ليست هناك ذرة من الاختبارات التي نمرّ فيها تصغر أو تدقّ عن قوة ملاحظة رئيس كهنتنا العظيم. وليس هناك تجربة نخجل أن نتحدث عنها أمام الناس، لا يمكننا أن نهمس بها في أذن يسوع المبارك. لقد تجرَّب في كل شيء بلا خطية، وهذا أهّله أن يكون رئيس كهنة رحيماً، يتلقّى اعترافنا ويرسل إلينا عوناً من قدسه. لقد اجتاز - بالفعل - تجاربنا واختباراتنا، فهو إذن ليس فقط له عِلم إلهي بأحوالنا وضعفاتنا وحاجاتنا وأحزاننا، بل قد اختبر هذه الأحوال والحاجات والأحزان. إنه ملمٌّ بالمعنى الكامل لظروفنا، وبطريقة تفوق بما لا يُقاس اختبار أكبر القديسين نضوجاً، لأنه اختبرها دون أن يرتكب الخطية التي تبّلد مشاعرنا.
س. ف. - السودان
لا شك أن المسيح كان نبياً وكان رسولاً، وقد خاطبه خاصته بلقب «السيد والمعلم» . وقال له أحد رؤساء اليهود «نحن نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً» (يوحنا 3: 2). ولكن أيكفي أن نقف عند هذا الحد، ونقبله رسولاً للبر وقداسة الحياة، ونقبله معلماً جاء باراً في المبادئ والمثُل العليا، التي عرفتها الإنسانية؟
إن الوقوف عند هذا الحد لا يتفق مع حكم التاريخ، ولا مع حقيقة الاختبار. فالمسيح لم يُصلب كنبي أو رسول، بل كان المسيَّا المنتظر الذي ترقبته الأجيال. وفكرة المسيَّا لم تكن من تخيلات البشر، بل حقيقة أوحى بها الله للأنبياء فحيّوها وعاشوا على رجائها، وكتبوا الشيء الكثير عنها في أسفارهم المقدسة. وقد جعلها الشعب اليهودي مداراً لكل آماله وأمانيه. فأنصار النعرة القومية منهم، والرجعيون، والمتمسكون بحرفية الأقوال، اتخذوها تكأة لتحقيق أحلام زمنية وسلطان عالمي يدكّ قوة الرومان المستعمرين تحت مواطئ الأقدام، وحسب ذوو العقول النيِّرة والنفوس الروحية الحساسة عصر المسيَّا مُلكاً قوامه البر والسلام.
ومنذ بداية عصورها، تصر المسيحية على قراءة أسفار العهد القديم بالروح لا بالحرف. ومتى قُرئت تلك الأسفار بهذه النظرة، لا نلبث أن نجد في المسيح تحقيقاً لتلك الآمال المرتقبة، واكتمالاً لدين الله الصحيح.
وهذا الموقف يعلل لنا أقوال المسيح وتعاليمه وأفعاله، ويلقي عليها أشعة من النور الساطع. فالمسيح في التاريخ كان نبيّاً ورسولاً ومعلماً. أما في نظر خاصته، وفي نظر نفسه، فقد كان «المسيَّا» الموعود به منذ أقدم العصور. والأمر الجوهري ليس تعاليمه الجديدة الرائعة التي لم يجاره فيها رسول آخر لا قبله ولا بعده، بل ذلك السلطان المطلق الذي اصطبغت به أقواله، وهو القائل في الإنجيل المجيد «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ... وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ...» (متى 5). ومن يقرأ أسفار العهد الجديد بإمعان ورويَّة، لا يُدهش حين يرى رئيس كهنة اليهود، يسأل المسيح «هَلْ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟» فيتلقى منه ذلك الجواب الصريح «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ» (متى 26: 63-64).
لكن الفكرة المسيحيّة عن المسيح تسمو فوق الفكرة اليهودية عن المسيَّا، وإن كانت مكمّلة لها. لقد كان المسيَّا هو الملك والنبي والكاهن، الذي كمُل فيه وبه قصد الله، وهو المثل الإلهي الأعلى، وعصره هو العصر السامي المنتظَر - كل هذا كان مسلّماً به لدى اليهود. أما أن يتجرَّع المسيح غُصة الألم، وأن يتخذ طريقه إلى مُلكه صليباً مهيناً، فهذا لم يخطر على بال اليهود، بل كان عثرة في نظرهم، كما لا يزال عثرة في نظر غير المسيحيين، حتى في عصرنا هذا.
