دراسة تحليلية لأخطر قضية من قضايا الألوهية
Copyright © 2008 All rights reserved Good Way
Table of Contents
في بداية ظهور الشيوعية ظهر في إيطاليا زعيم شيوعي ملحد اسمه «تولياتي»... كان يجهر بإلحاده ويفتخر بإنكاره لوجود الله.
ذات يوم قرر «تولياتي» وجماعة من أصدقائه، أن يصعدوا إلى قمة جبل... واصل «تولياتي» الصعود حتى تعب وتصبب عرقه... وعندئذ جلس على صخرة في المكان الذي وصل إليه وهتف قائلاً: «يا الله ساعدني».
سمعه صديق يعرفه... ويعرف إنكاره لوجود لله... فسأله متعجباً: هل تؤمن بوجود الله يا «تولياتي»؟
وهنا نظر الزعيم الشيوعي إلى صديقه بابتسامة باهتة وقال: «أيها الأحمق... حين يصل الإنسان إلى لحظة يدرك فيها ضعفه وعجزه.. يحتاج إلى إله قوي يسنده».
الحاجة إلى الله أمر لا يمكن إنكاره.. كما قال أوغسطينوس: «يا الله أنت خلقتنا لذاتك ولا يمكن أن تستريح نفوسنا إلا فيك»...
وهذا كتاب عن «الله» تبارك اسمه، وجل جلاله وتعالت قدرته، وتسامت حكمته، وعظمت محبته.
والحديث عن الله ينبغي أن يكون بكل هيبة، وخشوع، وحرص... ذلك لأنه ليس في قدرة الإنسان أن يضع الله جل وعلا في مخبار مدرج ليعرف كميته.. أو أن يضعه في بوتقة اختبار ليعرف نوعيته، لأن الله تعالت قدرته لا يخضع للكم والكيف...
فهو «غير المحدود» الذي لا يمكن أن يحتويه عقل الإنسان «المحدود»...
وهو «القادر» الذي لا يستطيع الإنسان الضعيف إدراك عظمة قدرته...
وهو «الحكيم» الذي فاقت حكمته في عمقها وعلوها كل حكمة الإنسان.
وهو «المحب» الذي فاق حبه كل حب وغمر بحبه كل سكان الأرض.
لهذا كله يظهر عجز العقل الإنساني عن إدراك حقيقة الله.. ومن هنا يتحتم على الإنسان أن يقر بعجزه، وأن يطلب من الله بتواضع تام أن يأخذ بيده ويهديه إلى معرفته.
أدرك «موسى» النبي عجزه عن معرفة الله المعرفة الحقيقية... مع أنه سمع صوته تبارك اسمه... ولبى دعوته.. لذلك رفع إليه صلاته:
«ٱلآنَ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَعَلِّمْنِي طَرِيقَكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ» (خروج 33: 13).
فبدون هداية الله يظل الإنسان في تخبطه... ويصنع لنفسه آلهة بحسب تصوره.. ويضل ضلالاً بعيداً.
لهذا قال الله تبارك اسمه:
«لاَ يَفْتَخِرَنَّ ٱلْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ ٱلْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ ٱلْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. بَلْ بِهٰذَا لِيَفْتَخِرَنَّ ٱلْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي ٱلأَرْضِ، لأَنِّي بِهٰذِهِ أُسَرُّ يَقُولُ ٱلرَّبّ» (إرميا 9: 23 و24).
إن الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم، هو محاولة أمينة للتعريف بالله تبارك اسمه، كما أعلن ذاته في كلمته. وهو ثمرة دراسة طويلة متصلة للكتاب المقدس والقرآن استغرقت الأيام والليالي والشهور والسنين.
وصلاتي التي أرفعها إلى الله تبارك وتعالى من قلبي.. أن يستخدم الله بنعمته هذا الكتاب لإنارة الكثيرين لمعرفته. فقد قال سليمان الملك الحكيم بالوحي الإلهي: «بَدْءُ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ، وَمَعْرِفَةُ ٱلْقُدُّوسِ فَهْمٌ» (أمثال 9: 10).
سبرنجفيلد فيرجنينا 4 يونيو 1991
القس الدكتور لبيب ميخائيل
الله العلي المرتفع... الأزلي الأبدي... الذي وسع كرسيه السموات والأرض... ووسع كل شيء علماً... الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.. هو سر الأسرار.
وجوده الأزلي سر
ذاته العلية سر
صفاته الإلهية سر
قدرته اللانهائية سر
حكمته العالية سر
محبته الفائقة سر
وحين يريد الإنسان البشري أن يعرف بمجرد عقله.. وجود الله.. وذاته.. وقدرته.. وحكمته.. ومحبته.. يصاب بدوار.. فالعقل الإنساني يعجز تماماً عن فهم، واحتواء ذات الله.
تحدث أيوب، وهو نبي قديم عاش قبل موسى إلى أصدقائه «أليفاز التيماني» و «بلدد الشوحي» و «صوفر النعماتي».. فوصف الله بهذه الكلمات:
«هُوَ حَكِيمُ ٱلْقَلْبِ وَشَدِيدُ ٱلْقُوَّةِ. مَنْ تَصَلَّبَ عَلَيْهِ فَسَلِمَ؟ ٱلْمُزَحْزِحُ ٱلْجِبَالَ وَلاَ تَعْلَمُ. ٱلَّذِي يَقْلِبُهَا فِي غَضَبِهِ، ٱلْمُزَعْزِعُ ٱلأَرْضَ مِنْ مَقَرِّهَا فَتَتَزَلْزَلُ أَعْمِدَتُهَا، ٱلآمِرُ ٱلشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ وَيَخْتِمُ عَلَى ٱلنُّجُومِ. ٱلْبَاسِطُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ وَٱلْمَاشِي عَلَى أَعَالِي ٱلْبَحْرِ. صَانِعُ ٱلنَّعْشِ وَٱلْجَبَّارِ وَٱلثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ ٱلْجَنُوبِ. فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ» (أيوب 9: 4 - 10).
والنعش والجبار والثريا... كلها نجوم مصنوعة وموضوعة في الفلك بنظام عجيب.
وقال «صوفر النعماتي» في رده على أيوب:
«أَإِلَى عُمْقِ ٱللّٰهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ ٱلْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟» (أيوب 11: 7 و8).
وقال داود النبي في المزمور وهو يخاطب الله تبارك وتعالى:
«يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا. مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ. عَجِيبَةٌ هٰذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ٱرْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا. أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. فَقُلْتُ: إِنَّمَا ٱلظُّلْمَةُ تَغْشَانِي. فَٱللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! ٱلظُّلْمَةُ أَيْضاً لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَٱللَّيْلُ مِثْلَ ٱلنَّهَارِ يُضِيءُ. كَٱلظُّلْمَةِ هٰكَذَا ٱلنُّورُ» (مزمور 139: 1 - 12).
وقال بولس الرسول وهو يتحدث عن الله إلى رجال أثينا:
«ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هٰذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي، وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ، وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 17: 24 - 28).
هذا الكائن الأزلي الأبدي.. الموجود في كل مكان.. العارف بكل شيء.. القادر على كل شيء.. هو سر الأسرار، وعلة ذلك أن:
«اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يوحنا 1: 18).
وأنه جل جلاله يسكن في نور لا يُدنى منه.
«مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ، ٱلَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ ٱلْمَوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، ٱلَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، ٱلَّذِي لَهُ ٱلْكَرَامَةُ وَٱلْقُدْرَةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. آمِينَ» (1 تيموثاوس 6: 15 و16).
توسل إليه موسى النبي قائلاً «أَرِنِي مَجْدَكَ» (خروج 33: 18).. أي أرني وجهك.. فأجابه الله تبارك وتعالى قائلاً:
«لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خروج 33: 20).
كيف يمكن معرفة ذاك الذي لم يره أحد قط؟
ذاك الساكن في نور لا يُدنى منه؟
الله القدير.. الخالق.. الأزلي.. الأبدي.. الجبار.. هو سر الأسرار.. لأنه فوق متناول عقولنا.. ولا يمكن أن تراه عيوننا.
ولهذا عجز الإنسان البشري عن معرفته وإدراكه... لقد وصل الإنسان إلى مستوى رفيع من المعرفة، والفلسفة، والحكمة الإنسانية.. وغطت معرفته كل فروع العلم وما يقع عليه حسه وبصره في الحياة..
ومع هذا كله لم يصل الإنسان بحكمته إلى معرفة الله..
عجز الإنسان عن معرفة الله بحكمته البشرية.
«لأَنَّ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 3: 19).
قدماء المصريين كانوا حكماء. بنوا الأهرامات بحكمتهم. حنّطوا بعلمهم جثث موتاهم فبقيت تتحدى عناصر الفناء آلاف السنين. أنشأوا حضارة ما زالت آثارها تحكي قصة عظمة فنّهم وعلمهم وتقدمهم. ومع كل هذه الحكمة الإنسانية.. ضلّت عقولهم عن معرفة الله الحي الحقيقي، فعبدوا العجل أبيس، وصنعوا لأنفسهم آلهة بحسب تصورات عقولهم... وتعددت أصنامهم.
واليونانيون القدماء بلغوا في الفلسفة شأواً بعيداً. فظهر فيهم:
سقراط أستاذ الحوار وأفلاطون مؤسس المنطق وأرسطو الذي جمع في شخصيته الصفتين. ومع كل حكمتهم، وفلسفتهم، عاشوا يعبدون آلهة من صنع أيديهم. فعبدوا مارس إله الحرب وأفروديت إلهة الحب وفينوس إلهة الجمال وباخوس إله الخمر... وزفس، وهرمس وأرطاميس... وسجلوا حروب آلهتهم في ملحمتي الإلياذة والأوديسة..
وفي عصرنا الحاضر وصل الإنسان إلى القمر.. واخترق بأشعته ظلمة الليل.. وطوَّع لنفسه الماء والهواء فطار بطائراته، وغاص في أعماق المحيطات بغواصاته.. ومع ذلك تردى إلى الحضيض في اعتقاداته وأخلاقياته..
لم يستطع الإنسان أن يصل بقدراته العقلية إلى معرفة حقيقة الذات الإلهية...
وكيف يمكن للمحدود أن يحتوي غير المحدود؟
كيف يمكن احتواء مياه المحيط في كوب؟
كيف يستطيع الناقص أن يحتوي الذي لا حدّ لكماله؟
وكيف يمكن للعاجز أن يتصور قدرة القادر على كل شيء؟
لا طريق إلى معرفة الله.. سوى إعلان يأتي من الله تبارك وتعالى.
عرف الإنسان خالقه يوم خلقه.. كانت بينه وبين إلهه مودة.. كان الله يتحدث إلى آدم وحواء في جنة عدن أحاديث الصفاء والهناء..
وسقط الإنسان
أسقطه الشيطان... علمه العصيان.
أغوى حواء أن تأكل من الشجرة المحرمة، فأكلت وأعطت آدم فأكل..
وظهر عري الإنسان..
وأقامت معصيته حجاباً كثيفاً بينه وبين خالقه، كما قال إشعياء النبي:
«هَا إِنَّ يَدَ ٱلرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ. بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ» (إشعياء 59: 1 و2).
خرج الإنسان من جنة عدن.. طُرد منها لأنه لم يعد يستحق البقاء فيها.. لكنه حتى بعد طرده من الجنة ظل يتطلع إلى الله في آلامه، وضيقاته وخطاياه..
والسجل المقدس الموحى به من الله يؤكد لنا أن الله لم يترك نفسه بلا شاهد في عصر من العصور.. لكنه يعلن أيضاً أن غالبية البشر ضلوا طريقهم إلى الله.. وقد سجل بولس الرسول صورة لضلال الإنسان في كلماته:
«لأَنَّ غَضَبَ ٱللّٰهِ مُعْلَنٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ ٱلنَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَحْجِزُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلإِثْمِ. إِذْ مَعْرِفَةُ ٱللّٰهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ ٱللّٰهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ، لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ ٱلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِٱلْمَصْنُوعَاتِ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَفْنَى، وَٱلطُّيُورِ، وَٱلدَّوَابِّ، وَٱلّزَحَّافَاتِ» (رومية 1: 18 - 23).
أظهر الله حقيقة وجوده للإنسان منذ خلق العالم.
ظهرت قدرته واضحة في خلق العالم.
في النظام الفلكي البديع:
«اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19: 1).
وظهرت عظمته في خلق الإنسان.
فمع أنه خلق الإنسان من تراب.. إلاّ أنه صنع من هذا التراب العجب العجاب..
كل خلية في الإنسان تنطق ببديع صنعه.
القلب وتركيبه العجيب ونبضاته.. مضخة الدم إلى خلايا جسم الإنسان.. هذه المضخة التي تعمل بلا انقطاع حتى نهاية العمر.
العين بدقتها الرائعة، وقدرتها على احتواء مناظر تبعد عنها بعداً طويلاً.. أدق من أية آلة تصوير صنعها الإنسان.
العقل وما يحويه من قدرات وإمكانيات.. للوصول إلى النتائج من المقدمات.
النفس وما تحويه من العواطف والحب والكراهية.. الفرح والحزن.. الرحمة والقسوة.. الإحساس بالسعادة والإحساس بالشقاء.. الحنان والغضب والكثير من الانفعالات.
حار الأطباء وسط أعضاء جسد الإنسان العجيب.. فجعلوا لكل طبيب تخصصاً في عضو منه.. طبيب للقلب، وطبيب للصدر، وطبيب للعينين، وطبيب للأذنين.. لأن واحداً لا يستطيع استيعاب كل ما يحدث في ذلك الجسد البديع الصنع.
بحق قال داود:
«أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَباً» (مزمور 139: 14).
وفي ترجمة أخرى «أحمدك من أجل أني خليقة عجيبة ومدهشة».
الخليقة.. سواء كانت خليقة الكون أو خليقة الإنسان.. لم يتأملها الإنسان.. وسار وراء ظلمة عقله الغبي، وصنع لنفسه آلهة أعلنت عن مدى غبائه، وجهله، وشر قلبه.
اتسعت الهوة التي فصلت الإنسان عن إلهه.
حكمة الإنسان عجزت عن أن تقوده لمعرفة الله..
من هنا ظهرت ضرورة الوحي الإلهي.. أو بعبارة أخرى ضرورة إعلان الله جلت قدرته عن ذاته وعن صفاته بكلمة موحى بها منه تحدث بها تبارك اسمه لأنبيائه.. إذ لا سبيل لمعرفة الله الحي الحقيقي إلا بالوحي الإلهي.
ظهر في ألمانيا فيما بين سنة 1743 - 1819 فيلسوف عظيم اسمه «جاكوبي» وكانت كتاباته رداً على فلسفة «اسبينوزا» الذي نادى بأن العقل وحده هو باب المعرفة.
قال «جاكوبي»: «إن العقل غير المُعان بالوحي الإلهي سيقود الإنسان حتماً إلى الإلحاد.. ذلك لأن العقل بطبيعته الخاصة لا يستطيع أن يعالج سوى الأشياء ذات الحدود، وأجزاء الأشياء، لأنه هو نفسه محدود.. وهو في معالجته للأشياء ذات الحدود، وأجزاء الأشياء، يضع هذه الأجزاء معاً ليكشف ما بينها من روابط، ولكنه يعجز عن الحصول على مادة الحقيقة الخام، لا سيما الحقيقة التي تشمل الأشياء جميعاً مضموماً بعضها إلى بعض في وحدة كاملة متكاملة».
ويستطرد «جاكوبي» قائلاً: «إن الله الذي مكن إثبات وجوده، وحقيقة ذاته، وكمال صفاته بمنطق الله عن طريق العقل تتضمن سيطرة العقل.. والخالق الأعظم لا يمكن أن يسيطر عليه أو يحتويه عقل.. إن حقيقة الله ليس سبيل معرفتها التفكير المنطقي.. وربط النتائج بالمقدمات.. لكن الله تسامت حكمته تنازل فأعلن عن ذاته العلية بالوحي الذي أعطاه لأنبيائه وسجله في كتابه الكريم».
من هنا كان المصدر الوحيد، الموثوق به، لمعرفة الله الحي الحقيقي.. هو كلمته الصادقة التي أوحاها لأنبيائه، وبعيداً عن هذه الكلمة الصادقة يتصور كل إنسان «الله» كما يحلو لتصوراته وتخيلاته.. وبهذا يضل ضلالاً بعيداً، ويعبد الحيوان، والشجر، والحجر، وأرواح الموتى من البشر.
يشهد المسلمون بأن لا إله إلا الله.. فهل يشهد المسيحيون بأن لا إله إلا الله، أو يؤمنون بثلاثة آلهة ويشركون بالله.
معرفة المسيحيين بالله مصدرها إعلان الله عن ذاته في كلمته، وإعلان الله عن ذاته نجده صريحاً وواضحاً في التوراة والإنجيل، أو بعبارة أخرى في الكتاب الموحى به من الله والذي يسميه المسيحيون الكتاب المقدس.
ولا عبرة بما يقوله المسلمون بأن الكتاب المقدس، قد عبثت به أيدي المحرفين من اليهود والمسيحيين.
فكل ادعاء بحدوث تحريف في التوراة والإنجيل هو تكذيب للقرآن.. فالقرآن يؤكد بنصوصه وحي التوراة والإنجيل ففي سورة المائدة نقرأ الكلمات:
«وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بَٱلْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنْزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ» (سورة المائدة 5: 43 و44).
يقرر هذا النص القرآني الحقائق التالية:
إنه لا حاجة لتحكيم محمد لأن التوراة فيها حكم الله وهي تغني تماماً عن حكم محمد. «وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله»؟
إن التوراة أنزلها الله تبارك اسمه فيها هدى ونور وهذا يؤكده النص القرآني «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور».
إن الربانيين والأحبار من اليهود «استحفظوا» أي أمروا بحفظ التوراة.. وهذا يتفق مع ما قاله بولس الرسول في كلماته: «إِذاً مَا هُوَ فَضْلُ ٱلْيَهُودِيِّ، أَوْ مَا هُوَ نَفْعُ ٱلْخِتَانِ؟ كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ! أَمَّا أَّوَلاً فَلأَنَّهُمُ ٱسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 1 و2)... وهذا يعني أنهم «استحفظوا على أقوال الله».. أي على كتاب العهد القديم.
لقد استأمن الله تسامت حكمته أنبياء اليهود وأحبارهم لحفظ أقواله.. وهل يعقل أن يستأمن الله أناساً يحرفون كلمته، وهو العليم الخبير؟!
إن من لم يحكم بما أنزل الله في التوراة فأولئك هم الكافرون.
وجاء في نفس السورة النص القرآني التالي:
«وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة 5: 46 و47).
وفي هذا النص القرآني نجد الحقائق التالية:
1 - إن المسيح يسوع، الذي يسميه القرآن عيسى ابن مريم، جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة...
وهذا ما فعله المسيح إذ قال وهو الصادق الأمين:
«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ» (متى 5: 17 و18).
وعندما التقى بعد قيامته بتلميذين كانا يسيران في الطريق إلى قرية عمواس قال لهما:
«أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهٰذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟ ثُمَّ ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا ٱلأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ ٱلْكُتُبِ» (لوقا 24: 25 - 27).
ثم بعد ذلك إذ التقى بتلاميذه بعد قيامته قال لهم:
«هٰذَا هُوَ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ، أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِيرِ. حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا ٱلْكُتُبَ» (لوقا 24: 44 و45).
صدّق المسيح لما بين يديه من التوراة وجميع أسفار العهد القديم.
جاء المسيح بالإنجيل، وهو يعني البشارة المفرحة للهالكين.. بشارة موته على الصليب لفداء الآثمين.
طالب القرآن المسيحيين، أهل الإنجيل، بأن يحكموا بما أنزل الله فيه.. فهم إذاً في غير حاجة إلى القرآن.
أقر القرآن بأن الإنجيل، وهو الذي كان يطلق على العهد الجديد بجواز إطلاق الجزء على الكل.. مُنزل من عند الله. «وآتيناه الإنجيل»..
أعلن القرآن أن من لم يحكم بما أنزل الله في الإنجيل فأولئك هم الفاسقون أي الخارجون على الدّين.
وزاد القرآن على ذلك فقال:
«قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ» (سورة المائدة 5: 68).
وهذا يعني أن أهل الكتاب لن يكونوا على دين صحيح حتى يعملوا بالتوراة والإنجيل.
ثم قال القرآن أيضاً:
«يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً» (سورة البقرة 2: 40 و41).
والقرآن في هذا النص يطالب بني إسرائيل بالإيمان بما أنزل الله مصدقاً لما معهم.. كان معهم في ذلك الوقت كل أسفار العهد القديم.. وهي بذاتها الموجودة حتى الآن.. وكان عليهم أن يؤمنوا فقط بما يطابق ما جاء في هذه الأسفار. «مصدقاً لما معكم». فهل يقبل المسلمون أن يقول القرآن لبني إسرائيل إنه يصادق على الكتاب الذي معهم - كتاب العهد القديم - إذا كان كتاباً محرّفاً أو عرضة للتّحريف؟ أوَلا يعني هذا الاعتراف بجهل القرآن بتحريف العهد القديم إذا صح ادعاء علماء المسلمين بحدوث هذا التحريف؟
إن أي ادعاء بحدوث تحريف في الكتاب المقدس هو استهانة كبرى بالله تبارك اسمه.. لأن مثل هذا الادعاء ينسب إليه تبارك وتعالى الجهل.. والعجز.. والتغير، وهو العليم الخبير.
ينسب إليه الجهل بالمستقبل، إذ أنه لم يعرف مسبقاً أن اليهود والمسيحيين سيحرفون التوراة والإنجيل.
وينسب إليه العجز عن حفظ التوراة والإنجيل، - وهما بنصوص القرآن - منزّلان منه.. هما كلامه الموحى به منه.
وينسب إليه التغيّر.. إذ سمح لليهود والمسيحيين بالعبث في كلمته الموحى بها، لكنه قرر بعد ذلك حفظ القرآن من أي عبث كما جاء في سورة الحجر:
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (سورة الحجر 15: 9).
تعالى الله عن الجهل، والعجز، والتغير علواً كبيراً..
ولذا يتحتم علينا بغير جدال، وبغير قيد أو شرط أن نؤمن بوحي الكتاب المقدس كله وبأنه حُفظ حفظاً إلهياً من كل عبث أو تحريف.. كما قال كاتب المزمور بالوحي الإلهي:
«إِلَى ٱلأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (مزمور 119: 89).
وكما قال بولس الرسول: «كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ ٱللّٰهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2 تيموثاوس 3: 16 و17) (اقرأ أيضاً 2 بطرس 1: 19 - 21).
وعلينا أن نذكر هنا أن هناك مخطوطات قديمة للعهد القديم ما زالت موجودة حتى الآن، وقد وجدت في وادي قمران قرب البحر الميت ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد.. كما أن لدينا مخطوطات أخرى لكل الكتاب المقدس تعود إلى سنة 350 بعد الميلاد محفوظة في المتحف البريطاني، وفي فرنسا، وفي مكتبة الفاتيكان وفي ليننجراد في روسيا. هذه كلها وجدت قبل القرآن وكانت مع اليهود والمسيحيين في عصر محمد. وهي تطابق تماماً الكتاب المقدس الذي لدى اليهود والمسيحيين حتى اليوم.. وهي التي صادق القرآن على صدقها.
إذا أرسينا هذا الأساس المتين، أساس وحي الكتاب المقدس الذي لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه.. نتقدم لنسأل: ماذا قال الكتاب المقدس عن الله؟
ونجيب أن الكتاب المقدس يقرر بما لا يدع مجالاً للجدل أو الشك حقيقة «وحدانية الله» .. بل ويحرم تحريماً باتاً قاطعاً أن نشرك مع الله أحداً.
1 - فأول وصية من الوصايا العشر التي أعطاها الله لبني أسرائيل على يد موسى، ونطق بها بصوته الإلهي نجدها في الكلمات:
ثُمَّ تَكَلَّمَ ٱللّٰهُ بِجَمِيعِ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَاتِ: أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ ٱلَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ ٱلْعُبُودِيَّةِ. لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي ٱلْمَاءِ مِنْ تَحْتِ ٱلأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ» (خروج 20: 1 - 5).
2 - ثم تكلم موسى النبي لبني إسرائيل بالوحي الإلهي فقال:
«إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُّوَتِكَ» (تثنية 6: 4 و5).
3 - ويقول إشعياء النبي:
«هَكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ، رَبُّ ٱلْجُنُودِ: أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي» (إشعياء 44: 6).
«أَلَيْسَ أَنَا ٱلرَّبُّ وَلاَ إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ. اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لأَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ وَلَيْسَ آخَر» (إشعياء 45: 21 و22).
«فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ ٱللّٰهَ، وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟... ٱلْجَالِسُ عَلَى كُرَةِ ٱلأَرْضِ... فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ ٱلْقُدُّوسُ» (إشعياء 40: 18 و22 و25).
4 - ويقول عنه داود النبي في المزمور:
«لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ ٱلآلِهَةِ يَا رَبُّ وَلاَ مِثْلَ أَعْمَالِكَ. كُلُّ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُونَ ٱسْمَكَ. لأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ. أَنْتَ ٱللّٰهُ وَحْدَكَ» (مزمور 86: 8 - 10).
5 - وفي سفر التثنية يقول موسى النبي لبني إسرائيل مؤكداً لهم وحدانية الله:
«فَٱسْأَلْ عَنِ ٱلأَيَّامِ ٱلأُولَى ٱلَّتِي كَانَتْ قَبْلَكَ، مِنَ ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱللّٰهُ فِيهِ ٱلإِنْسَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَمِنْ أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاءِ إِلَى أَقْصَائِهَا. هَلْ جَرَى مِثْلُ هٰذَا ٱلأَمْرِ ٱلْعَظِيمِ، أَوْ هَلْ سُمِعَ نَظِيرُهُ؟ هَلْ سَمِعَ شَعْبٌ صَوْتَ ٱللّٰهِ يَتَكَلَّمُ مِنْ وَسَطِ ٱلنَّارِ كَمَا سَمِعْتَ أَنْتَ وَعَاشَ؟ أَوْ هَلْ شَرَعَ ٱللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ شَعْباً مِنْ وَسَطِ شَعْبٍ، بِتَجَارِبَ وَآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَحَرْبٍ وَيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ رَفِيعَةٍ وَمَخَاوِفَ عَظِيمَةٍ مِثْلَ كُلِّ مَا فَعَلَ لَكُمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ فِي مِصْرَ أَمَامَ أَعْيُنِكُمْ؟ إِنَّكَ قَدْ أُرِيتَ لِتَعْلَمَ أَنَّ ٱلرَّبَّ هُوَ ٱلإِلٰهُ. لَيْسَ آخَرَ سِوَاهُ... فَٱعْلَمِ ٱلْيَوْمَ وَرَدِّدْ فِي قَلْبِكَ أَنَّ ٱلرَّبَّ هُوَ ٱلإِلٰهُ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَعَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ. لَيْسَ سِوَاهُ» (تثنية 4: 32 - 35 و39).
6 - ونعود إلى سفر إشعياء فنقرأ الآيات:
«أَنَا ٱلرَّبُّ هَذَا ٱسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ، وَلاَ تَسْبِيحِي لِلْمَنْحُوتَاتِ» (إشعياء 42: 8).
«أَنَا ٱلرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلَهَ سِوَايَ...» (إشعياء 45: 5).
«لِيَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ ٱلشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا ٱلرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ» (إشعياء 45: 6).
«اُذْكُرُوا ٱلأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ لأَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ وَلَيْسَ آخَرُ. ٱلإِلَهُ وَلَيْسَ مِثْلِي» (إشعياء 46: 9).
«اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ. وَإِسْرَائِيلُ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُ. أَنَا هُوَ. أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ» (إشعياء 48: 12).
7 - وفي كتاب العهد الجديد الذي يسميه القرآن «الإنجيل» نقرأ الآيات البينات عن وحدانية الله.
«لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متّى 4: 10).
8 - ولما جاء واحد من كتبة اليهود وسأل المسيح:
«أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ ٱلْكُلِّ؟ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ ٱلْوَصَايَا هِيَ: ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (مرقس 12: 28 و29).
9 - وفي صلاة المسيح الشفاعية قال:
«وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا 17: 3).
10 - ويقول بولس الرسول:
«نَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَثَنٌ فِي ٱلْعَالَمِ، وَأَنْ لَيْسَ إِلٰهٌ آخَرُ إِلاَّ وَاحِداً» (1 كورنثوس 8: 4).
11 - وقد قال المسيح للمرأة السامرية:
«اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 4: 24).
12 - وقال يعقوب في رسالته:
«أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ» (يعقوب 2: 19).
كل هذه الآيات التي تضيء بلمعانها صفحات الكتاب المقدس، وغيرها كثير.. تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن اليهود، وكتابهم هو كتاب العهد القديم.. والمسيحيين وكتابهم هو الكتاب المقدس الذي يشمل كتاب العهد القديم وكتاب العهد الجديد.. يؤمنون بوحدانية الله. لكنهم يؤمنون بوحدانية حقيقية هي «وحدانية الله الجامعة».
لم يأت محمد بجديد حين دعا اليهود والمسيحيين في شبه الجزيرة العربية إلى التوحيد.. فقد آمنوا قبله بالإله الواحد.. واعترف محمد بصحة إيمانهم في القرآن فقال:
«وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِٱلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (سورة العنكبوت 29: 46).
والقرآن يقرر أن «إله» أهل الكتاب وهم اليهود والمسيحيون، هو ذاته «إله المسلمين».. فكيف يوجه القرآن مع إقراره الصريح بأن إله اليهود والمسيحيين هو ذاته إله المسلمين، تهمة الكفر إلى اليهود والمسيحيين إذ يطلق عليهم في كثير من نصوصه صفة المشركين؟
يبدو ظاهراً لقارئ القرآن أن صراعاً شديداً قام بين محمد واليهود والمسيحيين في الجزيرة العربية حول قضية التوحيد.. صراعاً بدأ بالجدال بالتي هي أحسن.. ثم انتهى بالقتال الدموي حتى انقرضت اليهودية والمسيحيّة من شبه الجزيرة العربية.
لماذا حدث هذا الصراع الرهيب الذي نرى آثاره في الكثير من نصوص القرآن حول قضية وحدانية الله.. بعد أن أقر محمد تفضيل الله لليهود على شعوب العالمين.. وبعد أن أقر بأن المسيحيين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. وبعد أن أقر أن إله اليهود والمسيحيين هو ذاته إله المسلمين؟
قال القرآن عن اليهود:
«يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُوا نِعْمَتِي ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ» (سورة البقرة 2: 47).
وقال عن المسيحيين:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا (وهم المسلمون) وَٱلَّذِينَ هَادُوا (اليهود) وَٱلصَّابِئُونَ (عبدة الكواكب والملائكة) وَٱلنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» (سورة المائدة 5: 69).
بعد هذا الإقرار الصريح بخصوص اليهود والمسيحيين.. يتهم القرآن اليهود بالشرك ويوجه التهمة للمسيحيين فيقول:
«وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ (يشابهون في الكفر) قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (كيف يُصرفون عن الحق؟)» (سورة التوبة 9: 30).
هذا الصراع الرهيب حول قضية وحدانية الله حدث بسبب وجود بدع وهرطقات مسيحيّة انتشرت في الجزيرة العربية في زمن محمد، مثل بدعة الأبيونيين الذين كان من بينهم القس ورقة بن نوفل ابن عم خديجة زوجة محمد الأولى، الذي طالما قضى الوقت الطويل مع محمد في غار حراء، ولقنه الكثير من قصص الكتاب المقدس وتعاليم الأبيونيين.. ومثل بدعة الغناطسة، وهرطقة آريوس، وهرطقة ثيرنثوس.. وقد تركت هذه البدع آثارها على النصوص القرآنية.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان هناك مسيحيون حقيقيون يعرفون الكتاب المقدس معرفة صحيحة، آمنوا بوحدانية الله الجامعة، والإيمان بوحدانية الله الجامعة يتطلب الفهم الصحيح لأربع حقائق أساسية هي:
أولاً: حقيقة قداسة الذات الإلهية.. وبغض الله التام للمعصية والخطية.
ثانياً: حقيقة الكمال المطلق للصفات الربانية.
ثالثاً: حقيقة فساد الطبيعة الإنسانية.
رابعاً: حقيقة تجسد الله في المسيح لفداء البشرية.
وفي الفصول الأربعة القادمة سوف نتحدث بالتفصيل عن كل هذه الحقائق التي غابت عن محمد، فلم يستطع الوصول إلى معرفة الوحدانية الصحيحة.. وحدانية الله الجامعة.
في هذا الفصل سنتناول بالبحث حقيقة غابت عن «محمد» وهي حقيقة قداسة الذات الإلهية، وهي تعني انفصال الله المطلق عن الشرور.. ولأن حقيقة قداسة الله غابت عن «محمد» نسبت نصوص القرآن لله تبارك وتعالى صفات وأعمالاً لا تتفق أبداً مع قداسته المطلقة.
ذكر القرآن أن الله يأمر بالفسق:
«وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» (سورة الإسراء 17: 16).
وذكر القرآن أن الله يمكر، وأنه خير الماكرين:
«وَمَكَرُوا وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ» (سورة آل عمران 3: 54).
وذكر القرآن أن الله يخدع:
«إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ..» (سورة النساء 4: 142).
والأمر بالفسق، والمكر، والخداع صفات يتنزه الله عنها.. لأنه الإله القدوس الذي قال عنه حبقوق النبي:
«عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا ٱلشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ ٱلنَّظَرَ إِلَى ٱلْجَوْرِ...» (حبقوق 1: 13).
وقال عنه يعقوب في رسالته:
«لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِٱلشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً» (يعقوب 1: 13).
إن قداسة الله المطلقة تنزهه تبارك اسمه عن الخطأ والشر، وترينا في ذات الوقت أنه وحده العارف بمعنى وحقيقة الخطية، فلا أحد يعرف مدى فظاعة وبشاعة وسواد الخطية إلا الله الكلي القداسة.
القرآن لا يذكر الله مرتبطاً باسم «القدوس» إلا في سورتين:
«هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (سورة الحشر 59: 23).
«يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ» (سورة الجمعة 62: 1).
وقداسة الله تبارك وتعالى تنزهه تماماً عن النقائص، فهو جل جلاله كامل في ذاته وفي صفاته.. منزه تماماً عما يوجب نقصاناً.. لا شبيه له في كماله.
ولأن الله «قدوس» منزه عن كل نقص.. فهو وحده الذي يعرف حقيقة الخطية.. يعرف بشاعتها.. وقذارتها.. وفظاعتها.. وشناعتها.
يعرف أنها تَعدٍّ سافرٍ على وصاياه.. يعرف أنها استهانة وقحة بشخصه.. يعرف أنها تمرد علني ضد إرادته المعلنة في كلمته.. يعرف أنها الكفر الأحمق عن ذات الله.. وأنها فعل ما يدل على عدم الثقة به.. وأنها الامتناع عن عمل الحسن الذي يجب أن نعمله.. يعرف مدى تدميرها وتخريبها لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
الإنسان فقد التقدير الصحيح لحقيقة الخطية بعد أن تردى فيها، وأصبحت تسري في كيانه وتؤثر في أحكامه.. الله وحده تبارك اسمه هو الذي يعرف حقيقة الخطية والذنب والمعصية.. ولذا فهو وحده القادر على التكفير عنها ولا سواه.
وهناك ارتباط تام بين الإيمان بوحدانية الله الجامعة، وقدرته وحده على التكفير عن سيئات المذنبين.
والقرآن يقرر بنصوص صريحة أن الله وحده هو الذي يكفر عن سيئات المؤمنين.. لكنه لا يذكر كيف تمت أو تتم هذه الكفارة.. إن كل ما فعله القرآن أنه طالب المسلم بأن يؤمن بالله ويعمل صالحاً ثم قرر بعد ذلك أن الله يكفر عنه سيئاته.
وكلمة «يكفّر» معناها يزيل ويمحو.. ومعناها كذلك يغطي ويستر.. كما قال شاعر عربي:
في ليلة كفر الغمام نجومها
أي في ليلة حجب الغمام، وستر، وغطى نجومها.
يقرر القرآن أن الله وحده هو الذي يكفر عن سيئات المؤمنين فيقول:
«وَمَنْ يُؤْمِنْ بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ» (سورة التغابن 64: 9).
«رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ» (سورة آل عمران 3: 193).
«لِيُكَفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ» (سورة الزمر 39: 35).
النصوص القرآنية تقرر أن الله وحده هو الذي يكفر عن سيئات المؤمنين.
ويخطئ خطئاً جسيماً من يعتقد بأن أعماله الصالحة هي وسيلة الكفارة عن سيئاته.. لأنه لو كانت الكفارة بالأعمال الصالحة لما اختص القرآن الله وحده بالتكفير عن سيئات المؤمنين، بل لنسب عمل الكفارة لأعمال المؤمنين.
لكن أعمال المؤمنين الصالحة تعجز تماماً عن التكفير عن سيئاتهم، ومحمد نفسه أقر بأن أعماله الصالحة لن تنجيه من نار جهنم.
جاء في كتاب «العقيدة الإسلامية» للشيخ «حافظ بن أحمد حكمي» ما يلي:
سؤال: «هل يدخل الجنة أو ينجو من النار أحد بعمله؟»
جواب: «قال محمد رسول الله.. قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله».
قالوا: «يا رسول الله ولا أنت»؟
قال: «ولا أنا إلا إن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (العقيدة الإسلامية صفحة 75).
الأعمال الصالحة تعجز عن التكفير عن سيئات المؤمن المسلم.. ولا تنجيه من نار جهنم.. ولا تدخله الجنة.
الطريق الوحيد للنجاة من نار جهنم هو كفارة يقوم بها الله القدوس ذاته..
كانت الكفارة تعليماً واضحاً من تعاليم اليهود.. وكان يوم الكفارة يوماً عظيماً مقدساً.. وما زال.
«َقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: أَمَّا ٱلْعَاشِرُ مِنْ هٰذَا ٱلشَّهْرِ ٱلسَّابِعِ فَهُوَ يَوْمُ ٱلْكَفَّارَةِ. مَحْفَلاً مُقَدَّساً يَكُونُ لَكُمْ. تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ وَتُقَرِّبُونَ وَقُوداً لِلرَّبِّ (ذبائح ومحرقات)» (لاويين 23: 26 و27).
في ذلك اليوم العظيم كان رئيس كهنة اليهود يدخل إلى قدس الأقداس في الهيكل اليهودي.. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن ذلك.
«وَأَمَّا إِلَى ٱلثَّانِي (أي قدس الأقداس) فَرَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ فَقَطْ مَرَّةً فِي ٱلسَّنَةِ، لَيْسَ بِلاَ دَمٍ يُقَدِّمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جَهَالاَتِ ٱلشَّعْبِ» (عبرانيين 9: 7).
كانت الكفارة بدم الذبائح الحيوانية.. وكانت هذه الذبائح مجرد رمز للذبيح الأعظم يسوع المسيح كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين:
«وَأَمَّا ٱلْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ، فَبِٱلْمَسْكَنِ ٱلأَعْظَمِ وَٱلأَكْمَلِ، غَيْرِ ٱلْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ ٱلَّذِي لَيْسَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى ٱلأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً» (عبرانيين 9: 11 و12).
لم يكن في قدرة دم الذبائح الحيوانية أن يكفر عن السيئات.
«لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا» (عبرانيين 10: 4).
كان الدم الذي يقدمه رئيس كهنة اليهود، مجرد رمز لتعليم الناس أنه «وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين 9: 22) ولإعدادهم لمجيء الفادي المرسل من الله، وكان لا بد أن يكون هذا الفادي هو الله.. لأن الله وحده هو القادر على التكفير عن سيئات المذنبين ولا سواه.
لهذا أشار يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا) إلى المسيح وقال:
«هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29).
كانت الحملان التي يقدمها كهنة اليهود على المذبح، حملانهم.. أما المسيح فكان «حمل الله» .. الحمل المرسل منه للتكفير عن خطايا الناس.. وكان هو «الذبح العظيم». ولذا قال يوحنا الرسول عنه:
«إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (1 يوحنا 2: 1 و2).
والإيمان بأن الله وحده هو القادر على التكفير عن السيئات والمعاصي والذنوب، يتطلب الإيمان بوحدانية الله الجامعة.. فالكفارة الإلهية، ووحدانية الله الجامعة صنوان لا يفترقان.
ذكرنا في الفصل السابق حقيقة جوهرية غابت عن «محمد» هي حقيقة القداسة المطلقة للذات الإلهية.. وهنا نجد لزاماً علينا أن نتحدث عن حقيقة أخرى هي حقيقة كمال الصفات الربانية.
ومعنى كمال الصفات الربانية، أن الله كامل في ذاته وصفاته.. فهو جل جلاله.. الرحمن الرحيم.. هو العدل القدوس.. هو الغفار الحسيب.
ولا يمكن أن تزيد أو تنقص صفة من صفاته عن الأخرى. فكما أن الله تبارك اسمه هو الرحيم.. هو كذلك العدل. وكما أنه الغفار فهو أيضاً الحسيب.. وصفاته كلها متساوية لا زيادة فيها ولا نقصان.
ولأن الله كامل في ذاته وصفاته لذلك تتصف كل أعماله بالكمال، لذا يهتف له من سيذهبون إلى السماء قائلين:
«عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. عَادِلَةٌ وَحَقٌّ هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ ٱلْقِدِّيسِينَ. مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ ٱسْمَكَ، لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ» (رؤيا يوحنا 15: 3 و4).
وهنا نقرر بكل هيبة وإجلال وخشوع أن هناك أموراً لا يقدر الله - وهو القادر على كل شيء - أن يفعلها، لأنها تتعارض مع كمال ذاته وصفاته.
فالله جل اسمه لا يقدر أن يكذب.. لأنه «الحق».
وهو غير مُجرَّب بالشرور.. لأنه «القدوس».
وهو لا يخلف وعده لأنه «الأمين الصادق».
وهو لا يقدر تعالت قدرته أن يغفر خطية الخاطئ وسيئاته بغير حساب لأنه «العدل» ولأنه «الحسيب».
وأي تصور لله العادل الحسيب، بأنه يغفر لمن يشاء بغير حساب هو إعلان صريح عن الجهل بالمعرفة الصحيحة لكمال الصفات الربانية.
يقول القرآن:
«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ» (سورة الزلزلة 99: 7 و8).
فإذا كان الله العادل سيحاسب الفرد على مثقال ذرة من الشر.. فكم بالحري سيكون حسابه على كبائر الخطايا والمعاصي والآثام؟
هنا يبرز أكثر من سؤال: كيف يتبرر الإنسان عند الله؟ وكيف يغفر الله للإنسان المذنب خطاياه، مع احتفاظه تبارك اسمه بكمال صفاته.. كمال رحمته وكمال عدله؟
كان لا بد من خطة لتلاقي رحمة الله بعدالة الله..
خطة تتفق تماماً مع كمال صفات الله..
خطة تعلن عن عمق وعلو حكمة الله..
وكانت خطة الله أن يموت المسيح على الصليب، لأن حكمه الإلهي ضد الخطية هو الموت:
«لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية 6: 23).
«اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال 18: 4).
ولو كان المسيح مجرد إنسان، خلقه الله من تراب ثم قال له كن فكان، ما استطاع بموته على الصليب أن يكفر عن خطية الإنسان.. ويفدي الإنسان.
لكن المسيح واحد مع الله.. هو ابن الله.. وهو الله الابن. هو خالق السموات والأرض وخالق الإنسان.. وهو بهذا أكثر قيمة من الإنسان.. سواء كان فرداً أو كانت البشرية بأجمعها من آدم إلى يوم المنتهى. فموته على الصليب يكفر عن خطايا الناس أجمعين، لأنه يزيد في القيمة عن الناس أجمعين.
كمال الصفات الربانية تحتم موت المسيح على الصليب. ففي صليب المسيح تلاقت الرحمة مع العدل.. وظهرت حكمة الله الفائقة العقل..
«ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ ٱلْتَقَيَا. ٱلْبِرُّ وَٱلسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. ٱلْحَقُّ مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُتُ، وَٱلْبِرُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يَطَّلِعُ» (مزمور 85: 10 و11).
غابت عن «محمد» الحقيقة الصحيحة عن كمال الصفات الربانية، فدخل مع المسيحيين في صراع رهيب.. واتهمهم بالكفر والشرك.. وأنكر وحدانية الله الجامعة.
ويخطئ من يعتقد أو يظن أن موت المسيح مصلوباً، كان مفاجأة للمسيح.. أو نتيجة لصراخ الغوغاء الذين طالبوا «بيلاطس» الوالي الروماني أن يصلبه..
ويخطئ من يسأل: إذا كان المسيح هو الله المتجسد في صورة إنسان فعلاً وحقاً فلماذا لم ينزل عن الصليب؟ ولماذا لم ينقذ نفسه من هذا العذاب الرهيب ليظهر قدرته؟
ذلك لأن الصليب كان من الأزل خطة الله لخلاص الإنسان ونجاته من نار جهنم.. وقد وضع الله تبارك اسمه هذه الخطة بحكمته قبل إنشاء العالم، وقبل خلقه الإنسان، وقبل سقوط الإنسان.
«مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ» (أعمال 15: 18).
لقد وُلد المسيح من عذراء ليُصلب.. ليدفع أجرة خطايا البشرية.. ولذلك لم ينزل عن الصليب.
وعن هذا قال بطرس الرسول:
«عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ» (1 بطرس 1: 18 - 20).
وقال أيضاً لليهود الذين اجتمعوا حوله يوم الخمسين، وهو يتحدث عن المسيح وحقيقة صلبه وموته وقيامته:
«يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ... هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ» (أعمال 2: 22 - 24).
في موت المسيح على الصليب:
1 - ظهر بر الله
2 - وظهرت حكمة الله وقوة الله
3 - وظهرت محبة الله
أو في عبارة واحدة «ظهر كمال صفات الله».
- في الصليب ظهر بر الله
وهذا ما قاله بولس الرسول بالوحي الإلهي:
«وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوع» (رومية 3: 21 - 26).
في كفارة المسيح التي أتمها بموته على الصليب، أظهر الله بصورة لا تدع مجالاً للشك أنه «البار» و «المبرر» في آن معاً..
أظهر أنه «البار» لأنه نفَّذ عقابه الإلهي الذي نطق به ضد خطية الإنسان.. يوم قال لآدم «لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين 2: 17). وكان معنى هذا النطق الإلهي «أَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية 6: 23).
- في الصليب ظهرت حكمة الله وقوة الله
هذا ما قاله بولس الرسول بالروح القدس:
«وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 1: 23 و24).
لقد ظهرت حكمة الله في التقاء عدله برحمته في صليب المسيح، وبهذا أظهر الله كمال صفاته.. كما ظهرت حكمته تبارك اسمه في إظهار مدى فظاعة وبشاعة خطية الإنسان.. لقد ظهرت خطية الإنسان في سوادها الشديد حين طالب الناس الذين حضروا محاكمة المسيح أمام «بيلاطس» الحاكم الروماني بان يصلب المسيح البار، ويطلق سراح «بارباس» اللص.. القاتل.. السفاح.. الشرير.
أما قوة الله فقد ظهرت في المسيح إذ أقام المسيح من الأموات.. ولأن المسيح قام وارتفع إلى السماء وهو حي إلى أبد الآبدين، لذلك صنع الرسل باسمه المعجزات.. وما زال اسمه يجري العجائب، ويُخلِّص من يؤمن به مخلّصاً ورباً خلاصاً أبدياً من عذاب جهنم.
- في الصليب ظهرت محبة الله
في الخليقة رأى الإنسان قدرة الله.. وعظمة الله..
«اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19: 1).
لكن الإنسان احتاج أن يرى ويلمس محبة قلب الله. وفي الصليب أظهر الله حبه الفائق العقل للإنسان...
«وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 5: 8).
«فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (1 يوحنا 4: 10).
لو كان المسيح مجرد إنسان لما كان موته إظهاراً لمحبة الله...
لو كان المسيح مخلوقاً مثله مثل آدم خلقه الله من تراب فأين كنا نرى محبة الله؟!
لو كان المسيح مجرد مخلوق.. لكان صلبه مأساة إلهية بل مسرحية تثير السخرية.. لأن الله لم يبذل شيئاً في هذه المسرحية..
خلق آدم فأخطأ.
فخلق المسيح ليفديه.
هو الخالق للإثنين.. فهو لم يتكلف سوى أن خلق آدم.. وخلق المسيح.
لكن المسيح هو ابن الله.. هو الله ظاهراً في الجسد. وكان موته إظهاراً للمحبة العظمى التي في قلب الله. ومحمد لا يؤمن بأن الله «محبة» - واسم المحبة باعتباره من أسماء الله لم يذكر بين أسماء الله الحسنى في القرآن.
ومن هنا أنكر القرآن حقيقة صلب المسيح.. لأن صلب المسيح مرتبط كل الارتباط بوحدانية الله الجامعة..
لذلك قال القرآن:
«وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (سورة النساء 4: 157 و158).
وإنكار القرآن لحقيقة صلب المسيح يعتبر أمام العقل المفكر والذهن المستنير أمراً غريباً..
إذ يقرر القرآن أن اليهود ما قتلوا المسيح وما صلبوه، ويقول محمد فريد وجدي «ولكن ألقي شبهه على أحد القتلة المحكوم عليهم بالقتل» (المصحف المفسر صفحة 130).
ويقول مفسرون مسلمون آخرون أن الله ألقى شبه المسيح على يهوذا الإسخريوطي تلميذه الذي أسلمه.. وقول القرآن وتفسير علماء المسلمين يصور لنا الله المنزه عن الكذب والغش والخداع وقد قام بأكبر خدعة في التاريخ إذ ألقى شبه المسيح على يهوذا أو غيره.. وغيَّر صوت ذلك البديل إلى نفس نغمات صوت المسيح.. وهكذا - في رأيهم - صلب يهوذا أو غيره بدل المسيح..
والادعاء بأن الله غير شكل أحد القتلة، أو شكل يهوذا إلى شبه المسيح ادعاء باطل.. ذلك أن هناك أدلة قانونية دامغة تؤكد تأكيداً قاطعاً أن الذي صُلب على الصليب كان هو «يسوع المسيح» الذي يسميه القرآن «عيسى ابن مريم».
الدليل الأول: نبوات العهد القديم التي تتحدث عن صلبه ودفنه وقيامته:
- تنبأ داود النبي عن موت المسيح مصلوباً بالكلمات:
«لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ» (مزمور 22: 16).
لقد مات داود الملك والنبي مكرماً على سريره في قصره.. لكن هذه الكلمات التي نطق بها بالوحي الإلهي كانت نبوة صريحة عن موت المسيح مصلوباً، وهو الموت الذي يثقبون فيه اليدين والرجلين.
- وتنبأ إشعياء النبي عن دفن المسيح في قبر رجل غني:
«وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ» (إشعياء 53: 9).
بحسب القانون الروماني كان ينبغي أن يُدفن المسيح في مقابر المجرمين، لكن يوسف الرجل الغني، والمشير العظيم وهو من الرامة. «تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى ٱلْجَسَدُ. فَأَخَذَ يُوسُفُ ٱلْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي ٱلصَّخْرَةِ، ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَراً كَبِيراً عَلَى بَابِ ٱلْقَبْرِ وَمَضَى» (متّى 27: 58 - 60).
وهكذا تمت نبوة إشعياء النبي حرفياً وبدقة مذهلة.
- وتنبأ داود النبي عن قيامة المسيح فقال:
«لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً» (مزمور 16: 10).
وقد أكد بطرس الرسول في خطابه الذي ألقاه يوم الخمسين أن هذه الكلمات نبوة عن قيامة المسيح، إذ قال:
«أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَاراً عَنْ رَئِيسِ ٱلآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً، وَعَلِمَ أَنَّ ٱللّٰهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ، وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذٰلِكَ» (أعمال 2: 29 - 32).
إن موت ودفن وقيامة المسيح كان إتماماً لنبوات سابقة.
الدليل الثاني: حديث المسيح إلى حوارييه عن موته وقيامته.
ذات يوم سأل المسيح تلاميذه:
«أَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ» (متّى 16: 15 و16).
وهنا بعد أن أعلن الله الآب لبطرس حقيقة المسيح. وبعد أن عرف التلاميذ عن طريق هذا الإعلان أن المسيح هو بالحقيقة ابن الله الحي، يتابع متى الرسول حديثه قائلاً:
«مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متّى 16: 21).
لم يكن موت الصليب مفاجأة للمسيح، لقد كان إتماماً لخطة الله الأزلية لفداء الإنسان. وقد قال لتلاميذه ساعة عشائه الأخير معهم:
«إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!» (مرقس 14: 21).
وحين طلب منه الكتبة والفريسيون أن يريهم آية:
«فَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال» (متّى 12: 39 و40) (اقرأ أيضاً متّى 20: 28).
كان الاسم الذي طالما استخدمه يسوع المسيح هو «ابن الإنسان».. فهو ممثل الإنسانية كلها.. رفيعها ووضيعها، الأغنياء فيها والفقراء، فجميعهم أخطأوا وأعوزهم مجد الله، وهو قد جاء ليفديهم بموته على الصليب.. وكان يعرف منذ الأزل أن هذا هو عمله العظيم.
الدليل الثالث: الكلمات السبع التي نطق بها المسيح وهو على الصليب.
لو أن الله ألقى شبه المسيح على أحد القتلة، أو على الحواري يهوذا الاسخريوطي، فهل يصدق عاقل أن ذلك القاتل، أو أن يهوذا التلميذ الخائن يمكن أن ينطق بالكلمات السبع التي نطق بها المسيح وهو على الصليب؟
لا يمكن لخيال مهما جمح أن يضع الكلمات السبع التي نطق بها المسيح المصلوب على شفتي أي شخص آخر سواه.
- كانت الكلمة الأولى التي نطق بها المسيح المصلوب «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لوقا 23: 34).
إن ذاك الذي علّمنا الغفران للمسيئين، مارس هذا الغفران، وصلى لأجل الذين صلبوه (متى 5: 44). ولا يصدق إنسان منحه الله ذرة من عقل أن ينطق بهذه الصلاة إنسان قاتل ألقى عليه الله شبه المسيح.
لم يعرف اليهود حقيقة المسيح فطالبوا الوالي الروماني بصلبه «لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1 كورنثوس 2: 8).
وطلب المسيح من الآب أن يغفر لهم، فعلاقة المسيح بالآب هي علاقة الابن بأبيه، لذلك خاطبه بالقول «يا أبتاه».. وكانت كلمته الأولى هي «كلمة الغفران».
- كانت الكلمة الثانية التي نطق بها المسيح المصلوب هي التي خاطب بها اللص المصلوب إلى جواره إذ قال له «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 43).
اعترف اللص الذي صُلب مع المسيح بلاهوت المسيح فقال ليسوع «ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ» (لوقا 23: 42). وأجابه يسوع «إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 43).
فهل يصدق عاقل أن إنساناً قاتلاً، أو أن يهوذا التلميذ الخائن ينطق بهذا الوعد الإلهي؟
إن نطق يسوع المسيح بهذا الوعد الإلهي لذلك اللص الذي تاب في آخر لحظات حياته واعترف بلاهوته وهو على الصليب إلى جواره تؤكد بيقين أن الذي صُلب على الصليب كان يسوع المسيح ولا آخر سواه.. وكانت كلماته لذلك اللص هي كلمة «الخلاص الأبدي».
- كانت الكلمة الثالثة التي نطق بها المسيح المصلوب هي التي وجهها إلى أمه «مريم» وإلى تلميذه يوحنا.
«وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَٱلتِّلْمِيذَ ٱلَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً، قَالَ لأُمِّهِ: يَا ٱمْرَأَةُ، هُوَذَا ٱبْنُكِ. ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: هُوَذَا أُمُّكَ» (يوحنا 19: 25 - 27).
لو كان المصلوب على الصليب شخصاً آخر غير يسوع المسيح، فكيف ينادي «مريم» قائلاً لها: «يا امرأة هوذا ابنك»؟ وكيف عرف يوحنا التلميذ الذي كان يسوع يحبه واستودعها له؟
كيف يهتم شخص قاتل بمريم أم يسوع ويستودعها ليوحنا تلميذه الحبيب؟
إن مجرد وجود «مريم» أم يسوع عند صليب ابنها ، فيه الدليل الدامغ على أن المصلوب كان هو بالحق واليقين يسوع المسيح.. ذلك لأن قلب الأم فيه شفافية حساسة، سيما إذا كان قلب هذه الأم التي باركها الله وأصطفاها فوق نساء العالمين.. ولو أن الذي صلب كان شخصاً آخر غير ابنها يسوع لتركت المشهد ومضت.. بل لأخبرت بقية تلاميذه أن المصلوب ليس هو ابنها يسوع.. وقوف «مريم» عند الصليب يؤكد أن الذي صُلب كان هو يسوع المسيح.. وكانت كلمته الثالثة هي كلمة «الحنان».
- كانت الكلمة الرابعة التي نطق بها المسيح المصلوب «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متّى 27: 46).
كانت كلمة المسيح الرابعة صرخة وجهها إلى الله باعتباره «ابن الإنسان» الذي أخذ صورة الإنسان ليفدي الإنسان. هو الآن في مركز العبد كما قال بولس الرسول:
«...ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ... ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي 2: 5 - 8).
وباعتباره الآن «العبد» الذي يحتمل عقاب الخطية عن الخطاة ينادي الآب «إلهي إلهي لماذا تركتني». وكانت صرخته إلى الله إعلاناً منه بأنه الفادي الذي تنبأ عنه داود في المزمور الثاني والعشرين.. ذلك المزمور الذي ذكر نبوات تمت حرفياً يوم صلبه.
قد تنبأ داود في هذا المزمور عن موت المسيح مصلوباً كما ذكرنا فيما سبق «ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ» (مزمور 22: 16). وتنبأ عن اقتسام ثيابه وإلقاء قرعة على ردائه، «يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مزمور 22: 18).
وذكر يوحنا الرسول إتمام هذه النبوة بدقة في كلماته:
«ثُمَّ إِنَّ ٱلْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا ٱلْقَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ ٱلْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ. لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: ٱقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً. هٰذَا فَعَلَهُ ٱلْعَسْكَرُ» (يوحنا 19: 23 و24).
لقد كان يسوع يعلم تماماً سبب ترك الآب له.
«لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (2كورنثوس 5: 21).
كان يسوع يعرف أنه «الذبح العظيم» الذي جاء لفداء الإنسان، وأن الله تركه، لأن هذا الترك هو رمز الانفصال الأبدي الذي سيكون من نصيب كل الذين يرفضون فداءه.. فجهنم هي مكان الانفصال الأبدي عن الله.. وأراد المسيح أن يعلن بصرخته عن حقيقة شخصه، وعن سبب صلبه وموته، وأنه هو بذاته الذي تنبأ عنه داود النبي في مزموره. لقد تركه الله لأنه صار «خطية لأجلنا»..
ولا يقبل العقل بأن شخصاً قاتلاً ألقى الله عليه شبه المسيح ينطق بهذه الكلمات. كانت كلمته الرابعة هي الصرخة التي عبّرت عن شدة العذاب الذي اجتازه.
- كانت الكلمة الخامسة التي نطق بها المسيح المصلوب: «أَنَا عَطْشَانُ» (يوحنا 19: 28).
وقد نطق يسوع المسيح بهذه الكلمة إتماماً لنبوة داود النبي: «... وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مزمور 69: 21). وقد سجل يوحنا الرسول إتمام هذه النبوة بكلماته «بَعْدَ هٰذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ ٱلْكِتَابُ قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ. وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ، فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ ٱلْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ. فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخَلَّ قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ. وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ» (يوحنا 19: 28 - 30).
لم يكن قاتلاً ذاك الذي صلبه الرومان على الصليب، كان المصلوب هو يسوع المسيح الذي تمت فيه نبوات الأنبياء. وكانت كلمته الخامسة تعبيراً عن مدى آلامه.. إذ سفك دمه وسال من جسده الكريم حتى عطش.
- كانت الكلمة السادسة التي نطق بها المسيح المصلوب «قَدْ أُكْمِلَ» (يوحنا 19: 30).
وهي الكلمة اليونانية «تلستي» ومعناها إكمال كل شيء..
إن كلمة «قد أكمل» تعلن أن المسيح يسوع «عيسى ابن مريم» أكمل جميع نبوات الأنبياء في شخصه..
كذلك تعلن كلمة «قد أكمل» أنه قد أكمل بموته جميع ذبائح وقرابين العهد القديم.. فهو ذبيحة المحرقة (لاويين 1). وهو قربان الدقيق (لاويين 2). وهو ذبيحة السلامة (لاويين 3). وهو ذبيحة الخطية (لاويين 4). وهو ذبيحة الإثم (لاويين 5).. هو في عبارة واحدة «حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29).
كذلك تعلن كلمة «قد أكمل» إن عمل الفداء قد كمل، وإن كل ما على الإنسان الأثيم هو أن يقبل بالإيمان ما عمله المسيح لأجله ليخلص، فقد دفع يسوع أجرة خطاياه.
«لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (عبرانيين 10: 14).
والكلمة السادسة التي نطق بها المسيح المصلوب تؤكد بيقين لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه أن الذي صُلب على الصليب كان هو يسوع المسيح، وكانت كلمته السادسة كلمة «الانتصار».
- كانت الكلمة السابعة التي نطق بها المسيح المصلوب: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لوقا 23: 46).
احتمل المسيح دينونة الله العادلة نيابة عن الخطاة، وأكمل عمله الفدائي، وبعد أن نطق بكلمته «قد أكمل» نسمعه يخاطب أباه كما بدأ بقول «يا أبتاه».
لم يعد هناك حجاب بينه وبين أبيه.. لقد أكمل عمله كعبد وهو الآن يعلن علاقته الأزلية بأبيه.. ونطقه بهذه الكلمة «يا أبتاه» ينفي نفياً باتاً وقاطعاً أن الذي صُلب على الصليب كان شخصاً آخر غيره.
الدليل الرابع: الذي يؤكد أن الذي صُلب على الصليب كان هو بالحق يسوع المسيح، هو ظواهر الطبيعة التي حدثت وقت صلبه وانشقاق حجاب الهيكل.
لو أن الذي صُلب على الصليب كان قاتلاً ألقى الله عليه شبه المسيح.. فلماذا ثارت الطبيعة وأعلنت غضبها؟!؟..
يسجل لوقا البشير ما حدث وقت صلب المسيح بالكلمات:
«وَكَانَ نَحْوُ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ (أي 12 ظهراً)، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَأَظْلَمَتِ ٱلشَّمْسُ، وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ» (لوقا 23: 44 و45).
ويسجل مرقس البشير نفس الحادث بالكلمات:
«وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هٰكَذَا وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ، قَالَ: حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ!» (مرقس 15: 38 و39).
قائد المئة الروماني روّعته ظواهر الطبيعة، واعترف بأن ذاك المصلوب كان ابن الله.
الدليل الخامس: شهادة يوحنا الرسول الذي حضر مشهد الصلب.
شهد يوحنا الرسول الذي حضر مشهد الصلب من بدايته إلى نهايته أن الذي صُلب كان هو باليقين يسوع المسيح إذ قال:
«فَأَتَى ٱلْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ ٱلأَوَّلِ وَٱلآخَرِ ٱلْمَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. لٰكِنَّ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. وَٱلَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ. لأَنَّ هٰذَا كَانَ لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ. وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: سَيَنْظُرُونَ إِلَى ٱلَّذِي طَعَنُوهُ» (يوحنا 19: 32 - 37).
الدليل السادس: ظهورات المسيح بعد القيامة، وعلى الأخص ظهوره للحواري توما.
ويكفينا هنا أن نذكر ما قاله يوحنا الرسول، وما قاله بولس الرسول بغير تعليق.
قال يوحنا الرسول:
«لَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ ٱلأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ ٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سَلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: ٱقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ. أَمَّا تُومَا، أَحَدُ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلتَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ ٱلآخَرُونَ: قَدْ رَأَيْنَا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ. وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً. أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلٰهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا 20: 19 - 29).
رأى التلاميذ يدي المسيح المصلوب وجنبه، وتيقنوا أنه هو بذاته الذي صُلب على الصليب.. وقام من الأموات. إن المسيح الذي صُلب قام حقاً ويقيناً من الأموات. والصليب بغير قيامة لا قيمة له لذلك «فرح التلاميذ إذ رأوا الرب».
كذلك رأى توما أثر المسامير في يدي المسيح، وأثر الطعنة في جنبه.. وهتف له قائلاً:
«رَبِّي وَإِلٰهِي» (يوحنا 20: 28).
وقبل المسيح اعترافه لأنه الله.
وذكر بولس الرسول ظهورات المسيح بعد قيامته بالكلمات:
«وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِٱلإِنْجِيلِ ٱلَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثاً! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ حَسَبَ ٱلْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلٱثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى ٱلآنَ. وَلٰكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا. وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. وَآخِرَ ٱلْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا. لأَنِّي أَصْغَرُ ٱلرُّسُلِ، أَنَا ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً، لأَنِّي ٱضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 15: 1 - 9).
نكرر القول بأن المسيح الذي صُلب قد قام من الأموات. وظهور المسيح بعد قيامته وصعوده إلى السماء لشاول الطرسوسي الذي صار فيما بعد «بولس الرسول» كان هو سر التغيير العجيب الذي حدث له.. وسر انتقاله من معسكر المُضْطَهِدِين لاتباع المسيح إلى معسكر المُضْطَهَدِين لأجل المسيح (1 تيموثاوس 1: 12 - 16 و2 كورنثوس 11: 23 - 33 و2 كورنثوس 12: 10).
الدليل السابع: حلول الروح القدس يوم الخمسين ورضا رسل المسيح بالاضطهاد والألم والعذاب والاستشهاد في سبيله. ووجود الكنيسة المسيحيّة حتى اليوم.
قال المسيح قبل صلبه، وقيامته، وصعوده إلى السماء لتلاميذه:
«لٰكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ ٱلْحَقَّ، إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ ٱلْمُعَزِّي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ... إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ، وَلٰكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا ٱلآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يوحنا 16: 7 و12 - 14).
وقال لهم أيضاً:
«وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ ٱلآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ ٱلْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ» (يوحنا 14: 16 و17).
وأوصاهم قبل ارتفاعه إلى السماء:
«أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ ٱلآبِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي، لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِٱلْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ بِكَثِيرٍ» (أعمال 1: 4 و5).
وعد المسيح تلاميذه بأنه بعد ارتفاعه إلى السماء سيرسل لهم الروح القدس.. والروح القدس الذي وعد المسيح بإرساله ليس هو «محمد» كما يقول علماء المسلمين أن المسيح وعد بإرسال الروح القدس.. فالمرسل ليس بشراً بل هو «الروح القدس» الذي قال عنه المسيح إنه «روح الحق» وإن العالم «لا يراه» فهو شخص غير مرئي.. وأنه سيُمجِّد المسيح «ذاك يمجدني»، وسيُذكِّر التلاميذ بكل ما قاله لهم.. وبهذه القدرة الإلهية تذكر الرسل أقوال المسيح وسجلوها في بشائرهم.
وأخيراً قال المسيح لتلاميذه أن ينتظروا في أورشليم حتى يحل عليهم الروح القدس، وأن الروح سيحل عليهم بعد أيام قليلة...
وقد حل الروح القدس على التلاميذ بعد عشرة أيام من صعود المسيح إلى السماء وهم في أورشليم.. أما محمد فقد جاء بعد المسيح بأكثر من ستمائة سنة.. جاء في مكان بعيد جداً عن أورشليم.. جاء في مكة.. في الجزيرة العربية.
بعد أن حل الروح القدس على رسل المسيح وتلاميذه تحول خوفهم إلى شجاعة، وضعفهم إلى قوة، وخرجوا في شوارع أورشليم ينادون بالمسيح المصلوب المقام، وامتدت رسالتهم إلى أقصى الأرض وانتشرت المسيحيّة بغير سيف وبغير حروب.
أضف إلى هذا كله أن رسل المسيح، والذين آمنوا به بواسطة رسالتهم احتملوا الاضطهاد، والألم، والعذاب، والاستشهاد لأجل المسيح.
وتعال معي لتقرأ ما حدث للرسل في بداية تبشيرهم بالمسيح المصلوب.. وسجله سفر أعمال الرسل:
«فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْكَاهِنُ وَقَائِدُ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ وَرُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ، ٱرْتَابُوا مِنْ جِهَتِهِمْ: مَا عَسَى أَنْ يَصِيرَ هٰذَا؟ ثُمَّ جَاءَ وَاحِدٌ وَأَخْبَرَهُمْ قَائِلاً: هُوَذَا ٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ وَضَعْتُمُوهُمْ فِي ٱلسِّجْنِ هُمْ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَاقِفِينَ يُعَلِّمُونَ ٱلشَّعْبَ. حِينَئِذٍ مَضَى قَائِدُ ٱلْجُنْدِ مَعَ ٱلْخُدَّامِ، فَأَحْضَرَهُمْ لاَ بِعُنْفٍ، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ ٱلشَّعْبَ لِئَلاَّ يُرْجَمُوا. فَلَمَّا أَحْضَرُوهُمْ أَوْقَفُوهُمْ فِي ٱلْمَجْمَعِ. فَسَأَلَهُمْ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ: أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهٰذَا ٱلٱسْمِ؟ وَهَا أَنْتُمْ قَدْ مَلأْتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ، وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هٰذَا ٱلإِنْسَانِ. فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَٱلرُّسُلُ: يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ ٱللّٰهُ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنَّاسِ. إِلٰهُ آبَائِنَا أَقَامَ يَسُوعَ ٱلَّذِي أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هٰذَا رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ بِيَمِينِهِ رَئِيساً وَمُخَلِّصاً، لِيُعْطِيَ إِسْرَائِيلَ ٱلتَّوْبَةَ وَغُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا. وَنَحْنُ شُهُودٌ لَهُ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَيْضاً، ٱلَّذِي أَعْطَاهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ».
«فَلَمَّا سَمِعُوا حَنِقُوا، وَجَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ. فَقَامَ فِي ٱلْمَجْمَعِ رَجُلٌ فَرِّيسِيٌّ ٱسْمُهُ غَمَالاَئِيلُ، مُعَلِّمٌ لِلنَّامُوسِ، مُكَرَّمٌ عِنْدَ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ ٱلرُّسُلُ قَلِيلاً. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ، ٱحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ جِهَةِ هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسِ فِي مَا أَنْتُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ تَفْعَلُوا. لأَنَّهُ قَبْلَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ قَامَ ثُودَاسُ قَائِلاً عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ شَيْءٌ، ٱلَّذِي ٱلْتَصَقَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ ٱلرِّجَالِ نَحْوُ أَرْبَعِمِئَةٍ، ٱلَّذِي قُتِلَ، وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ ٱنْقَادُوا إِلَيْهِ تَبَدَّدُوا وَصَارُوا لاَ شَيْءَ. بَعْدَ هٰذَا قَامَ يَهُوذَا ٱلْجَلِيلِيُّ فِي أَيَّامِ ٱلٱكْتِتَابِ، وَأَزَاغَ وَرَاءَهُ شَعْباً غَفِيراً. فَذَاكَ أَيْضاً هَلَكَ، وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ ٱنْقَادُوا إِلَيْهِ تَشَتَّتُوا. وَٱلآنَ أَقُولُ لَكُمْ: تَنَحَّوْا عَنْ هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسِ وَٱتْرُكُوهُمْ! لأَنَّهُ إِنْ كَانَ هٰذَا ٱلرَّأْيُ أَوْ هٰذَا ٱلْعَمَلُ مِنَ ٱلنَّاسِ فَسَوْفَ يَنْتَقِضُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ ٱللّٰهِ فَلاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْقُضُوهُ، لِئَلاَّ تُوجَدُوا مُحَارِبِينَ لِلّٰهِ أَيْضاً. فَٱنْقَادُوا إِلَيْهِ. وَدَعَوْا ٱلرُّسُلَ وَجَلَدُوهُمْ، وَأَوْصَوْهُمْ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمُوا بِٱسْمِ يَسُوعَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ. وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ ٱلْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ. وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَفِي ٱلْبُيُوتِ مُعَلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيح» (أعمال 5: 24 - 42).
مع هذا كله مات بطرس الرسول شهيداً مصلوباً ورأسه إلى أسفل على صليب.. كما قطع نيرون رأس بولس الرسول بالسيف...
وارتضى المسيحيون الأوائل أن يعيشوا في سراديب روما حباً للمسيح الذي مات لأجلهم وقام.
واستمر وجود الكنيسة المسيحيّة رغم ما تعرضت له من اضطهادات حتى اليوم.
إن أي محام تُقدم له هذه الأدلة القانونية الدامغة، ويفحصها بدقة وبغير تعصب أعمى لا بد له أن يهتف من الأعماق:
«لقد صلبوا المسيح وقتلوه»
والقرآن ذاته يؤكد موت المسيح إذ يقرر في سورة مريم:
«وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً» (سورة مريم 19: 33).
فالنص القرآني يذكر يوم مولد المسيح، ويوم موته، ويوم قيامته...
وهناك نص آخر يؤكد ارتفاعه إلى السماء بعد قيامته:
«إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (سورة آل عمران 3: 55).
إن المدعين بأن الله ألقى شبه المسيح على شخص آخر ينسبون إلى الله الخداع.. وهو المنزه عن الخداع، ولا شك أنه سيصعب عليهم تماماً أن يجيبوا عن السؤال: كيف قام الله بهذه الخدعة الكبرى ثم سكت لمدة أكثر من ستمائة سنة، تاركاً الأجيال التي عاشت طوال هذه القرون تؤمن عن إخلاص بأن الذي مات على الصليب كان هو يسوع المسيح.. أما كان الأكثر منطقاً أن يبادر الله جلت قدرته فيرسل نبياً بعد الصلب مباشرة ينادي في الناس أن الذي مات لم يكن هو يسوع المسيح؟
إن ظهور محمد بعد أكثر من ستمائة سنة من صلب المسيح.. وهو لم يعش قط على أرض إسرائيل، ولم يعاصر حادث الصلب.. وإنكاره لحقيقة صلب المسيح، ومناداته «ما صلبوه وما قتلوه» أمر يرفضه كل من يستخدم العقل الذي وهبه الله له..
إن المؤمن الأمين يرفض رفضاً قاطعاً أن يوصف الله القدوس بالخداع والغش... ويقبل الحجج القانونية الدامغة التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الذي صُلب على الصليب كان هو بذاته يسوع المسيح.
إنكار حقيقة صلب المسيح.. مرتبط بإنكار وحدانية الله الجامعة.. ومرتبط كذلك بالجهل التام بحقيقة كمال الصفات الربانية.
وقبل أن نختم هذا الفصل لا بد لنا أن نجيب على سؤال طالما ردده المسلمون، هو: إذا كان المسيح هو الله ظاهراً في الجسد، فهل مات الله عندما مات المسيح على الصليب؟ ومن كان يحكم العالم خلال الثلاثة الأيام التي قضاها المسيح في القبر؟
وجوابنا: إن روح الله روح.. والروح لا يُصلب ولا يموت.. لكن المسيح حين تجسد صار إنساناً كاملاً.. وفي ذات الوقت حلّ فيه كل ملء اللاهوت.. وكإنسان كامل أخذ المسيح روحاً ونفساً وجسداً، وكان بلاهوته مالئ السموات والأرض.
والذي مات على الصليب هو المسيح الإنسان، لأنه مات ليفدي الإنسان «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا 19: 10). «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (1تيموثاوس 2: 5).
الذي مات على الصليب هو المسيح الإنسان.. وهذا هو سر التجسد العظيم الذي قال عنه بولس الرسول: «بِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (1 تيموثاوس 3: 16).
لم يدرك «محمد» المعنى العميق لقداسة الله القدوس، كما لم يدرك أهمية كمال الصفات الإلهية. أضف إلى ذلك أن محمداً غابت عن ذهنه حقيقة فساد الطبيعة الإنسانية.
الإنسان.. كل إنسان فاسد بطبيعته الساقطة الموروثة من أبيه الساقط آدم.. كان هو النبع الذي انحدرت منه السلالات البشرية.. تلوث النبع وبالتالي وصل التلوث إلى النسل البشري كله.
هذه حقيقة أعلنها الله في الكتاب المقدس بصورة بارزة، وأيدتها اكتشافات علم النفس الحديث.
ومحاولة إنكار الخطيئة الموروثة من آدم الأول، وتحكم هذه الطبيعة الساقطة في أفعال، وتصرفات، ودوافع الإنسان، تجعل الإنسان في حيرة إذ لا يدري لماذا يفعل الشر وقصده أن يفعل الصلاح..
يؤكد داود النبي حقيقة طبيعته الساقطة الموروثة فيقول:
«هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور 51: 5).
ويقول بولس الرسول مؤكداً حقيقة فساد الطبيعة الإنسانية بالوراثة:
«مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية 5: 12).
إن حقيقة سيادة الموت على كل إنسان.. تؤكد حقيقة وراثة كل إنسان للخطية الأصلية.. خطية آدم الأول.. وإلا فلماذا يموت كل إنسان.. والموت جاء كعقاب للخطية الأصلية؟
ليس بين البشر إنسان ولد بلا خطية.
«اَللّٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ كُلُّهُمْ قَدِ ٱرْتَدُّوا مَعاً، فَسَدُوا، لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مزمور 53: 2 و3).
«لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 22 و23).
بمعنى أن كل إنسان أخطأ لأنه مولود بطبيعة ساقطة، ولوجود هذه الطبيعة الساقطة فيه وسيطرتها على أعماله وتصرفاته عجز عن الوصول إلى كمال المقياس الإلهي الذي يرضي الله، وهو ما عبّر عنه الرسول بولس بالكلمات «أعوزهم مجد الله».
والمسيح وهو العارف بطبيعة الإنسان، لأنه فاحص القلوب.. يتحدث عن الدافع للخطيئة في حياة الإنسان فيقول:
«لأَنَّهُ مِنَ ٱلدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ، تَخْرُجُ ٱلأَفْكَارُ ٱلشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. جَمِيعُ هٰذِهِ ٱلشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ ٱلدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ» (مرقس 7: 21 - 23).
ويصف بولس الرسول الصراع الدائر داخله بين الطبيعة الساقطة ورغبته في طاعة ناموس الله فيقول:
«فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ رُوحِيٌّ، وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ. لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ... فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. ...لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ ٱلشَّرَّ ٱلَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ» (رومية 7: 14 - 20).
ويؤكد تاريخ الإنسان حقيقة وراثته للخطية الأصلية.. فأول إنسان ولد على الأرض هو «قايين» قتل أخاه «هابيل».. فمن أين جاءه الدافع الشرير لقتل أخيه إن كان قد وُلد بفطرة سليمة؟.. يقيناً أن البيئة التي عاش فيها لم تزرع فيه هذا الميل الشرير!!
إن علم النفس الحديث يثبت ما جاء في كلمة الله عن الطبيعة الساقطة الموروثة..
قسَّم «فرويد» عالم النفس المشهور «الجهاز النفسي في الإنسان» إلى ثلاثة أقسام.. وأوضح أن لكل قسم منها خصائص معينة..
قال «فرويد» إن الجهاز النفسي ينقسم إلى:
الأنا «Ego».. والهو «Id».. والأنا الأعلى «Super Ego» .
وما يهمنا هنا هو الحديث عن «الهو».. فعلماء النفس يقولون «إن الهو Id» هو القسم اللاشعوري في الجهاز النفسي، ومن خصائصه أنه لا يتجه وفق المبادئ الخلقية.. ولا يتقيد بقيود منطقية، بل يتجه نحو النزعات الفطرية الموروثة.. إنه يشبه البئر المظلمة البعيدة الغور، العميقة غاية العمق، المخفية عن الشخص غاية الخفاء، ومع ذلك فهي زاخرة بالأفكار والرغبات والدوافع الوراثية التي تسيطر على تصرفات الإنسان.
كل ابن آدم يولد وارثاً للطبيعة الساقطة.. ومن هنا يظهر عجز الإنسان عن القدرة على عمل الصلاح الذي يرضي الله تبارك وتعالى.. من هنا كان «نُورُ ٱلأَشْرَارِ خَطِيَّةٌ» (أمثال 21: 4).. ومن هنا ظهرت حتمية أن يقوم الله نفسه بإنقاذ الإنسان من الوهدة التي تردى فيها، وقيام الله جلّ اسمه بعمل لإنقاذ الإنسان من معاصيه ومن الدخول في عذاب جهنم.. هو أمر مرتبط بذاته العلية.. مرتبط بوحدانيته الجامعة.
ومع إنكار علماء المسلمين لحقيقة وراثة الطبيعة الساقطة.. ومع ادعائهم أن الإنسان يولد بفطرة سليمة.. فإن القرآن يقرر في كثير من نصوصه فساد طبيعة الإنسان.
ففي سورة العصر نقرأ النص القرآني:
«وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِي خُسْرِ (أي خسران ونقصان وهلكة) إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ وتَوَاصُوا بِٱلْحَقِّ (أي أوصى بعضهم بعضاً بالحق) وَتَوَاصُوا بَٱلصَّبْرِ» (سورة العصر 103: 1 و2 و3).
والنص القرآني يعلن بكلمات صريحة أن الإنسان بطبيعته المولود بها في خسران، ونقصان، وهلكة... فهو هالك بطبيعته الساقطة.. ويستثنى فقط الذين آمنوا وتواصوا بالحق وبالصبر.
وفي سورة يوسف نقرأ النص القرآني:
«وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (سورة يوسف 12: 53).
والنص يقرر أن النفس بطبيعتها الساقطة أمارة بالسوء ما لم تتداركها رحمة الله وتخلصها.. وإلا فمن أين جاءها الميل إلى السوء؟
وفي سورة النساء يقرر القرآن:
«يُرِيدُ ٱللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنْسَانُ ضَعِيفاً» (سورة النساء 4: 28).
ويفسر محمد فريد وجدي هذا النص القرآني فيقول:
«يريد الله أن يخفف عنكم بمنحكم شريعة سمحة لا تعسير فيها مناسبة لضعف طبيعة الإنسان فإنه لا يصبر عن الشهوات، ولا يتحمل مشاق الطاعات» (المصحف المفسر صحفة 104).
القرآن يقرر بكل وضوح وجلاء أن الإنسان بطبيعته الساقطة في خسران، وأن نفسه أمارة بالسوء.. وأن الإنسان خلق ضعيفاً لا يستطيع أن يتحكم في شهواته ويعجز عن طاعة وصايا الله..
هذا التعليم الواضح في القرآن ينكره علماء المسلمين.. مع أن ما حدث لمحمد في طفولته ورجولته وذكرته كتب السيرة النبوية يؤكد حقيقة وراثة كل إنسان للطبيعة الساقطة.. طبيعة الميل إلى المعصية والخطية.
وتعال معي لنقرأ ما حدث في حياة محمد وسجله أحمد بهجت في كتابه «أنبياء الله».
شب محمد بن عبد الله في بادية بني سعد.. كان هناك مع مرضعته حليمة السعدية..
حين بلغ عامه الثاني فطم.. وأرادت أمه أن تأخذه.. ولكن حليمة لم تستطع أن تستسلم لهذا الانفصال القاسي. فألقت بنفسها عند قدمي الأم وأخذت تقبلهما وهي تسألها أن تتركه معها حتى يشب صحيحاً في هواء البادية.. ومكث محمد في بادية بني سعد خمس سنوات.
وقد وقع له في هذه السنوات الخمس ما عُرف فيما بعد بحادث شق الصدر..
أصدرت المشيئة الإلهية حكمها النافذ للروح الأمين «جبريل».. أن يهبط إلى محمد بن عبد الله، ويشق صدره بالأمر الإلهي، ويغسل قلبه بالرحمة، ويجففه بالنور.. ويستخرج حظ الدنيا منه..
خرج محمد كعادته ذات صباح مع أخيه في الرضاع يقودان القطيع إلى المراعي، فلما انتصف النهار، أتى أخوه يعدو فزعاً باكياً، يصيح بأن محمداً قد قُتل.. أخذه رجلان عليهما ثياب بيضاء، فأضجعاه وشقا صدره..
جن جنون حليمة.. انطلقت تعدو بكل ما تملك من قوة، يتبعها زوجها في الاتجاه الذي أرشد عنه الصبي.. فوجدا محمداً جالساً على الأرض، وجهه ممتقع، وعيناه تلمعان.. قبَّلاه في رقة وأخذا يلاطفانه.. ثم سألاه ماذا حدث؟
قال الصبي: بينما كنت ألاحظ الأغنام وهي ترعى، فوجئت بصورتين ناصعتي البياض، ظننت أولاً أنهما طائران كبيران، ثم أدركت خطئي، كانا شخصين لا أعرفهما يلبسان البياض..
قال أحدهما لصاحبه مشيراً إليَّ: أهذا هو؟
قال: نعم..
جمدت من الفزع، وأخذاني فأضجعاني وشقا صدري، والتمسا فيه شيئاً، فوجداه وطرحاه بعيداً، ثم التأم ما شقاه، واختفيا كأنهما شبحان..
روى الحديث أنس.. وأخرجه مسلم وأحمد..
ويرى بعض المفسرين القدماء كالقرطبي أن هذه الحادثة تشرح معنى الآية:
«أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» (سورة الشرح 94: 1).
ويستطرد أحمد بهجت قائلاً: في رأينا أن حادث شق الصدر تكرر مرة أخرى ومحمد يجاوز الخمسين من عمره.
وقد جاء حادث شق الصدر الثاني ليلة أسري به..
بينما أنا في الحطيم - أو قال في الحجر - مضطجع بين النائم واليقظان.. أتاني آت، فشق ما بين هذه إلى هذه - يعني ثغرة إلى بطنه - قال: فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً، فغسل قلبي، ثم حشى ثم أُعيد (أنبياء الله صفحة 385 و386).
وأمام حادث شق الصدر الذي تكرر مرتين في حياة محمد.. مرة وهو طفل لم يبلغ الخامسة من عمره، ومرة وهو في الخمسين يجوز لنا أن نسأل ولنا كل الحق:
لماذا احتاج الطفل محمد إلى عملية شق الصدر الأولى إذا كان قد وُلد بفطرة سليمة، ولم يرث الطبيعة الساقطة التي يؤكد الكتاب المقدس أن كل إنسان يولد بها؟
ما الذي التمسه «جبريل» والملاك الآخر الذي معه ووجداه في صدر محمد وطرحاه بعيداً بحسب الرواية العربية؟ لا شك أن هذا الذي التمساه لم يكن شيئاً طاهراً وإنما كان قذراً أو شراً لا بد من طرحه بعيداً..
هل لم تنجح العملية الأولى التي أُجريت لمحمد وهو دون الخامسة من عمره حتى استلزم الأمر عملية ثانية غُسِلَ فيها قلب محمد وهو في الخمسين؟
إن حادث شق صدر «محمد» في طفولته الباكرة.. وهو الحادث الذي ذكرته كتب السيرة النبوية يؤكد لكل ذي عقل وراثة الإنسان للطبيعة الساقطة.. طبيعة الميل الغريزي إلى المعصية..
ومع كل ما تقدم فإن «محمداً» أعلن لجماعة من المستمعين إليه أمراً آخر ذكرته كتب السيرة النبوية.
عن محمد رسول الله: ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة..
قالوا: وإياك يا رسول الله؟
قال: وإياي.. إلا أن الله أعانني عليه فأسلم.. فلا يأمرني إلا بخير (أنبياء الله صفحة 386).
هل يستطيع الإنسان البشري الذي هو بطبيعته في خسران.. والذي نفسه أمارة بالسوء.. والذي خلق ضعيفاً.. والذي من يوم وُلد يُوكَّل به قرينه من الجن فيسير وفق أمره.. وهو بغير شك قرين شرير استلزم جهداً كبيراً من محمد حتى أسلم وكان محمد يتبع أمره قبل إسلامه وبعده..
هل يستطيع الإنسان وهذا حاله من الضعف والتردي، وسيطرة الجن عليه أن يعمل أعمالاً صالحة ترضي الله القدوس، وتفتح له أبواب الجنة؟
إن هذا الإنسان الضعيف، المولود بالإثم والطبيعة الساقطة عاجز تماماً عن القيام بالأعمال الصالحة مهما أوصيته بعملها.. فهو تحت سيادة شهواته، وقوى الجن تؤثر عليه.. ورغم رغبته في طاعة الله فإن طبيعته الساقطة تهزمه وترغمه على ارتكاب المعاصي. لذا كان من المحتم أن تهزمه وترغمه على ارتكاب المعاصي. لذا كان من المحتم أن يقوم الله ذاته بإنقاذه.. وهذا الإنقاذ الإلهي، الذي يسميه الكتاب المقدس «خلاص الله».. دبره الله بحكمته قبل الأزمنة الأزلية، كما يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس في رسالته التي كتبها بالوحي الإلهي:
«فَلاَ تَخْجَلْ بِشَهَادَةِ رَبِّنَا، وَلاَ بِي أَنَا أَسِيرَهُ، بَلِ ٱشْتَرِكْ فِي ٱحْتِمَالِ ٱلْمَشَقَّاتِ لأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ بِحَسَبِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى ٱلْقَصْدِ وَٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ» (2 تيموثاوس 1: 8 و9).
فقبل الأزمنة الأزلية.. قبل إنشاء العالم.. قبل خلقه الإنسان.. قبل سقوط الإنسان.. دبّر الله في حكمته خلاص الإنسان.. وتركز تدبيره في تجسد المسيح الذي كان معه منذ الأزل..
هذا كله يرتبط بالإيمان بوحدانية الله الجامعة..
والجهل بوراثة الإنسان للطبيعة الساقطة.. يدفعه إلى الثقة الكاذبة في قدرته على إرضاء الله بأعماله الصالحة.. وبالتالي يدفعه إلى إنكار حتمية الفداء الإلهي بدم المسيح الكريم.. وإنكار وحدانية الله الجامعة.
حقيقة رابعة لم يستطع محمد فهم معناها الصحيح، هي حقيقة تجسد الله في المسيح.
إن أشد ما يزعج المسلم ويثير غضبه، هو أن يسمع أن المسيح هو الله المتجسد.. أو هو ابن الله.
ذلك لأن القرآن قد حصَّنه ضد هذا الإيمان.
ذكر القرآن في سورة المائدة:
«لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (سورة المائدة 5: 17).
«لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ» (سورة المائدة 5: 72).
«وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ (يشابهون في الكفر) قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (كيف يُصرفون عن الحق؟)» (سورة التوبة 9: 30).
والذي يقرأ هذه النصوص القرآنية بتدقيق يرى أن المسيحيين في عصر محمد آمنوا بأن المسيح هو الله.. وآمنوا أنه ابن الله وهذا واضح تماماً فيما ذكره القرآن.
فالإيمان بلاهوت المسيح ليس بدعة جديدة.. وإنما هو إيمان المسيحيين الأمناء منذ قبلوا المسيح رباً وفادياً ومخلّصاً قبل ظهور محمد، وبعد ظهور محمد وإلى هذا اليوم.. وإلى يوم عودة المسيح.
إن محمداً لم يستطع وهو محاط بتيارات العقائد المتضاربة التي سادت في عصره أن يعرف المعنى الصحيح لتجسد الله في المسيح وبالتالي لم يعرف حقيقة المسيح.
وبالقطع فإن الاعتراف بأن المسيح هو الله لا يمكن أن يأتي بمجهود عقلي.. بل لا بد أن يأتي بإعلان سماوي.
كتب بولس الرسول للمسيحيين في كورنثوس قائلاً:
«لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (1 كورنثوس 12: 3).
هذا الحق يظهر في الحوار الذي دار بين المسيح وتلاميذه..
ذات يوم اجتمع المسيح مع حوارييه في قيصرية فيلبس.. سألهم المسيح: «مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ؟ فَقَالُوا: قَوْمٌ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ. قَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى 16: 13 - 17).
لم يقبل المسيح الشهادة بأنه واحد من الأنبياء.
كان الاعتراف الصحيح الذي قبله المسيح وبارك من نطق به «أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ» (متّى 16: 16)، ولم يأت هذا الإعلان لبطرس الحواري من ذاته.. وإنما جاءه من الآب الذي في السموات.
لكن محمداً رفض حقيقة تجسد المسيح وحاربها بضراوة وعنف منادياً قائلاً: «مَا ٱتَّخَذَ (الله) صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً» (سورة الجن 72: 3).. وكان موضع الخطأ في رسالته أنه ربط أبوة الله للمسيح بالتنازل الجسدي الذي يتطلب علاقة جنسية بين الرجل والمرأة.. لم يدرك محمد أن هناك أبوة وبنوة أسمى بكثير من تلك التي تأتي ثمرة للعلاقة الجنسية.
ونعجب كثيراً إذ نقرأ في القرآن أن الجن هو مصدر الإعلان بأن الله لم يتخذ ولداً.. الجن هو الذي نطق بهذا الإعلان وسجل القرآن هذا الإعلان على أنه وحي من الرحمن.. فقد جاء في سورة الجن:
«قُلْ أُوحِيَ إِليَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى ٱلرُّشْدِ فَٱمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا (أي تعالت عظمته وجلاله وسلطانه) مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً» (سورة الجن 72: 1 و2 و3).
الجن الذي أمر الله بني إسرائيل بلسان موسى النبي أن لا يلتفتوا إليهم.. قال جماعة منهم أن الله ما اتخذ صاحبة ولا ولداً.. وسجل القرآن قول جماعة الجن على أنه كلام موحى به من الله.. وهو أمر يثير الدهشة.. ويدعو إلى التفكير. تعال معي لنقرأ ما قاله الله لبني إسرائيل:
«لاَ تَلْتَفِتُوا إِلَى ٱلْجَانِّ وَلاَ تَطْلُبُوا ٱلتَّوَابِعَ، فَتَتَنَجَّسُوا بِهِمْ. أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ» (لاويين 19: 31).
«مَتَى دَخَلْتَ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ، لاَ تَتَعَلَّمْ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولٰئِكَ ٱلأُمَمِ. لاَ يُوجَدْ فِيكَ... مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً، وَلاَ عَائِفٌ وَلاَ مُتَفَائِلٌ وَلاَ سَاحِرٌ، وَلاَ مَنْ يَرْقِي رُقْيَةً، وَلاَ مَنْ يَسْأَلُ جَانّاً أَوْ تَابِعَةً، وَلاَ مَنْ يَسْتَشِيرُ ٱلْمَوْتَى. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ» (تثنية 18: 9 - 12).
يقول الله في التوراة التي أوحى بها لموسى النبي أن الالتفات إلى الجن «نجاسة» وأن من يسأل جاناً «مكروه عند الرب».
والقرآن يقرر أن نفراً من الجن مالوا إلى محمد يستمعون القرآن، ومنهم تلقى محمد الكلمات التي ذكرها القرآن:
«مَا ٱتَّخَذَ (الله) صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً» (سورة الجن 72: 3).
ويذكر القرآن في سورة الأنعام:
«بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (سورة الأنعام 6: 101).
إن فهم محمد لأبوة الله للمسيح، لم يكن فهماً على أساس إعلانات الكتاب المقدس الموحى به من الله.. بل تلقى علمه في هذا الأمر الخطير من نفر من الجن.. ومن التفكير الجسدي.. ومن الغناطسة، والآريوسيين، والأبيونيين.. فظن أن بنوة المسيح، وهي بنوة روحية أزلية، ما هي إلا بنوة جسدية لا بد لها من صاحبة.
ومن عجب أنه بعد أن يشهر القرآن حربه ضد الإيمان بأن المسيح هو ابن الله.. فإنه يذكر هذا النص الخطير:
«قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ» (سورة الزخرف 43: 81).
وهذا النص القرآني يعطي للمسلم الحق.. إن ثبت من كلام الله الموحى به في التوراة والانجيل أن المسيح ابن الله.. أن يكون أول العابدين له.. الساجدين عند قدميه..
إن أبوة الله صفة من صفاته الأزلية، ومن أسمائه في التوراة والإنجيل اسم «الآب».. لذا تحتم أن تكون أبوته للمسيح أزلية..
حدثنا الدكتور «ديهان» عن أحد خدام الإنجيل .. كان يتكلم عن لاهوت المسيح.. وإذا بشخص من الحاضرين في الاجتماع يقاطعه ويقول له بصوت عالٍ: أنت لا تستطيع إثبات أن المسيح هو ابن الله الأزلي. إن الآب «أزلي» والآب منطقياً يسبق ابنه في الوجود.. وعلى هذا لا يكون الابن أزلياً كأبيه.. وإذا لم يكن المسيح أزلياً.. فليس هو الله.
ورد خادم الإنجيل على هذا المعترض قائلاً: لقد صدقت يا صديقي في قولك أن «الآب أزلي».. والآن دعني أسألك. كيف يكون الله الآب الأزلي؟ دون أن يكون معه في وحدته الجامعة الابن الأزلي؟ إن أزلية «الأبوّة» في الآب تحتم أزلية وجود «الابن»، إذ لا بد أن يكون للآب الأزلي، ابناً أزلياً.. وإلا ما كان هو الآب الأزلي.. إن الأبوة الأزلية تحتم وجود البنوة الأزلية.
يقول القرآن للمسلم:
«وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ مِنَ ٱلذُّلِّ (أي ولا ولي يواليه المعونة من أجل مذلة يدفعها عنه) وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» (سورة الإسراء 17: 111).
«وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً» (سورة الكهف 18: 4 و5).
«وَقَالُوا ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (منكراً فظيعاً) تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ (يتشققن ويتفتتن من شناعته) وَتَنْشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» (سورة مريم 19: 88 - 92).
هنا يتبلور الخطأ في مفهوم القرآن لمعنى بنوة المسيح..
إن المسيح الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس ليس «ولد» الله بل «ابن الله»..
الله لم يتخذ ولداً.
لأنه لو كان المسيح «ولد الله» لكان الله سابقاً له في الوجود كما يسبق الأب ابنه..
لكن المسيح هو «ابن الله» وتعبير الابن يعني المساواة في الأزلية وفي الذات.
نقرأ في العهد القديم عن «أمصيا» ملك يهوذا أنه: «كَانَ ٱبْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ» (2 ملوك 14: 2).
ونقرأ عن عزريا بن أمصيا أنه «كَانَ ٱبْنَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ» (2 ملوك 15: 2).
ونقرأ عن حزقيا ملك يهوذا أنه «كَانَ ٱبْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ» (2ملوك 18: 2).
وكلمة «ابن» في الآيات السابقة تعني المساواة في الوجود الزمني.
فالملك «أمصياً» كان عمره خمس وعشرين سنة.
والملك «عزريا» كان عمره ستة عشر سنة.
والملك «حزقيا» كان عمره خمس وعشرين سنة.
فكلمة «ابن» هنا لا تعني التبعية في الوجود الزمني بل تعني بالقطع المساواة في الوجود.
الله لم يتخذ لنفسه ولداً في الزمان.. حاشا له.
المرة الوحيدة التي قال فيها الكتاب المقدس في نبوة عن ولادة المسيح «لأنه يولد لنا ولد» ذكرت في سفر إشعياء النبي بالكلمات:
«لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء 9: 6).
والقراءة المدققة لهذه النبوة ترينا أن المتكلم هنا ليس الله الآب وحده.. بل الله الجامع في وحدانيته.. المتكلم في النبوة هو «الثالوث العظيم» لذلك يقول:
«لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً».
فالوليد ليس وليد الآب وحده.. إنه وليد الثالوث.. وهو موجود فيه منذ الأزل.. لكن النبوة تتحدث عن تجسده في الزمان.. الرحمن لم يتخذ ولداً سبحانه.. إن المسيح هو ابنه الأزلي.. لكنه صار «ولداً» حين تجسد بمعنى أنه صار ابناً ذكراً.. ووجود المسيح الأزلي دليل قاطع على حقيقة لاهوته.
اسمعه يخاطب «الآب» في صلاته إليه بعد تجسده فيقول:
«وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 5).
«أَيُّهَا ٱلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 24).
وقد قال المسيح لليهود:
«ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58).
قبل كون العالم.. المسيح كائن.
قبل إنشاء العالم.. المسيح كائن.
قبل أن يكون إبراهيم أبو الأنبياء.. المسيح كائن.
و «الكائن» هو اسم يتفرد به الله تبارك وتعالى.
وتحليل دقيق لنبوة إشعياء يظهر لنا أن الأسماء التي أعطيت لهذا الوليد.. كلها أسماء إلهية لا يمكن أن تُطلق على مجرد إنسان.
فالنبوة تقول عن هذا الوليد:
«ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام».
وهذه كلها أسماء إلهية للإله الجامع في وحدانيته.
فهو وحده الذي اسمه عجيب (قضاة 13: 18).
وهو وحده المشير الذي لا مشير له (رومية 11: 34).
وهو الإله القدير (تكوين 17: 1).
وهو الأب الأبدي (ملاخي 2: 10).
وهو الذي حل بملء لاهوته في المسيح (كولوسي 1: 19).
المسيح مساوٍ للآب في الأزلية.
والآن لنأت إلى مساواته في الذات الإلهية.
بعد أن أبرأ المسيح الرجل الذي كان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة بكلمة منه إذ قال له «قُمِ. ٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ» (يوحنا 5: 8).. وقام الرجل في الحال، وحمل سريره ومشى..
كان ذلك في يوم سبت..
واعتبر اليهود أن شفاء الرجل يوم السبت هو انتهاك لقدسية هذا اليوم المقدس.. وطاردوا المسيح طالبين أن يقتلوه.
«فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى ٱلآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يوحنا 5: 17).
وإذ قال هذا القول كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه «لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ ٱلسَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ ٱللّٰهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِٱللّٰهِ» (يوحنا 5: 18).
لقد فهم اليهود، وهم أهل كتاب، من قول المسيح «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل».. إنه يعادل نفسه بالله. فالبنوية كانت في مفهومهم تعني المساواة بالله.. وهو مفهوم صحيح.
لم تكن هذه آخر مرة أكد فيها المسيح معادلته لله.. ففي يوحنا 10: 30 قال «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ».
ولما قال له فيلبس أحد الحواريين: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ؟ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لٰكِنَّ ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ» (يوحنا 14: 8 - 10).
وفي مناسبة أخرى قال المسيح وهو الصادق الأمين:
«كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلٱبْنَ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلٱبْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلٱبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (متّى 11: 27).
كلمات كهذه لا يمكن أن ينطق بها إنسان.. إن المسيح يعلن بكلماته في وضوح يغني عن أي شرح إن أحداً لا يعرفه في حقيقة لاهوته إلا «الآب».. وأن أحداً لا يعرف «الآب» في لاهوته إلا «الابن» فالعلاقة في الذات الإلهية بين الآب والابن علاقة ليس في مقدور العقل البشري معرفتها... إن الابن وحده هو الذي باستطاعته أن يعلن عن صفات «الآب» لمن يريد.. تماماً كما قال بفمه المبارك:
«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6).
لقد أغلق المسيح الباب أمام كل مدعٍ.. هو وحده الطريق إلى الآب وليس سواه.
ومرة أخرى قال المسيح لسامعيه:
«لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱبْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلٱبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلٱبْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يوحنا 5: 22 و23).
إكرام المسيح ابن الله. .هو إكرام للآب الذي أرسله.. ومن لا يكرم الابن.. لا يكرم الآب الذي أرسله.. كلام خطير يسترعي الانتباه الشديد ويستدعي التفكير.
وحين ذكر القرآن:
«لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (سورة المائدة 5: 17).
أعلن بهذا النص القرآني عدم إكرامه للمسيح ابن الله.. وبالتالي عدم إكرامه للآب الذي أرسله.
الله تبارك اسمه لم يتخذ له ولداً.. فهو غني بذاته عن مخلوقاته.. وتصور اتخاذ الله ولداً، هو تصور لا وجود له في كل معطيات الكتاب المقدس، أو في تعاليم المسيحيّة الكتابية.
وقول القرآن «لَوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لٱصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ» (سورة الزمر 39: 4).
قول يهز الكيان العقلي للإنسان.. لأن أحداً من خلق الله لا يمكن أن يسمو إلى مقام عزته وجلاله حتى يتخذه الله ولداً...
إن علاقة البنوة بين المسيح والله علاقة فريدة لا يمكن أن يرقى إليها الملائكة أو البشر.. فهو ابن الله الوحيد الذي لا مثيل له ولا شبيه.
ونحن هنا نعود إلى الكلمة الموحى بها من الله في كتابه الكريم، ونقبلها بغير قيد ولا شرط، وبغير أن يعترينا من جهتها أي شك. نقرأ في إنجيل يوحنا الكلمات:
«لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).
ويقول يوحنا الرسول:
«بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِينَا: أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ» (1 يوحنا 4: 9).
هذه بنوية فريدة.. من يؤمن بموت المسيح ابن الله على الصليب لن يهلك بل تكون له الحياة الأبدية.. والله الآب قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به.. هذه قضية مصيرية.
«مَنْ لَهُ ٱلٱبْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ» (1يوحنا 5: 12).
كلمات لا يمكن أن يبتدعها بشر.. بل هي وحي إلهي صريح.. ونرى لزاماً علينا أن نذكر هنا الفرق بين بنوية الملائكة، وبنوية البشر، وبنوية المسيح.
- الملائكة أبناء الله بالخلق
هذه حقيقة أكدها سفر أيوب:
«وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو ٱللّٰهِ لِيَمْثُلُوا أَمَامَ ٱلرَّبِّ» (أيوب 1: 6).
وبنو الله في هذه الآية هم الملائكة..
وكاتب الرسالة إلى العبرانيين يقارن بين المسيح والملائكة ويقرر أن أحداً من الملائكة مهما سمت رتبته لا يمكنه أن يرقى إلى عظمة ابن الله.. فيقول:
«لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ؟ وَأَيْضاً: أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً؟ وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ. وَعَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ. وَأَمَّا عَنْ ٱلٱبْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ» (عبرانيين 1: 5 - 8).
هذه الآيات المنيرة تعلن لنا عظمة المسيح وأفضليته عن الملائكة.
- فالله لم يقل حتى لرئيس الملائكة «أنت ابني» فكل الملائكة صنعة يديه.
- والآيات تعلن لنا أن الله أمر الملائكة بالسجود للمسيح حين دخل العالم.
«وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين 1: 6).
لم يأمر الله تبارك اسمه الملائكة بالسجود لآدم يوم خلقه .. فآدم ليس هو الله حتى تسجد له الملائكة.. بل إنّ آدم حين خُلق.. خُلق في درجة أقل من الملائكة كما يقول داود النبي في المزمور:
«فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ! وَتَنْقُصَهُ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ» (مزمور 8: 4 و5).
الملائكة أرواح.. خلقهم الله من نار.
«ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ نَاراً مُلْتَهِبَةً» (مزمور 104: 4).
أما آدم فقد خلقه الله من تراب.. ولم يأمر الله جلّت حكمته الملائكة بالسجود له.. أولاً لأنه حرّم السجود لغيره تحريماً مطلقاً «للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» (مت°ى 4: 10).. وثانياً لأن الأعلى لا يسجد للأدنى.. والإنسان خُلق في درجة أقل من الملائكة.. وثالثاً لأن سجود الملائكة لآدم.. تأليه لآدم.. وتأليه آدم شرك بالله.
ولكن حين دخل المسيح «ابن الله الأزلي» إلى العالم صائراً في شبه الناس، صدر الأمر الإلهي إلى الملائكة «اسجدوا» (مزمور 97: 7) سجد الملائكة لابن الله الأزلي عندما تجسد في الزمان.
إن الملائكة هم أبناء الله بالخلق. وما قاله القرآن عن خلق الملائكة من نار مأخوذ من الكتاب المقدس فالقرآن لم يأت بجديد.
- المؤمنون بالمسيح هم أبناء الله بالتبني
المؤمنون بالمسيح يعطيهم الله امتياز البنوية عندما يقبلون المسيح مخلصاً ورباً كما يقول يوحنا الرسول:
«إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 11 - 13).
ويقول بولس الرسول:
«لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية 3: 26).
وفي كتاب العهد القديم أطلق الله على بني إسرائيل لقب «ابني البكر» فقال لموسى النبي:
«فَتَقُولُ لِفِرْعَوْنَ: هٰكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ٱبْنِي ٱلْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلِقِ ٱبْنِي لِيَعْبُدَنِي، فَأَبَيْتَ أَنْ تُطْلِقَهُ. هَا أَنَا أَقْتُلُ ٱبْنَكَ ٱلْبِكْرَ» (خروج 4: 22 و23).
وجدير بالملاحظة أن نقول أن كل علاقات البنوية المذكورة هنا - سواء بنوية الملائكة، أو المؤمنين بالمسيح، أو بني إسرائيل.. لا علاقة لها بالتناسل الجسدي، بل هي تعبير عن علاقة خاصة بمن تذكرهم.
فالبنوية حين ترتبط بالملائكة تعني أنهم خليقة الله وصنعة يديه. وحين ترتبط بالمؤمنين بالمسيح تعلن عن مركزهم الجديد في المسيح.
وحين ارتبطت بإسرائيل أعلنت أن بني إسرائيل هو أول شعب اختاره الله وأفرزه للشهادة له.. كما أعلنت عن أفضلية هذا الشعب على العالمين لأن المسيح ابن الله كان سيأتي منهم.
أما بنوية المسيح فهي فريدة.. لأنها أزلية ولا مثيل لها.
لقد غابت عن محمد هذه الحقائق الأربع بمفهومها الصحيح.
- حقيقة قداسة الذات الإلهية وبغض الله التام للمعصية والخطية، وقدرته وحده للتكفير عن السيئات التي اقترفتها البشرية.
- حقيقة كمال الصفات الربانية.
حقيقة الفهم الصحيح لفساد الطبيعة الإنسانية ووراثة الخطية.
- حقيقة تجسد الله في المسيح في شخصية إنسانية لفداء البشرية.
ونتيجة لجهله بهذه الحقائق الجوهرية وقع محمد في خطأ جسيم إذ أنكر وحدانية الله الجامعة، ولم يستطع إدراك كمال الحق الإلهي.
القرآن الذي حارب بعنف تجسّد الله في المسيح.. والذي يقرر أن الذين يؤمنون بأن المسيح هو ابن الله، هم كفرة.. قاتلهم الله.. هذا القرآن عينه جسّد الله.
1 - أعطى القرآن لله وجهاً
«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ» (سورة الرحمن 55: 26 و27).
«وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (سورة القصص 28: 88).
2 - وأعطى القرآن لله يدين
«وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...» (سورة المائدة 5: 64).
3 - وأعطى القرآن لله عينين
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ» (سورة المؤمنون 23: 23 و26 و27 و28).
4 - وأعطى القرآن لله كلاماً وصوتاً
«...وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً» (سورة النساء 4: 164).
«..فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُّوٌ مُبِينٌ» (سورة الأعراف 7: 22).
5 - وصور القرآن الله كاتباً في الألواح التي أعطاها لموسى النبي:
«قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ» (سورة الأعراف 7: 144 و145).
6 - ومع كل ما تقدم نقرأ نصاً قرآنياً شبه نور الله بمشكاة فيها مصباح. وهذا إقرار صريح بحلول النور الإلهي فيما يُرى. يقول النص القرآني:
«ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلّزُجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ...» (سورة النور 24: 35).
إن هذا النص القرآني فيه من التصوير اللغوي والأسلوب البلاغي الشيء الكثير.. لكنه يحوي إعلاناً جديراً بالاعتبار. فالنص يقرر أن الله نور السموات والأرض.. والله ونوره لا ينفصلان.. فنور الله صادر من الله.. ومن أسماء الله الحسنى اسم «النور». والنص يُشبِّه نور الله بمشكاة فيها مصباح.. والمشكاة هي الكوة غير النافذة، أو بمعنى آخر النافذة المسدودة من جهتها المطلة على الخارج وهي تستخدم في بعض بيوت الريف لوضع أشياء فيها.. والمعنى مثل نوره كشباك مسدود من الخارج فيه مصباح.. فنوره بهذا المعنى مخفي وراء الكوة المسدودة. ولندع «محمد فريد وجدي» يفسر لنا هذا النص القرآني فيقول:
«الله نور السموات والأرض لا يرى شيء فيها إلا به، صفة نوره ككوة فيها مصباح، المصباح في قنديل من الزجاج، والمصباح هو الفتيلة المشتعلة.. القنديل كأنه كوكب مصنوع من جوهر الدر، يتوقد من زيت شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يرشد الله لتلمّس نوره هذا من يشاء من عباده» (المصحف المفسر صفحة 463).
هكذا جسّد القرآن نور الله.. فوضعه في مصباح، وأخفاه عن الناظرين لأن المصباح في نافذة مسدودة من جهتها الخارجية.. وجعل نوره مستمداً من زيت ينبع من زيتونة «مصباح.. يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية» وقرر أن زيت هذه الزيتونة يكاد يضيء ولم تمسسه نار.. نور على نور..
ومع كل ما ذكرنا:
صوّر القرآن الله جالساً على عرش
«إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَى عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ...» (سورة يونس 10: 3).
والآن هب أنك سألت مسلماً:
ما هو تصورك عن الله وقد أعطاه القرآن وجهاً.. ويدين.. وعينين.. وكلاماً.. وصوتاً.. وصوّره كاتباً لموسى على الألواح.. وشبه نوره بمشكاة فيها مصباح.. وأجلسه على العرش العظيم؟!
إن الإنسان ليس في قدرته أن يتصور ما هو أعلى منه .. إن تصوره لا يعلو عن حدود عقله.. ولذا فسيكون جواب المسلم بعد أن رأى تجسيد الله في القرآن.. إني أتصور الله كما جسّده القرآن بلغة المجاز إنساناً كاملاً.. تحجب إنسانيته نوره الإلهي الوهاج. لقد ذكر القرآن صفات «الله» في الكثير من نصوصه فنسب إليه الحب، والتحسر، والنسيان، والمكر، والخداع.. وهذه كلها انفعالات نفسانية.
1 - ذكر القرآن أن الله يحب
«وَاَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَاَحْسِنُوا إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ» (سورة البقرة 2: 195).
«بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَٱتَّقَى فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ» (سورة آل عمران 3: 76).
2 - وذكر القرآن أن الله تحسر
«يَا حَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» (سورة يس 36: 30).
«وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ» (سورة الحاقة 69: 49 و50).
3 - وذكر القرآن أن الله ينسى
«الْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة التوبة 9: 67).
«فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (سورة السجدة 32: 14).
4 - وذكر القرآن أن الله يمكر
«وَمَكَرُوا وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ» (سورة آل عمران 3: 54) (اقرأ أيضاً سورة الأنفال 8: 30).
«وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ» (سورة النمل 27: 50).
5 - وذكر القرآن أن الله يخدع
«إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى ٱلصَّلاَة قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً» (سورة النساء 4: 142).
لقد جسّد القرآن الله.. وكان لا بد من هذا التجسيد لكي يعطي صورة مفهومة لله الذي هو ملء السموات والأرض.. والذي لكي يفهمه الناس ويدركوا بعضاً من صفاته لا بد أن يتجسد.. وهكذا ألقى القرآن عليه تبارك اسمه من أعضاء الجسد ما يجعله قريباً إلى الأفهام...
أما المسيحيّة فقد أعلنت في كتابها الموحى به من الله.. أن الله تجسد في المسيح.. وأن المسيح وهو «كلمة الله» ليس بمعنى أنه وُجد بكلمة «كن» بلا آب «فكان».. بل بمعنى أنه وهو الكلمة الأزلي تجسد في الزمان آخذاً صورة الإنسان ليفدي الإنسان.
نقرأ في غرّة إنجيل يوحنا الكلمات:
«فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 1 و14).
ويقول بولس الرسول:
«وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ» (2 كورنثوس 5: 18 و19).
القرآن يحارب بشدة عقيدة تجسد الله في المسيح.. وهو في حربه وقع في تناقض ظاهر...
يقول القرآن في سورة آل عمران:
«إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة آل عمران 3: 59).
لكن القرآن قرر في نص قرآني واضح أن الله عندما خلق «آدم» لم يقل له كن فكان، بل نفخ فيه من روحه:
«إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» (سورة ص 38: 71 و72).
لم يقل الله لآدم يوم خلقه «كن فكان» بنص القرآن.. بل نفخ فيه من روحه، وبهذه النفخة الإلهية ميز الله الإنسان عن الحيوان.
فالنص القرآني القائل: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» نجد فيه اختلافاً كثيراً عن الصورة الحقيقية التي خلق الله بها الإنسان وذكرها القرآن. وفي رأينا أنه نص نسخته وأزالته النصوص القرآنية الأخرى. ذلك لأن هذا النص يختلف عن النصوص القرآنية الأخرى التي تذكر معجزة ولادة المسيح من مريم العذراء...
فلكي يولد المسيح في صورة إنسان اصطفى الله مريم العذراء وطهرها على نساء العالمين بنص القرآن:
«وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ ٱلْعَالَمِينَ» (سورة آل عمران 3: 42).
ويخطر ببالنا سؤال خطير: لماذا يختار الله مريم ويطهرها ويصطفيها على نساء العالمين إذا كان وليدها المسيح مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان؟
ويعود القرآن فيقرر في سورتين من سوره أن ولادة المسيح كانت فريدة ولا مثيل لها فيقول:
«وَٱلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ» (سورة الأنبياء 21: 91).
«وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ (من القوم المطيعين)» (سورة التحريم 66: 12).
أين نجد بين الخلق أجمعين شخصاً وُلد بهذه الكيفية المعجزية الفريدة؟
النص القرآني يؤكد أن مريم العذراء «أحصنت فرجها».. كانت فاضلة وطاهرة.. آمنت بكلمات ربها وكتبه.. آمنت بأن ما قاله لها جبرائيل الملاك بأنها ستلد ولداً دون أن يمسسها بشر.. سيتم.. وآمنت بأسفار الكتاب المقدس التي حفلت بالنبوات عن ميلاد المسيح ولا سيما ميلاده من عذراء.
«وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» (إشعياء 7: 14).
ويقرر القرآن أن الله جلَّ اسمه نفخ في مريم من روحه.. بل ويقول أكثر من هذا «وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا» (سورة التحريم 66: 12).
ونسأل: لماذا هذه النفخة من الله ذاته تبارك وتعالى؟ لماذا هذا الامتياز الفريد الذي اختص به الله ولادة المسيح. نصوص القرآن في سور آل عمران، والأنبياء، والتحريم تخلو تماماً من كلمة «كن».
لم يولد المسيح من مريم العذراء بكلمة «كن».. بل قال الله في القرآن:
«نفخنا فيها من روحنا»
«مريم.. أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا».
وهو أمر عجز علماء المسلمين عن تفسير كيفيته.. وهو بالقطع يحدث في العقل دواراً.
إنه فوق تصور الإنسان.. لكنه ينفي نفياً قاطعاً أن المسيح وُلد بكلمة «كن» «فكان».
الأمر كله يتلخص في إصرار محمد على إنكار حقيقة تجسد الله في المسيح.. وبينما يجسد القرآن نور الله في مشكاة فيها مصباح.. ينكر تجسده الصحيح في شخص المسيح. ذاك المسيح القدوس.. المعصوم عن الخطأ.. والذي وُلد بغير خطية.. قال عن نفسه وهو الصادق الأمين:
«أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12).
إن الله تعالت قدرته.. لم يُجسِّد نوره في مشكاة فيها مصباح.. بل تجسد بنوره الإلهي الوضاح في شخص المسيح.
قلنا في فصل سابق أن الله سر الأسرار، وأنه لا يخضع بحال من الأحوال لمقاييس البشر.. فالله تبارك وتعالى فوق مقاييس المسافات، والأوزان، والمخابير المعملية.. إنه فوق الكم والكيف، لا يحده زمان ولا مكان.. يعجز العلم بكل ما وصل إليه عن إدراك حقيقة ذاته.
كيف نعرف الله وليس في مقدورنا كبشر أن نعرفه بمقاييسنا العلمية أو العقلية؟
الجواب الصحيح هو أن الله تسامت حكمته عرَّفنا بذاته وصفاته في إعلانه عن نفسه في كلمته.. وبدون إعلانه عن ذاته ما عرفناه.
وكلمة الله هي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، والذي ثبت بالدليل العلمي، والدليل النبوي، والدليل التاريخي، والدليل الأثري، والدليل الاختباري.. إنه بكل يقين كلام الله الموحى به بالروح القدس لأنبيائه.
في هذا الكتاب الذي تؤكد وحدته العجيبة، أن الموحي به واحد، وهو الله.. فقد كتبه أربعون كاتباً على مدى ألف وخمسمئة سنة، ومع ذلك فوحدته تثير العجب وتؤكد حقيقة وحيه.
في هذا الكتاب المقدس أعلن الله عن وحدانيته الجامعة، فهو إله واحد في ثالوث عظيم.. وسنبدأ أولاً بذكر إعلانات الله تبارك اسمه عن ذاته في التوراة وأسفار العهد القديم.. واضعين نصب أعيننا أن الله أعلم بما يدل على ذاته وآثاره وصفاته، وإن علينا أن نؤمن بما أعلنه عن ذاته في كلمته.
وأول إعلان: عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء في غرّة سفر التكوين:
فهناك نقرأ الكلمات: «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (تكوين 1: 1)، وفي الأصل العبري جاءت كلمة «خلق» بالمفرد، بينما ورد اسم «الله» بالجمع، إذ تقول الآية في الأصل العبري «في البدء خلق إلوهيم السموات والأرض» وكلمة «إلوهيم» هي جمع للاسم العبري «إلوه» أي إله. وتؤكّد الصيغة اللفظية للآية «وحدانية الله في ثالوث عظيم» هذا واضح من كلمة «خلق» التي تؤكد «الوحدانية» و «إلوهيم» التي تؤكد وجود الثالوث في هذه الوحدانية.
الإعلان الثاني: عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء يوم خلق الله الإنسان:
بعد أن أعد الله الأرض للسكنى، فأنبت فيها النبات، وخلق الحيوان، حان وقت خلقه للإنسان فقال جلّ شأنه: «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين 1: 26)، وأمام ألفاظ هذه الصيغة يدور في الذهن أكثر من سؤال: مع من كان الله يتحدث حين قال «نعمل»؟
وهل هناك من يعادله حتى يستشيره فيمَ يعمل، وهو المكتوب عنه «من صار له مشيراً» (رومية 11: 34)؟!
وكيف يمكن أن يكون الإنسان على صورة الله وشبهه، والله لا شبيه له كما قال إشعياء النبي: «فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ ٱللّٰهَ، وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟» (إشعياء 40: 18).
وما دلالة «النون» في «نعمل» و «نا» في «صورتنا» وفي «كشبهنا»؟
وكيف يمكن أن يكون الإنسان جسداً، ويكون في ذات الوقت على صورة الله مع أننا نقرأ أن «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 4: 24)؟!
ولا يمكننا أن نجد إجابة شافية عن هذه الأسئلة إلاّ إذا وضحت أمامنا حقيقة «وحدانية الله الجامعة» ففيها نرى الآب والابن والروح القدس في حديث واحد يبدو في كلمة «نعمل»، ونرى الثالوث العظيم يقرر الصورة التي سيخلق عليها الإنسان، وهي ذات الصورة التي كان المسيح سيأتي بها متجسداً، ولقد قيل عن المسيح «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ» (كولوسي 1: 15). وقيل أيضاً: «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُوماً، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي ٱلْهَالِكِينَ، ٱلَّذِينَ فِيهِمْ إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ» (2 كورنثوس 4: 3 و4). وعلى هذا يكون الإنسان قد خلق على صورة الله باعتبار أن المسيح هو صورة الله غير المنظور، وهو في ذات الوقت «الله الابن» الذي تجسد في ملء الزمان.
وقد يقول قائل: إن ألفاظ هذه الصيغة لا تعني أكثر من أن الله استخدم «لغة التعظيم» فتكلم كما يتكلم الملك فيقول: «نحن.. ملك» لكن القائل بهذا القول يعلن عن جهله بالتاريخ القديم، فالتاريخ القديم يؤكد لنا أنه لم يكن للملوك عادة التكلم بلغة الجمع أي بلغة التعظيم. ففرعون ملك مصر إذ تحدث إلى يوسف قال له «قَدْ جَعَلْتُكَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ» (تكوين 41: 41)، ولم يقل قد جعلناك على كل أرض مصر. وفي سفر دانيال نقرأ حديث الملك نبوخذ نصر، وقد كان ملكاً جباراً يتمتّع بكل جبروت الحكم الأوتوقراطي، ومع ذلك فهو لم يستعمل لغة التعظيم عندما تكلم عن نفسه بل تحدث إلى الكلدانيين قائلاً «قَدْ خَرَجَ مِنِّي ٱلْقَوْلُ: إِنْ لَمْ تُنْبِئُونِي بِٱلْحُلْمِ وَبِتَعْبِيرِهِ تُصَيَّرُونَ إِرْباً إِرْباً» (دانيال 2: 5)، ولم يقل الملك العظيم: «قد خرج منا القول» فلغة التعظيم ليست هي لغة الكتاب المقدس، ولا كانت لغة تعظيم الملوك في القديم، فالقول بأن الله استخدم في هذه الآية أو غيرها لغة التعظيم مردود من واقع الكتاب المقدس والتاريخ القديم.
الإعلان الثالث: عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء يوم سقط الإنسان:
بعد أن سقط آدم وحواء بعصيانهما الله بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر نقرأ الكلمات: «وَقَالَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ: هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفاً ٱلْخَيْرَ وَٱلشَّرَّ» (تكوين 3: 22). وهنا تظهر الوحدانية في ثالوث إذ تؤكد الكلمات: «وقال الرب الإله» وحدانية الله، وتعلن الكلمات: «قد صار كواحد منا» «الثالوث في الوحدانية» وإلاّ فما معنى قول الله: «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا»؟ ومع من كان الله يتحدث بهذا الحديث؟
الإعلان الرابع: عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء يوم بدأ الناس في بناء برج بابل:
يرينا سفر التكوين صورة للبشرية بعد الطوفان تتحدث بلسان واحد ولغة واحدة، وتفكر في الاستقلال عن إله السماء، وتعلن التمرد على أمره الإلهي: «أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ» (تكوين 9: 1). وعن هذا نقرأ الكلمات: «وَقَالُوا: هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجاً رَأْسُهُ بِٱلسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا ٱسْماً لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ. فَنَزَلَ ٱلرَّبُّ لِيَنْظُرَ ٱلْمَدِينَةَ وَٱلْبُرْجَ ٱللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. وَقَالَ ٱلرَّبُّ: هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهٰذَا ٱبْتِدَاؤُهُمْ بِٱلْعَمَلِ. وَٱلآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ» (تكوين 11: 4 - 7).
هنا أيضاً نجد «الوحدانية في ثالوث» فالوحدانية تظهر في الكلمات «وقال الرب» والثالوث يظهر في الكلمات «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم». ونكرر السؤال مع من كان الله يتكلم إذا لم يكن جامعاً في وحدانيته؟
الإعلان الخامس: عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء في قصة بلعام وبالاق:
فبعد أن بنى «بالاق» «لبلعام» سبعة مذابح وهيأ له سبعة ثيران وسبعة كباش نقرأ الكلمات «فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ: قِفْ عِنْدَ مُحْرَقَتِكَ، فَأَنْطَلِقَ أَنَا لَعَلَّ ٱلرَّبَّ يُوافِي لِلِقَائِي، فَمَهْمَا أَرَانِي أُخْبِرْكَ بِهِ. ثُمَّ ٱنْطَلَقَ إِلَى رَابِيَةٍ. فَوَافَى ٱللّٰهُ بَلْعَامَ» (عدد 23: 3 و4).
ولم يلعن بلعام بني إسرائيل كما أراد بالاق بل باركهم، وهنا نقرأ الكلمات: «فَقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: مَاذَا فَعَلْتَ بِي؟ لِتَشْتِمَ أَعْدَائِي أَخَذْتُكَ، وَهُوَذَا أَنْتَ قَدْ بَارَكْتَهُمْ. فَأَجَابَ: أَمَا ٱلَّذِي يَضَعُهُ ٱلرَّبُّ فِي فَمِي أَحْتَرِصُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ بَالاَقُ: هَلُمَّ مَعِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ تَرَاهُ مِنْهُ. إِنَّمَا تَرَى أَقْصَاءَهُ فَقَطْ، وَكُلَّهُ لاَ تَرَى. فَٱلْعَنْهُ لِي مِنْ هُنَاكَ. فَأَخَذَهُ إِلَى حَقْلِ صُوفِيمَ إِلَى رَأْسِ ٱلْفِسْجَةِ، وَبَنَى سَبْعَةَ مَذَابِحَ وَأَصْعَدَ ثَوْراً وَكَبْشاً عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ. فَقَالَ لِبَالاَقَ: قِفْ هُنَا عِنْدَ مُحْرَقَتِكَ وَأَنَا أُوافِي هُنَاكَ. فَوَافَى ٱلرَّبُّ بَلْعَامَ وَوَضَعَ كَلاَماً فِي فَمِهِ وَقَالَ: ٱرْجِعْ إِلَى بَالاَقَ وَتَكَلَّمْ هٰكَذَا» (عدد 23: 11 - 16).
وفي هذه المرة الثانية لم يلعن بلعام الشعب وتضايق بالاق «فَقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: لاَ تَلْعَنْهُ لَعْنَةً وَلاَ تُبَارِكْهُ بَرَكَةً... فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ: ٱبْنِ لِي هٰهُنَا سَبْعَةَ مَذَابِحَ وَهَيِّئْ لِي هٰهُنَا سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ. فَفَعَلَ بَالاَقُ كَمَا قَالَ بَلْعَامُ، وَأَصْعَدَ ثَوْراً وَكَبْشاً عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ... وَرَفَعَ بَلْعَامُ عَيْنَيْهِ وَرَأَى إِسْرَائِيلَ حَالاًّ حَسَبَ أَسْبَاطِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ ٱللّٰهِ» (عدد 23: 25 - 30 و24: 2).
ويثبت النص الإلهي ثلاث تسميات للإله الواحد جاءت في هذه العبارات:
«فَوَافَى ٱللّٰهُ بَلْعَامَ» (عدد 23: 4).
«فَوَافَى ٱلرَّبُّ بَلْعَامَ» (عدد 23: 16).
«فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ ٱللّٰهِ» (عدد 24: 2).
ويسأل المرء أمام هذا الوضوح: ما معنى هذه التسميات الثلاث للإله الواحد؟ أليس الله هو الرب وهو روح الله؟
ونجيب أن النص يُظهر الثالوث بصورة أكيدة، ونحن نرى فيه - في نور العهد الجديد - أن «الله هو «الآب» وأن «الرب» هو «المسيح»، وأن «روح الله» هو «الروح القدس»، وهكذا يظهر الله في وحدانيته الجامعة في هذه القصة من سفر العدد.
الإعلان السادس: عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء في سفر إشعياء:
وأول إعلان جاء في هذا السفر نراه في رؤيا إشعياء المجيدة، التي رأى فيها السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع واعترف أمام قداسة الله بنجاسة شفتيه، ونرى واحداً من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، قد جاء ومس بها فم إشعياء وقال: «إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَٱنْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ» (إشعياء 6: 7)، وبعد أن تطهر إشعياء من خطيته، وأصبح إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد سجل هذه الكلمات المنيرة:
«ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ ٱلسَّيِّدِ: مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» (إشعياء 6: 8).
ويرى القارئ أن «وحدانية الله» تظهر في كلماته التي جاءت بصيغة المفرد «من أرسل»، وأن ثالوثه العظيم يظهر في صيغة الجمع «من يذهب من أجلنا»؟
الإعلان السابع: عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء مرة ثانية وبصورة باهرة في سفر إشعياء:
وهذا كلام الله في هذه الآيات الباهرات:
«اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ. وَإِسْرَائِيلُ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُ. أَنَا هُوَ. أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ، وَيَدِي أَسَّسَتِ ٱلأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. أَنَا أَدْعُوهُنَّ فَيَقِفْنَ مَعاً. اِجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ وَٱسْمَعُوا. مَنْ مِنْهُمْ أَخْبَرَ بِهَذِهِ؟ قَدْ أَحَبَّهُ ٱلرَّبُّ. يَصْنَعُ مَسَرَّتَهُ بِبَابِلَ، وَيَكُونُ ذِرَاعُهُ عَلَى ٱلْكِلْدَانِيِّينَ. أَنَا أَنَا تَكَلَّمْتُ وَدَعَوْتُهُ. أَتَيْتُ بِهِ فَيَنْجَحُ طَرِيقُهُ. تَقَدَّمُوا إِلَيَّ. ٱسْمَعُوا هَذَا. لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ فِي ٱلْخَفَاءِ. مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ، وَٱلآنَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ» (إشعياء 48: 12 - 16).
عجيب هذا الإعلان الإلهي عن «وحدانية الله الجامعة» ففيه نجد الخالق يتكلم قائلاً:
«أنا هو. أنا الأول وأنا الآخر. ويدي أسست الأرض ويميني نشرت السموات».
وهذه الكلمات تنطبق تماماً على الرب يسوع المسيح الذي قال عنه يوحنا الرسول «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا 1: 3).
وقال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين:
«وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ» (عبرانيين 1: 10).
فالمسيح هو الخالق الذي يده أسست الأرض ويمينه نشرت السموات.
ثم يقول هذا الخالق العظيم «أنا هو» وهي ذات الكلمات الذي قالها المسيح لليهود «إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ... مَتَى رَفَعْتُمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهٰذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي ٱلآبُ وَحْدِي، لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ» (يوحنا 8: 24 و28 و29).
ويتابع هذا الخالق العظيم حديثه قائلاً: «أنا الأول وأنا الآخر» وهي ذات الكلمات التي قالها المسيح ليوحنا الرسول في جزيرة بطمس «أَنَا هُوَ ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ. ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤيا 1: 11).
ثم يقول منذ وجوده: «أنا هناك» وهذا دليل ساطع على أزلية المسيح، الذي عندما سأله اليهود «ليس لك خمسون سنة بعد. أفرأيت إبراهيم؟» أجابهم قائلاً: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يوحنا 8: 57 و58). وعبارة «أنا كائن» تؤكد أزليته.
وأخيراً يتكلم هذا الخالق الأزلي قائلاً: «والآن السيد الرب أرسلني وروحه» ومن يكون السيد الرب الذي ارسله؟
إنه يتحدث عن الله الآب كما قال في إنجيل يوحنا «لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَٱلآبُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي»(يوحنا 8: 16).
وعن من يقول «وروحه» إنه يقيناً يتحدث عن الروح القدس الذي اشترك في إرسالية المسيح كما نقرأ في سفر إشعياء: «رُوحُ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي ٱلْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِٱلْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ» (إشعياء 61: 1 و2). وقد أكد الرب أن هذه الكلمات تمت في شخصه حين جاء إلى العالم ولذا نقرأ في إنجيل لوقا: «وَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ ٱلسِّفْرَ وَجَدَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ... فَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ ٱلْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (لوقا 4: 16 - 21).
في هذ النص يظهر الثالوث العظيم في وضوح وجلاء فنرى:
الآب مرسلاً للابن لإتمام مقاصده.
الابن متكلماً عن إرسال الآب والروح القدس له.
الروح القدس مشتركاً في هذه الإرسالية العظمى.
وقد ذكر كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن المسيح قدم نفسه لله بالروح القدس فقال:
«فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ!» (عبرانيين 9: 14).
والآية الكتابية تؤكد أزلية الروح القدس إذ تذكر أنه «روح أزلي».
الإعلان الثامن: عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء في سفر المزامير:
قرر القرآن أن سفر المزامير وهو الذي يسميه القرآن «الزبور» موحى به من الله.
«... وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً» (سورة النساء 4: 163).
«وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ» (سورة الأنبياء 21: 105).
والنص القرآني يشير إلى ما جاء في مزمور 37:
«أَمَّا ٱلْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ ٱلأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ ٱلسَّلاَمَةِ» (مزمور 37: 11).
سفر المزامير وهو من أسفار العهد القديم.. وما زال كما هو بين يدي اليهود بغير عبث أو تحريف.. تماماً كما كان في أيام محمد.. يعلن هذا السفر الجليل بكلمات صريحة لا تحتاج إلى تأويل وحدانية الله الجامعة فيقول:
«لِمَاذَا ٱرْتَجَّتِ ٱلأُمَمُ وَتَفَكَّرَ ٱلشُّعُوبُ فِي ٱلْبَاطِلِ؟ قَامَ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ وَتَآمَرَ ٱلرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى ٱلرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ، قَائِلِينَ: لِنَقْطَعْ قُيُودَهُمَا، وَلْنَطْرَحْ عَنَّا رُبُطَهُمَا»...
«إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ ٱلرَّبِّ. قَالَ لِي: أَنْتَ ٱبْنِي. أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ ٱلأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ ٱلأَرْضِ مُلْكاً لَكَ. تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ خَّزَافٍ تُكَسِّرُهُمْ»...
«فَٱلآنَ يَا أَيُّهَا ٱلْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ ٱلأَرْضِ. ٱعْبُدُوا ٱلرَّبَّ بِخَوْفٍ وَٱهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا ٱلٱبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ ٱلطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ» (مزمور 2: 1 - 3 و7 - 12).
هذا المزمور كان وما زال في سفر المزامير، وهو كما قلنا موجود في كتاب العهد القديم.. وفي كتاب العهد القديم نقرأ الكلمات:
«اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية 6: 4).
ومع هذا التوكيد لوحدانية الله.. يسجل العهد القديم هذا المزمور.. فيصور لنا تفكير الشعوب في الباطل، وتآمرهم على الرب (الآب) وعلى مسيحه (يسوع المسيح).. ليتحرروا من قيودهما وربطهما.
ثم يعلن المزمور قضاء الرب من جهة ابنه الأزلي يسوع المسيح.. فيقول «إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني» فالمسيح هو ابن الله الأزلي.. والآب يخاطبه بهذا الاعتبار قائلاً له: «أنت ابني».. ثم يقول: «أنا اليوم ولدتك».
وهذه الولادة حدثت في الزمان.. حدثت حين تجسد المسيح من مريم العذراء.. وكان هذا التجسد في خطة الله الأزلية.. كان قضاءً إلهياً...
والقرآن يقرر في سورة مريم أن ميلاد المسيح من عذراء كان قضاء إلهياً.. كان أمراً مقضياً فيقول:
«وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَٱتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً (مطهراً من الخطية). قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً» (سورة مريم 19: 16 و17 و19 و20 و21).
وُلد المسيح من مريم العذراء مطهراً من الخطية، وولادة يسوع المسيح من عذراء كانت أمراً مقضياً.. كانت بقضاء إلهي تماماً كما قال كاتب المزمور: «إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ ٱلرَّبِّ. قَالَ لِي: أَنْتَ ٱبْنِي (منذ الأزل). أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ (في الزمان)» (مزمور 2: 7).
ولادة المسيح من مريم العذراء كانت ولادة معجزية. لا دخل لها في التناسل الطبيعي.. فالتناسل الطبيعي عمل من أعمال الجسد وحاشا لله أن يتناسل، لأن «الله روح» يملأ بلاهوته السموات والأرض ولا يُحد. وبهذا المفهوم يمكن أن نقول عنه تبارك وتعالى ما قاله القرآن في سورة الإخلاص:
«قُلْ هُوَ ٱللهُ أَحَدٌ (أي واحد) ٱللهُ ٱلصَّمَدُ (مقصود كل حي لإمداده بما يحتاجه وجوده وبقاؤه) لَمْ يَلِدُ وَلَمَ يُولَدُ (عن طريق التناسل الجسدي) وَلَمُ يَكُنُ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (أي ليس له مثيل)» (سورة الإخلاص 112).
لكن المسيح سُمِّي «ابن الله» في الكتاب المقدس.. وقال له الله تبارك اسمه في المزمور الثاني وفي أماكن أخرى «أنت ابني» لأن بنويته أزلية في وحدانية الله الجامعة..
ونعود الآن إلى المزمور الثاني لنتأمل كلماته الختامية ومكان المسيح ابن الله فيه:
«فَٱلآنَ يَا أَيُّهَا ٱلْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ ٱلأَرْضِ. ٱعْبُدُوا ٱلرَّبَّ بِخَوْفٍ وَٱهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا ٱلٱبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ ٱلطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ» (مزمور 2: 10 - 12).
هذا نداء صريح من الروح القدس يوجهه إلى الملوك وقضاة الأرض الذين قاموا ليتآمروا على الرب وعلى مسيحه.. أن يتعقلوا.. ويتأدبوا.. ويُقَبِّلوا الابن. وفي القبلة معنى القبول الحبي.. فهو يدعوهم إلى قبول سيادة الابن بحب على حياتهم.. ثم ينذرهم من مغبة غضبه «لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق» ويعلن البركة العظمى للمتكلين على هذا الابن المبارك «طوبى لجميع المتكلين عليه».
وفي سفر رؤيا يوحنا نرى منظر «ابن الله» من الملوك والصعاليك وهم في رعب من غضبه العظيم عند مجيئه الثاني:
«وَمُلُوكُ ٱلأَرْضِ وَٱلْعُظَمَاءُ وَٱلأَغْنِيَاءُ وَٱلأُمَرَاءُ وَٱلأَقْوِيَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرٍّ، أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي ٱلْمَغَايِرِ وَفِي صُخُورِ ٱلْجِبَالِ، وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَٱلصُّخُورِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ ٱلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ ٱلْحَمَلِ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ ٱلْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ٱلْوُقُوفَ؟» (رؤيا 6: 15 - 17).
وتؤكد الصلاة التي رفعها المؤمنون بالمسيح في أورشليم، وسجلها سفر أعمال الرسل أن المزمور الثاني هو نبوة عن المسيح ابن الله تمت جزئياً أيام الكنيسة الأولى وستتم كلياً عندما يأتي المسيح ثانية.
قال المؤمنون في أورشليم في صلاتهم:
«أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ، أَنْتَ هُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلصَّانِعُ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، ٱلْقَائِلُ بِفَمِ دَاوُدَ فَتَاكَ: لِمَاذَا ٱرْتَجَّتِ ٱلأُمَمُ وَتَفَكَّرَ ٱلشُّعُوبُ بِٱلْبَاطِلِ؟ قَامَتْ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ، وَٱجْتَمَعَ ٱلرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى ٱلرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ. لأَنَّهُ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مَسَحْتَهُ، هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ، لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ» (أعمال 4: 24 - 28).
فالمزمور الثاني هو كلام الله ذاته.. أوحى به إلى داود النبي.. وهو يؤكد أن المسيح هو «ابن الله».. ومع أن اليهود لا يؤمنون بالمسيح الذي جاء في ملء الزمان وصُلب على الصليب، إلاّ أن هذا المزمور موجود في كتابهم مما يؤكد تأكيداً قاطعاً أن الكتاب المقدس لم تمتد إليه يد التحريف.
الإعلان التاسع: في العهد القديم عن وحدانية الله في ثالوث عظيم جاء أيضاً في سفر المزامير.
ففي المزمور المئة والعاشر يقول داود النبي:
«قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ» (مزمور 110: 1).
ونقول مكررين أن وجود هذه الآية في هذا المزمور تؤكد تأكيداً باتاً أن الكتاب المقدس لم يحرفه أو يعبث بمحتوياته أحد.. لأنه لو أن اليهود حرفوا العهد القديم لكانت أولى الآيات التي حذفوها هي هذه الآية. فداود النبي، وهو يهودي يؤمن بوحدانية الله، يكتب بوحي الروح القدس فيقول: «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك».
كان داود النبي ملكاً ثيوقراطياً، لا تعلوه سلطة أرضية فعن من يقول «قال الرب لربي» ومن هو ذاك الذي يدعوه داود الملك «ربي»؟
الجواب نجده في حوار المسيح مع الفريسيين:
«وَفِيمَا كَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ: مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ؟ ٱبْنُ مَنْ هُوَ؟ قَالُوا لَهُ: ٱبْنُ دَاوُدَ. قَالَ لَهُمْ: فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِٱلرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ٱبْنَهُ؟» (متّى 22: 41 - 45).
هذه الآيات المضيئة تعلن وحدانية الله الجامعة.. وتقرر أن المسيح ابن الله قد «صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ» (رومية 1: 3) ومع أنه صار من نسل داود، لكنه أصل داود .. لأنه خالق داود... وقد قال المسيح عن نفسه:
«أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ» (رؤيا 22: 16).
ولأنّ المسيح هو ابن الله الأزلي.. يدعوه داود بالروح القدس «ربّي»
«قال الرب» الآب الأزلي
«لربي» الابن الأزلي
والكلام نطق به داود النبي «بالروح الأزلي».
هذه هي إعلانات كتاب العهد القديم عن الله.. لم يبتدعها اليهود أو المسيحيون، بل أوحى بها الروح القدس إلى أنبياء الله..
والمسيحيون يقبلون إعلان الله عن ذاته بكل إيمان ويقين.. ومن يتهم المسيحيين بالشرك جاهل.. لا يعرف المسيحيّة الحقيقية، ولا ما يقوله الكتاب المقدس الكريم - كتاب المسيحيين - عن الله الواحد في ثالوثه العظيم.
ونرى لزاماً علينا ونحن في ختام الحديث عن إعلان الله عن ذاته في العهد القديم أن نذكر هنا كلمتين وردتا باللغة العبرية في كتاب العهد القديم للتعبير عن الوحدة...
الكلمة الأولى هي كلمة «يَحَد» وهي تعني الواحد البحت.
الكلمة الثانية هي كلمة «أحَد» وهي تعني الوحدانية الجامعة.
ففي سفر التكوين نقرأ:
«وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً وَاحِداً» (تكوين 1: 5).
وكلمة «واحداً» المذكورة في الآية هي كلمة «أحَد» وهي تعني أن المساء والصباح وهما متميزان لكنهما يكونان يوماً واحداً.. فكلمة «أحَد» لا تعني هنا الواحد البحت.. بل تعني «الوحدانية الجامعة». وفي سفر التكوين نقرأ أيضاً:
«لِذٰلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تكوين 2: 24).
وكلمة «واحداً» هي هنا أيضاً كلمة «احَد» وهي ترينا بصورة بارزة أنها تعني «وحدانية جامعة».. فالرجل والمرأة متميزان الواحد عن الآخر لكنهما بالزواج يكوّنان وحدة جامعة...
أما الواحد البحت «يحَد» فقد ذكر في سفر التكوين في هذه الكلمات:
«فَقَالَ: خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ» (تكوين 22: 2).
وكلمة وحيدك في العبرية في هذه الآية هي كلمة «يحَد» التي تعني الواحد البحت.. كان اسحق هو الابن الوحيد الذي بقي مع إبراهيم بعد ذهاب إسماعيل.
عندما قال موسى لبني إسرائيل:
«اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية 6: 4).
جاءت كلمة «واحد» في العبرية «أحَد» التي تعني الوحدانية الجامعة..
ولعل القرآن حين ذكر في سورة الإخلاص «قل هو الله أحد» استعار ذات اللفظ العبري «أحَد».. فالأرقام في العربية تبدأ بواحد وليس بأحد.. وقد استعار القرآن لفظ «التوراة» وهي كلمة عبرية.. كما استعار كلمة «الإنجيل» وهي كلمة يونانية، وفي القرآن كلمات كثيرة ليست عربية.
نقولها بكل ثقة ويقين.. إننا معشر المسيحيين الذين نؤمن بوحي الكتاب المقدس إيماناً يقينياً لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه.. نؤمن كذلك إيماناً يقينياً بوحدانية الله الجامعة..
وننقل هنا ما كتبه المستشرق العظيم الدكتور صموئيل زويمر الذي عاش في مصر ردحاً من الزمن، وتعلّم القرآن، وتحدث إلى كثيرين من علماء الأزهر وشيوخ المسلمين.
يقول الدكتور زويمر: «إن الله روح غير محدود. سرمدي دائم الوجود... غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله وحقه.. إنه لا يتجزأ ولا يتقسم ولا يتعدد ولا تحيط به الأكوان.. ويعجز عن إدراك كنه ذاته كل مخلوق وإنسان» (كتاب المسيح كما يراه المسلمون صفحة 90).
هذا هو إيمان المسيحيين الحقيقيين. وضعوه في كلمات واضحة المعاني في «قانون الإيمان» قبل ظهور محمد وظهور الإسلام بمئات السنين. وهذه كلمات قانون الإيمان:
«نؤمن بإله واحد الآب ضابط الكل.. خالق السماء والأرض.. وكل ما يُرى وما لا يُرى.
وبرب واحد يسوع المسيح. ابن الله الوحيد.. المولود من الآب قبل كل الدهور. نور من نور. إله حق من إله حق.. مولود غير مخلوق.. ذو جوهر واحد مع الآب.. هو الذي به كان كل شيء.. الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء.. وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء وصار إنساناً.. وصُلب عنا على عهد بيلاطس البنطي.. وتألم وقُبر وقام أيضاً في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة.. وصعد إلى السماء.. وهو جالس عن يمين الآب.. وسيأتي أيضاً بمجد ليدين الأحياء والأموات. الذي ليس لملكه نهاية..
ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب والابن المسجود له والممجد مع الآب والابن.. الذي تكلم بالأنبياء.
ونؤمن بكنيسة واحدة جامعة رسولية.. ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا.. وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي. آمين».
كتب المسيحيون الأولون «قانون الإيمان» على أساس إعلانات الكتاب المقدس الكريم.. لأنه ليس بين البشر من يستطيع أن يخبرنا بيقين سليم عن من هو الله.. وما هي صفاته وسجاياه سوى الله العلي العظيم.. وقد أعلن الله عن وحدانيته الجامعة لثالوثه العظيم.. متدرجاً في إعلانه عن ذاته بحسب ما رأى في حكمته من استعداد البشر لتقبل هذا الحق الثمين.
وليس أمام الإنسان خيار.. فإما أن يقبل بالإيمان إعلان الله عن ذاته وصفاته.. وإما أن يقع فريسة سهلة لفوضى وتشويش فلسفة الإنسان.
والآن إلى إعلانات الله عن ذاته في أسفار العهد الجديد.
ظهرت إعلانات الله تبارك اسمه عن ذاته في التوراة وأسفار العهد القديم في الآيات التي ذكرناها في الفصل السابق.. وقد تدرج في سامي حكمته في إعلانه عن وحدانيته الجامعة بصورة مستترة.. وسبب ذلك هو أن الشعب الإسرائيلي الذي أعلن الله ذاته لأنبيائه عاش أربعمئة سنة في أرض مصر.. وكانت مصر وقتئذ مسرحاً لعبادة الأصنام.. كثرت تماثيلها وتعددت آلهتها. فلو أن الله جلَّ اسمه أعلن للإسرائيليين الخارجين من مصر عن وحدانيته الجامعة بكلمات صريحة لغلبت الأفكار والعقائد المصرية على تفكيرهم وشوهت الإعلانات الإلهية.. لهذا اقتضت حكمة الله أن يتدرج في إعلانه عن وحدانيته في ثالوثه العظيم بقدر ما رأى في حكمته وعلمه من استعداد البشر لتقبل إعلانه الكامل عن شخصه الكريم.
إن من يدرس الأديان البشرية.. ديانات مصر، وبابل، واليونان، والهند يسترعي انتباهه وجود الثالوث في هذه الأديان.
ففي مصر وجد ثالوث إيزيس، وأوزوريس، وحورس.
وفي بابل وُجد ثالوث براهما، وفشنو، وسيفا.
وفي اليونان علّم أفلاطون الذي عاش 400 سنة قبل الميلاد، بوجود ثالوث افترض فيه وجود العقل السامي على العالم، والعقل المتحرك الذي أخرج إلى الوجود التصور الإلهي، والروح العظيم الذي يحيي العالم ويحركه. وهو بحسب تعليمه جزء أزلي من الله متحد بالمادة...
وهنا يخطر في ذهننا سؤال: من أين جاء البشر بعقيدتهم عن الثالوث؟... وجوابنا: إن وجود الثالوث في الديانات القديمة يؤكد أن له أصل توارثته الأجيال قبل أن تتدهور إلى عبادة الأوثان.. يؤكد أن الإنسان عرف وحدانية الله الجامعة منذ وجوده... ثم بتدهوره وابتعاده عن الله الحي الحقيقي الذي أعلن ذاته لآدم.. ابتدع لنفسه ثالوثاً ليس هو المعلن في كلمة الله وعن هذا يقول بولس الرسول:
«لأَنَّ غَضَبَ ٱللّٰهِ مُعْلَنٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ ٱلنَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَحْجِزُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلإِثْمِ. إِذْ مَعْرِفَةُ ٱللّٰهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ ٱللّٰهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ، لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ ٱلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِٱلْمَصْنُوعَاتِ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَفْنَى، وَٱلطُّيُورِ، وَٱلدَّوَابِّ، وَٱلّزَحَّافَاتِ» (رومية 1: 18 - 23).
من هذه الكلمات المنيرة نرى أن الناس منذ خلق آدم عرفوا الله في وحدانيته الجامعة في ثالوثه العظيم.. ولكنهم في ظلام قلوبهم الغبية، أبدلوا الله الجامع في وحدانيته، بثالوث من ابتداع عقولهم المظلمة.. وهكذا حلَّ الاعتقاد الزائف الرذيل مكان الجوهر الأزلي الأصيل.
وعاد الله يعلن ذاته للبشر.. أعلن وحدانيته الجامعة في ثالوثه العظيم في ألفاظ صريحة في كتاب العهد الجديد.
وأول إعلان: جاء في كتاب العهد الجديد عن وحدانية الله في ثالوثه العظيم جاء في بشارة الملاك جبرائيل لمريم العذراء...
عندما جاء الملاك «جبرائيل» ويسميه القرآن «جبريل» لتبشير مريم العذراء بأن الله اصطفاها من بين نساء العالمين ليولد منها المسيح.. قال جبرائيل لمريم:
«وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (لوقا 1: 31 - 35).
في هذه الآيات الباهرات نجد الثالوث العظيم:
«العلي» هو الله الآب.
«يسوع» ومعناها المخلّص هو «ابن العلي».
الروح القدس بحلوله على مريم العذراء يهيء الجسد للمسيح لعمل الفداء.
«لِذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً» (عبرانيين 10: 5).
هنا لا بد من القول: إنه من غير الممكن للإنسان المحدود أن يصير إلهاً غير محدود... ولكن من الممكن جداً لله غير المحدود أن يتجسد في صورة إنسان ويظل بلاهوته غير محدود.
«لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ» (لوقا 1: 37).
إن الملك في قدرته أن يرتدي ثياب جندي ويظل ملكاً..
وقد أكّد المسيح وجوده في كل مكان بكلمات صريحة فقال:
«وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يوحنا 3: 13).
«لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ» (متّى 18: 20).
«وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متّى 28: 20).
كلمات تنطق بنورها الوهاج بأن المسيح «مطلق الوجود» وهي صفة لا توجد في غير الله.
يذكر القرآن في سورة آل عمران النص التالي:
«إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ» (سورة آل عمران 3: 45).
ويقول في سورة النساء:
«يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ» (سورة النساء 4: 171).
الله جلّ جلاله بشر مريم العذراء بولادة المسيح «إن الله يبشرك».
المسيح هو كلمة من الله «إن الله يبشرك بكلمة منه».
المسيح هو كلمة الله «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم».
المسيح روح من الله «وروح منه».
هذا ما يشهد به القرآن.
ونقرأ عن المسيح في إنجيل يوحنا:
«فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يوحنا 1: 1).
«وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 14).
المسيح كلمة الله.. ولا يمكن أن تحمل الكلمات معنى أن الله قال للمسيح «كن فكان»...
إن نصوص القرآن في سورتي الأنبياء 21: 91، والتحريم 66: 12 تنفي أن الله تبارك اسمه قال للمسيح «كن فكان»..
وعلى هذا الأساس الصريح يكون النص القائل: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة آل عمران 3: 59)، منسوخاً بالنصوص المؤكدة أن الله لم يقل لآدم كن فكان، وبالتالي لم يقل للمسيح كن فكان.. لا سيما أن القرآن يسمح بهذا النسخ في نصوصه إذ يقول في سورة البقرة:
«مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ (أي ما نزل ونرفع من حكم آية) أَوْ نُنْسِهَا (أي نمحها من القلوب) نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (سورة البقرة 2: 106).
المسيح هو «كلمة الله» بشهادة القرآن..
وهنا نذكر ما قاله الإمام «محمد بن أدريس الشافعي» أحد الأئمة الأربعة الكبار في الإسلام.. قال الإمام الشافعي في «قضية خلق القرآن»:.. «كلام الله ليس بمخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر..» ا.هـ.
والمسيح كلمة الله.. وكلام الله ليس بمخلوق فمن قال مخلوق فهو كافر.
ونعود مكررين أنه لا عبرة بما يُقال أن المسيح وجد بكلمة «كن» فقد ثبت من القرآن أن آدم لم يُخلق بكلمة «كن» بل نفخ الله فيه من روحه ولم يقل له كن فكان.
كذلك المسيح لم يوجد بكلمة «كن» «فكان» بل أكدت نصوص القرآن أن الله جلَّ اسمه نفخ في مريم من روحه، فتجسد منها المسيح كلمته.
الإعلان الثاني: في كتاب العهد الجديد عن وحدانية الله في ثالوثه العظيم جاء وقت معمودية المسيح...
وهذا ما نقرأه في إنجيل متّى الرسول:
«فَلَمَّا ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاءِ، وَإِذَا ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ ٱللّٰهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى 3: 16 و17).
في هذا المنظر الرهيب.. والإعلان السماوي المهيب.. أعطى الله الدليل عن وحدانيته الجامعة في ثالوثه العظيم.. هذا الدليل رأته العيون.. ولمسته الأيدي.. وسمعته الآذان.
- أما الدليل الذي رأته العيون:
«وَإِذَا ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ ٱللّٰهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْه».
وقد شهد يوحنا المعمدان بأنه رأى هذا المنظر العظيم فقال:
«إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ٱلرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لٰكِنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِٱلْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: ٱلَّذِي تَرَى ٱلرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهٰذَا هُوَ ٱلَّذِي يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 32 - 34).
يوحنا كان قريباً للمسيح من جهة الجسد.. ولكنه لم يعرفه باعتباره «ابن الله» إلا بعد أن رأى الروح نازلاً ومستقراً عليه.
ويقرر القرآن أن الله أيد المسيح بالروح القدس «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (سورة البقرة 2: 87).
(اقرأ أيضاً سورة البقرة 2: 253 وسورة المائدة 5: 110).
- أما الدليل الذي لمسته الأيدي:
فهو المسيح الصاعد من الماء.
«فَلَمَّا ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاءِ» (متّى 3: 16).
- أما الدليل الذي سمعته الآذان:
فكان صوت الآب شاهداً عن ابنه من السماء.
«وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى 3: 17).
في هذا المنظر العجيب
سمعنا الآب متكلماً من السماء.
ورأينا الابن الحبيب صاعداً من الماء.
ورأينا الروح القدس مستقراً على ابن الله صانع الفداء.
وليس أروع من هذا المنظر لإظهار وحدانية الله الجامعة في ثالوثه العظيم.
الإعلان الثالث: في كتاب العهد الجديد عن وحدانية الله في ثالوثه العظيم جاء في أمر المسيح الكريم:
بعد قيامة المسيح من الأموات .. ظهر لتلاميذه في الكثير من المناسبات لمدة أربعين يوماً.. وقبل صعوده إلى السماء أعطاهم أمره الكريم قائلاً:
«فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متّى 28: 19 و20).
وفي أمر المسيح الكريم ملاحظة جديرة بالاعتبار هي أن المسيح لم يقل في أمره «وعمدوهم بأسماء الآب والابن والروح القدس» بل قال «باسم».. فالله واحد في جوهره ولاهوته، لكننا نجد في وحدانيته الثالوث العظيم «الآب والابن والروح القدس».
الإعلان الرابع: في كتاب العهد الجديد عن وحدانية الله في ثالوثه العظيم جاء على لسان بولس الرسول:
تحدث بولس الرسول إلى المؤمنين في كورنثوس عن المواهب الروحية فقال:
«فَأَنْوَاعُ مَوَاهِبَ مَوْجُودَةٌ وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ وَاحِدٌ. وَأَنْوَاعُ خِدَمٍ مَوْجُودَةٌ وَلٰكِنَّ ٱلرَّبَّ وَاحِدٌ. وَأَنْوَاعُ أَعْمَالٍ مَوْجُودَةٌ وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ، ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (1 كورنثوس 12: 4 - 6).
والآيات ليست في حاجة إلى تفسير فهي تتحدث عن:
الروح القدس: الروح واحد
والرب يسوع: الرب واحد
والله الآب: الله واحد
الإعلان الخامس: في كتاب العهد الجديد عن وحدانية الله في ثالوثه العظيم جاء أيضاً على لسان بولس الرسول في البركة الرسولية:
«نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ» (2 كورنثوس 13: 14).
فالرب يسوع هو مصدر النعمة (يوحنا 1: 16 و17).
والله هو معلن المحبة وساكب المحبة (يوحنا 3: 16 ورومية 5: 8).
والروح القدس هو روح المحبة وغارس المحبة (رومية 5: 5).
الإعلان السادس: في كتاب العهد الجديد عن وحدانية الله في ثالوثه العظيم جاء كذلك على لسان بولس الرسول:
«بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولاً، ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي ٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ٱبْنِهِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ: يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا» (رومية 1: 1 - 4).
والآيات تضيء بلمعان يبهر الأبصار متحدثة عن وحدانية الله الجامعة...
فبولس الرسول يعلن عن عبوديته للمسيح الذي كان قبلاً يضطهد المؤمنين به.. ويعلن بغير تحفظ أن المسيح ربه «يسوع المسيح ربنا».
ويعلن أن الإنجيل.. إنجيل الله.. وأن المسيح هو ابن الله الذي تنبأ عنه الأنبياء «المفرز لإنجيل الله.. الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة عن ابنه».
ويعلن أن المسيح قد أعلن بقيامته بقوة الروح القدس أنه فعلاً وحقاً «ابن الله».
فالآب والابن والروح القدس.. الله الجامع في وحدانيته يظهر بوضوح في هذه الآيات.
الإعلان السابع: في كتاب العهد الجديد عن وحدانية الله في ثالوثه العظيم جاء في سفر رؤيا يوحنا آخر أسفار العهد الجديد:
في هذا السفر النبوي العجيب.. نرى بصورة لا مثيل لها مجد الله الواحد الجامع في وحدانيته ثالوثه العظيم.
«يُوحَنَّا، إِلَى ٱلسَّبْعِ ٱلْكَنَائِسِ ٱلَّتِي فِي أَسِيَّا: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱلْكَائِنِ وَٱلَّذِي كَانَ وَٱلَّذِي يَأْتِي، وَمِنَ ٱلسَّبْعَةِ ٱلأَرْوَاحِ ٱلَّتِي أَمَامَ عَرْشِهِ، وَمِنْ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلشَّاهِدِ ٱلأَمِينِ، ٱلْبِكْرِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ. ٱلَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلّٰهِ أَبِيهِ، لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ» (رؤيا 1: 4 - 6).
في هذه الآيات نرى الثالوث العظيم:
الآب الكائن والذي كان والذي يأتي.
الابن الذي جعل المؤمنين به ملوكاً وكهنة لله أبيه.
والروح القدس - السبعة الأرواح التي أمام عرشه - وهذا هو الروح القدس في وصفه السباعي كما جاء في سفر إشعياء 11: 1 و2.
بعد كل هذه الآيات البينات عن وحدانية الله الجامعة في ثالوثه العظيم.. إذا وضعنا في أذهاننا أن «الله روح» (يوحنا 4: 24) وأنه لا شبيه ولا مثيل له (إشعياء 40: 18).. قبلنا بالإيمان إعلان الله عن ذاته في ثالوثه الكريم... وصدقنا أن «الآب» هو «الله».. وأن «الابن» هو «الله».. وأن «الروح القدس» هو «الله» وأن الثالوث الكريم إله واحد في ذاته وجوهره.
ونحن نقرأ في الكتاب المقدس عن «الآب» أنه الله «والله نفسه أبونا» (1 تسالونيكي 3: 11).
ونقرأ عن «الابن» أنه الله: «واما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور» (عبرانيين 1: 8).
ونقرأ عن «الروح القدس» أنه الله.. قال بطرس لحنانيا الذي كذب عليه:
«لَماذَا مَلأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ... أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ» (أعمال 5: 3 و4).
والكتاب المقدس يعلن أن كل واحد في الثالوث متميز عن الآخر.. دون انفصال لأحدهم عن الآخر.. وهو أمر يتفرد به الله الواحد الذي لا مثيل ولا شبيه له.
ونسجل هنا ما كتبه الدكتور بوردمان وهو يشرح تعليم الكتاب المقدس عن «الثالوث الإلهي العظيم».. قال الدكتور «بوردمان»:
«إن الآب» هو ملء اللاهوت غير المنظور «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يوحنا 1: 18).. و «الابن» هو ملء اللاهوت متجسداً «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» (يوحنا 1: 14) «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي 2: 9).. و «الروح القدس» هو ملء اللاهوت عاملاً في حياة البشر «وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ» (يوحنا 16: 8). «وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ» (يوحنا 16: 13).
هذه هي إعلانات الله عن ذاته في الكتاب المقدس.. ولا طريق لمعرفة الله الحي الحقيقي إلا بإعلانه عن ذاته في كلمته.. وقد قبل المسيحيون إعلانات الله كما أعطاها لهم.. وآمنوا بوحدانيته الجامعة.. فباركهم الله وأنار لهم وبهم شتى دوائر الحياة.
يقول القرآن في أكثر من سورة أن لله الأسماء الحسنى.. بمعنى أن لله أحسن الأسماء الدالة على أحسن المعاني.. وإليك نصوص القرآن:
«ٱللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَى» (سورة طه 20: 8).
«وَلِلَّهِ ٱلأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَى فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا (واتركوا) ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ (أي يحيدون) فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (سورة الأعراف 7: 180).
«قُلِ ٱدْعُوا ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُوا ٱلرَّحْمَانَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ ٱلأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا (لا تهمس بها حتى لا تُسمع) وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً» (سورة الإسراء 17: 110).
وأسماء الله الحسنى منها ما يُطلق على الله مفرداً أو مع غيره وهو ما تضمن صفة الكمال كالحي القيوم.. الأحد.. الصمد.. ومنها ما لا يُطلق على الله إلا مع مقابله وهو ما إذا قيل وحده نسب لله نقصاً كالضار النافع.. والخافض الرافع.. والمعطي المانع.. والمعزّ المذلّ.. فلا يجوز إطلاق الضار، أوالخافض، أو المانع، أو المذل وحده.. ومنها ما هو مشتق من نصوص القرآن، ومن ذلك اسمه تعالى «المنتقم» فهذا الاسم لم يُطلق في القرآن إلا مرتبطاً بفعله كقوله:
«.. إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» (سورة السجدة 32: 22).
«.. وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ» (سورةالمائدة 5: 95).
وأسماء الله الحسنى تعلن عن صفاته الذاتية أو صفات أفعاله.. وقد قال محمد نبي الإسلام في الصحيح «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة».
وهناك أسماء أخرى أطلقت على الله في القرآن، وأفعالاً نسبت إليه تبارك اسمه.
نذكر منها:
«وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا (متنعميها) فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» (سورة الإسراء 17: 16).
ويهز كياننا أن نقرأ أن الله يأمر بالفسق.
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ» (سورة إبراهيم 14: 4).
وما يعنينا هنا هو أن نذكر أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، وعدد مرات ذكرها في القرآن، والمواضع التي ذكرت فيها هذه الأسماء في الكتاب المقدس..
القرآن لم يأت بجديد، لأن الكثير من أسماء الله الحسنى المذكورة فيه سبق ذكرها في الكتاب المقدس.. ووُصف بها الآب كما وُصف بها المسيح.. وفي نهاية الحديث سنقف وقفة متأملة عند بعض هذه الأسماء.
Table 1.
الاسم | عدد مرات ذكره في القرآن | موضع ذكره في الكتاب المقدس | |||
(1) | الرحمان | 169 | - - - - - - - - | ||
(2) | الرحيم | 114 | خروج 34: 6 | ||
(3) | الملك | 6 | مزمور 98: 6 | ||
(4) | القدوس | 2 | مزمور 22: 3 | ||
(5) | السلام | 1 | أيوب 25: 2 | ||
(6) | المؤمن | 1 | مزمور 117: 2 | ||
(7) | المهيمن | 2 | - - - - - - - - | ||
(8) | العزيز | 98 | إشعياء 33: 21 | ||
(9) | الجبار | 1 | مزمور 24: 8 | ||
(10) | المتكبر | 1 | - - - - - - - | ||
(11) | الخالق | 8 | رومية 1: 25 | ||
(12) | البارئ | 2 | عبرانيين 11: 10 | ||
(13) | المصور | 1 | مزمور 33: 15 | ||
(14) | الغفار | 5 | ميخا 7: 18 | ||
(15) | القهار | 6 | أيوب 30: 11 | ||
(16) | الوهاب | 3 | يوحنا 6: 33 | ||
(17) | الرزاق | 1 | أيوب 36: 31 | ||
(18) | الفتاح | 2 | رؤيا 3: 7 | ||
(19) | العليم | 158 | 1 صموئيل 2: 3 | ||
(20) | القابض | - - | مزمور 16: 5 | ||
(21) | الباسط | - - | مزمور 104: 2 | ||
(22) | الخافض | - - | إشعياء 26: 5 | ||
(23) | الرافع | - - | مزمور 113: 7 | ||
(24) | المعز | - - | مزمور 29: 11 | ||
(25) | المذل | - - | دانيال 4: 37 | ||
(26) | السميع | 46 | مزمور 65: 2 | ||
(27) | البصير | 44 | مزمور 10: 14 | ||
(28) | الحاكم | - - | حزقيال 7: 3 | ||
(29) | العدل | - - | مزمور 11: 7 | ||
(30) | اللطيف | 7 | رومية 2: 4 | ||
(31) | الخبير | 45 | إشعياء 44: 8 | ||
(32) | الحليم | 12 | 2 كورنثوس 10: 1 | ||
(33) | العظيم | 8 | مزمور 99: 3 | ||
(34) | الغفور | 91 | مزمور 86: 5 | ||
(35) | الشكور | 4 | - - - - - - - | ||
(36) | العلي | 8 | إشعياء 57: 15 | ||
(37) | الكبير | 6 | مزمور 47: 2 | ||
(38) | الحافظ | 1 | مزمور 121: 5 | ||
(39) | المقيت | 1 | أيوب 36: 31 | ||
(40) | الحسيب | 4 | رومية 14: 12 | ||
(41) | الجليل | 2 | تثنية 28: 58 | ||
(42) | الكريم | 3 | 1 بطرس 2: 4 | ||
(43) | الرقيب | 5 | أيوب 7: 20 | ||
(44) | المجيب | 1 | إشعياء 65: 24 | ||
(45) | الواسع | 9 | 1 ملوك 8: 27 | ||
(46) | الحكيم | 95 | يهوذا 1: 25 | ||
(47) | الودود | 2 | - - - - - - - | ||
(48) | المجيد | 2 | - - - - - - | ||
(49) | الباعث | - - | - - - - - - - | ||
(50) | الشهيد | 21 | أيوب 16: 19 | ||
(51) | الحق | 8 | رؤيا 6: 10 | ||
(52) | الوكيل | 13 | إشعياء 26: 3 و4 | ||
(53) | القوي | 11 | مزمور 89: 8 | ||
(54) | المتين | 1 | - - - - - - - | ||
(55) | الولي | 21 | أيوب 19: 25 | ||
(56) | الحميد | 17 | مزمور 18: 3 | ||
(57) | المحصي | - - | مزمور 147: 4 | ||
(58) | المبدئ | - - | تكوين 1: 1 | ||
(59) | المعيد | 12 | مزمور 71: 20 | ||
(60) | المحيي | 2 | تثنية 32: 39 | ||
(61) | المميت | - - | 1 صموئيل 2: 6 | ||
(62) | الحي | 5 | مزمور 42: 2 | ||
(63) | القيوم | 3 | دانيال 6: 26 | ||
(64) | الواجد | - - | هوشع 12: 4 | ||
(65) | الماجد | - - | مزمور 113: 4 | ||
(66) | الواحد | 21 | تثنية 6: 4 | ||
(67) | الصمد | 1 | مزمور73: 25 | ||
(68) | القدير | 44 | تكوين 17: 1 | ||
(69) | المقتدر | 4 | دانيال 4: 7 | ||
(70) | المقدم | - - | - - - - - - - | ||
(71) | المؤخر | - - | - - - - - - | ||
(72) | الأول | 1 | إشعياء 44: 6 | ||
(73) | الآخر | 1 | إشعياء 44: 6 | ||
(74) | الظاهر | 2 | 1 تيموثاوس 3: 16 | ||
(75) | الباطن | 2 | إشعياء 45: 15 | ||
(76) | الوالي | 31 | أيوب 19: 25 | ||
(77) | المتعالي | 1 | مزمور 148: 13 | ||
(78) | البر | 1 | دانيال 9: 14 | ||
(79) | التواب | 10 | إرميا 31: 8 | ||
(80) | المنتقم | - - | مزمور 18: 47 | ||
(81) | العفو | 5 | إشعياء 31: 5 | ||
(82) | الرؤوف | 10 | مزمور 86: 15 | ||
(83) | مالك الملك | - - | تكوين 14: 19 | ||
(84) | ذو الجلال والإكرام | 2 | حبقوق 3: 3 | ||
(85) | المقسط | - - | - - - - - - | ||
(86) | الجامع | 2 | إرميا 29: 14 | ||
(87) | الغني | 18 | رومية 10: 12 | ||
(88) | المغني | - - | 1 صموئيل 2: 7 | ||
(89) | المعطي | - - | مزمور 68: 35 | ||
(90) | المانع | - - | 1 صموئيل 25: 34 | ||
(91) | الضار | - - | أمثال 8: 36 | ||
(92) | النافع | - - | إشعياء 48: 17 | ||
(93) | النور | 5 | مزمور 104: 2 | ||
(94) | الهادي | 10 | مزمور 73: 24 | ||
(95) | البديع | 2 | إشعياء 41: 10 | ||
(96) | الباقي | - - | مزمور 102: 26 | ||
(97) | الوارث | - - | عبرانيين 1: 1 و2 | ||
(98) | الرشيد | 1 | مزمور 32: 8 | ||
(99) | الصبور | - - | 2 تسالونيكي 3: 5 |
وما دمنا بصدد الحديث عن أسماء الله الحسنى في القرآن، نرى لزاماً علينا أن نذكر أن هذه الأسماء تخلو تماماً من اسم «محبة».. كما تخلو من اسم «الفادي».. وتخلو كذلك من اسم «الآب» فلا يوجد نص واحد في القرآن يذكر اسماً من هذه الأسماء.
- فالشخص المسلم محروم من معرفة حب الله
يقول الدكتور أحمد شلبي أستاذ ورئيس قسم التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة في كتابه «الإسلام»:
«أما صفات الله كما يراها الإسلام فإن مصدرها القرآن.. وهي في مجموعها تصور الكمال المطلق، وليس للمسلم أن يناجي ربه باسم أو صفة لم يضعه الله لنفسه، فهو أعلم بما يدل على ذاته وآثاره وصفاته. وعلى هذا فالإسلام لا يوافق على أن يوصف الله بأنه «محبة» لأن الله لم يصف نفسه في القرآن بذلك» (الإسلام صفحة 106).
المسلم محروم من معرفة عظمة وقوة واتساع محبة الله.. لأن القرآن لا يوافق على أن يوصف الله بأنه «محبة» لأن الله لم يصف نفسه في القرآن بذلك.
لكن آيات الكتاب المقدس تعلن بصورة مضيئة، أن الله محبة.. وأن محبته غمرت العالمين.. وأن هذه المحبة ظهرت لنا