ولكن ما عسى أن يكون معنى أقوال المسيح وأفعاله في تلك الليلة التي أُسلم فيها، وفي أثناء العشاء الوداعي: «خذوا كلوا هذَا هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ... هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ هِيَ ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ بِدَمِي ٱلَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ» (لوقا 22: 19 و20). وعندنا أن المسيح أراد في تلك الليلة الوداعية أن يتسامى فوق العهد القديم الذي قُطع لآباء اليهود، ويقطع عهداً جديداً بتقدمة حياته ذبيحة لله عوضاً عن البشر.
وفي أسفار العهد الجديد نرى أمامنا رسول الناصرة يذيع عصراً جديداً، ودينونة رهيبة، وشريعة مُنزلة، والداعية العظيم المنادي بملكوت الله. وكان هو نقطة الارتكاز في ذلك الملكوت. والخصم القوي للفريسيين والمرائين ومحترفي الدين، والمعلّم الذي التفّ حوله تلاميذه ليكونوا نواة كنيسة الله الحقيقية الوارثة لملكوت البر. والإنسان الذي يعلّم بسلطان، والرب الذي يغفر الخطايا، والشافي الذي يبرئ الأوجاع والحي الذي يقيم الأموات.
هذا هو يسوع الإنجيل الذي يؤمن به المسيحيون. وهو شخصية تاريخية، وفي نفس الوقت هو كلمة الله وصورة الله غير المنظور، الذي صار جسداً وتمثَّل بشراً سوياً، شخصية إنسانية كاملة للقيام بعمل الفداء.
إن حق المسيح حق هائل لا يفهمه إلا الإنسان المولود من الله، وهو حكمة الله التي أُخفيت عن حكماء هذا الدهر وأُعلنت للأطفال. وقد تحدى الإنجيل الكريم أبناء الإنسانية في كل جيل وعصر وما فتئ يتحداهم بهذا السؤال «ماذا تظنون في المسيح؟» وقد أجابت عنه كلمة الوحي بفم بولس «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16). إلا أن جواب الرسول المغبوط الصادق يتطلب من الفرد إيماناً يصدق حتى دون أن يرى. وهذا الإيمان ليس من الفرد بل منحة من الله. والذين يرون بالإيمان في الإنسان يسوع المسيح، الذي «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يوحنا 1: 1) يصدق عليهم قول المسيح لبطرس: «إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 16: 17). وقديماً قال رسول الأمم بولس «لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (1كورنثوس 12: 3).
ع. ت. - الزرقاء، الأردن
يصرح العهد القديم بإتيان شخص إلهي يلبس طبيعتنا البشرية ليخلّص العالم بالفداء، وأن ذلك الشخص يكون من نسل امرأة، من نسل إبراهيم ومن سبط يهوذا، ومن بيت داود، مولوداً من عذراء، وموصوفاً برجل أوجاع، وإنه يجعل نفسه ذبيحة لأجل الخطية، وأنه هو ملاك يهوه، ويهوه وإلوهيم (الله) والإله القدير، والذي يعمل كل أعمال الله، ويقبل عبادة الناس والملائكة نظير الله.
فيظهر مما تقدم وجود أقنومين متميّزين، لكل منهما صفات اللاهوت، وكلاهما يشاء ويعمل ويتكلم، وأحدهما أرسل الآخر. ولنا دليل قاطع أن ملاك العهد في العهد القديم (الذي سُمِّي أيضاً ملاك الرب) هو نفسه الذي تجسد عند ملء الزمان وتقدم أمامه يوحنا المعمدان لكي يعد الطريق أمامه، تحقيقاً للنبوة القائلة «صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي ٱلْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَيَصِيرُ ٱلْمُعَوَّجُ مُسْتَقِيماً وَٱلْعَرَاقِيبُ سَهْلاً. فَيُعْلَنُ مَجْدُ ٱلرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعاً، لأَنَّ فَمَ ٱلرَّبِّ تَكَلَّمَ » (إشعياء 40: 3-5).
وقال في ملاخي النبي «هَئَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ ٱلطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ ٱلسَّيِّدُ ٱلَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ، وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟ لأَنَّهُ مِثْلُ نَارِ ٱلْمُمَحِّصِ، وَمِثْلُ أَشْنَانِ ٱلْقَصَّارِ. فَيَجْلِسُ مُمَحِّصاً وَمُنَقِّياً لِلْفِضَّةِ. فَيُنَقِّي بَنِي لاَوِي وَيُصَفِّيهِمْ كَٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ، لِيَكُونُوا مُقَرِّبِينَ لِلرَّبِّ تَقْدِمَةً بِٱلْبِرِّ» (ملاخي 3: 1-3).
وإذا نظرنا إلى العهد الجديد رأينا أن الذي يُعد الطريق هو يوحنا المعمدان، وأن السيد الذي يأتي إلى هيكله هو المسيح. فنقرأ في متى 11: 10 «فَإِنَّ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ». ونقرأ أيضاً في مرقس 1: 1-3 «بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ: كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَنْبِيَاءِ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً» (اقرأ لوقا 1: 76، 7: 27).
وهناك آيات عديدة تتضمن ألقاباً للاّهوت مستعملة في العهد الجديد، على أنها تشير إلى المسيح:
«جَعَلْتُ ٱلرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ. لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ» (مزمور 16: 8). فبمقابلة هذه الآية مع أعمال 2: 25 نرى أن «الرب» هنا هو المسيح.
«أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي ٱلْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا» (إشعياء 40: 3). فبمقابلة هذه الآية مع متى 3: 3 نرى أن المسيح هو الرب.
«فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا ٱلْمَلِكِ رَأَيْتُ ٱلسَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ ٱلْهَيْكَلَ. ٱلسَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِٱثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِٱثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَٱثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ ٱلأَرْضِ» (إشعياء 6: 1-3). فبالمقابلة بين هذه الآيات ويوحنا 12: 41 يتضح أن القدوس الذي سبّحه الملاكان وقالا إنه رب الجنود هو المسيح.
«قَدِّسُوا رَبَّ ٱلْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ. وَيَكُونُ مَقْدِساً وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ لِبَيْتَيْ إِسْرَائِيلَ» (إشعياء 8: 13-14) قابلها مع رومية 9: 33، فيتحصل من ذلك أن المسيح هو رب الجنود.
«وَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، ٱلَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ» (زكريا 12: 10). قارن مع رؤيا 1: 7 ترى أن الذي طُعن بحسب آية العهد القديم هو يهوه (الرب). وبحسب آية العهد الجديد هو المسيح.
«أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا 5: 2). قابلها مع ما جاء في متى 2: 6 تجد أنها تتحدث عن المسيح وأنها تُثبت أن مخارجه هي منذ أيام الأزل.
«قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلَهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ. أَنَا أَنَا ٱلرَّبُّ وَلَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ» (إشعياء 43: 10 و11) قابلها مع أعمال 4: 12 تجد أن الرب المخلّص هو المسيح.
«أَمَا أَمْلأُ أَنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ يَقُولُ ٱلرَّبُّ؟» (إرميا 23: 24). المسيح رأس «فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ ٱلَّذِي يَمْلأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (أفسس 1: 22 و23) ففي الآية الأولى قيل إن الرب يملأ السموات والأرض. وفي الآية الثانية قيل إن المسيح يملأ الكل في الكل.
«يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ، مَنْ مِثْلُكَ قَوِيٌّ رَبٌّ، وَحَقُّكَ مِنْ حَوْلِكَ؟ أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ ٱلْبَحْرِ. عِنْدَ ٱرْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا» (مزمور 89: 8 و9) قابلها مع مرقس 4: 39 ترى في الآية الأولى إله الجنود متسلطاً على كبرياء البحر، وفي الآية الثانية نُسبت تلك القوة المتسلطة للمسيح.
«لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء 9: 6). قارنها بلوقا 2: 11 ويوحنا 8: 58 وأفسس 2: 14-17 تجد أن آية العهد القديم نبوة بالمسيح، وأن آيات العهد الجديد تشير إلى إتمام هذه النبوة. أي أن المسيح هو الولد الموعود به، وهو الرب وله رياسة، واسمه عجيب، ليس أحد يعرفه إلا هو، وهو القادر على كل شيء ورئيس السلام.
«كُرْسِيُّكَ يَا اَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ» (مزمور 45: 6). قابلها مع عبرانيين 1: 8 تجد في الآية الأولى أن آية المزمور قيلت في الله، وأن آية الرسالة قيلت في المسيح.
«مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى» (مزمور 102: 25 و26) قابلها مع عبرانيين 1: 10-12 فما قيل عن الله في الآية الأولى، قيل عن المسيح في الآيات الثانية.
قابل مزمور 31: 5 مع أعمال 7: 59 ففي الآية الأولى استودع روحه في يد الرب إله الحق وفي الآية الثانية استودع استفانوس روحه في يد المسيح.
قارن تكوين 17: 1 مع رؤيا 1: 8 ففي الآية الأولى قال الله عن نفسه: أنا الله القدير. وفي الثانية قال المسيح عن نفسه: أنا القادر على كل شيء.
قارن أمثال 3: 12 مع رؤيا 3: 19 ففي الآية الأولى قيل: الذي يحبه الرب يؤدبه. وفي الثانية قيل عن لسان المسيح إن كل من يحبه يوبخه ويؤدبه.
قارن إشعياء 40: 10 مع رؤيا 22: 12 قيل في الآية الأولى إن السيد الرب يأتي وأجرته معه. وقيل في الثانية إن المسيح يأتي سريعاً وأجرته معه ليجازي كل واحد حسب عمله.
قارن إشعياء 44: 6 مع رؤيا 22: 13 ففي الآية الأولى قيل إن الرب الملك رب الجنود، هو الأول والآخِر ولا إله غيره. وفي الثانية قيل عن لسان المسيح إنه الألف والياء، البداءة والنهاية.
قارن إرميا 10: 10 مع يوحنا الأولى 5: 20 ففي آية العهد القديم قيل إن الرب الإله حق وإله حي وملك أبدي. وفي آية العهد الجديد قيل عن المسيح إنه هو الإله الحق والحياة الأبدية.
كل هذه الآيات من العهد القديم وقريناتها في العهد الجديد، بما حوته من ألقاب وصفات إلهية منسوبة للمسيح تؤكد لاهوته، ولا يمكن نسبتها إليه لو كان مخلوقاً أو مجرد إنسان. وقد رأينا أن هذه الصفات والألقاب هي: الرب، والله، والله العلي، والملك رب الجنود، ورب الجنود، والذي مخارجه منذ الأزل، والذي يملأ الكل وفي الكل، والأول والآخر، والعجيب، والمشير، والإله القدير، والسيد، والإله الحق، والحياة الأبدية، والقادر على كل شيء، وملك الملوك ورب الأرباب، والقدوس الحق.
لا يجوز مطلقاً نسبة ما تقدم من ألقاب وصفات إلى إنسان، لأن ذلك تجديف فظيع. فقد قال الله لإشعياء النبي «أَنَا ٱلرَّبُّ هَذَا ٱسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَر» (إشعياء 42: 8). فلو لم يكن المسيح إلهاً لكان مجد الله قد أُعطي لغيره، وإن كتابه الموحى به غير صحيح. ولكن ما يراه المؤمن بالله من هذه الأدلة عكس ذلك، أي أن الرب يسوع المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد، وله كل ملء اللاهوت.
أيها الأخ الكريم، إن ما يتفهمه المرء جيداً يعبّر عنه بوضوح، ويستطيع أن يقوله بسهولة.
اقرأ هذا الكتاب بتأنٍ وتمعّن. لتختبر معلوماتك وتحدد موقفك بدقة تجاه هذا الموضوع المهم، اكتب اجابتك وافكارك عن الاسئلة التالية. نحن بانتظار اجوبتك.
من هو الله؟
هل معرفة الله ممكنة؟ وكيف؟
ما هو تأثير وجهة النظر التي يعتنقها الإنسان عن الله في تصرفات الإنسان؟
أورد المؤلف في إجابة السؤال الأول خمس صفات في الله. اذكرها.
ما هو الطريق العملي لفهم وقبول عقيدة الثالوث؟
ما معنى كلمة أقنوم؟
للمسيح طبيعتان - اذكرهما.
هل التجرية خطية؟
هل توصل علماء النفس للكشف التام عن طبيعة الشخصية البشرية؟ وماذا نتعلم من هذا؟
سأل رئيس الكهنة المسيح: «هل أنت المسيح ابن الله؟» . ماذا كانت إجابة المسيح؟
هات آيتين من العهد القديم عن الله، وهات نظيرتيهما في العهد الجديد عن المسيح، مما يبرهن أن المسيح هو الله.
لماذا لا يجوز أن نعزو صفات الله للإنسان؟
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the-good-way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland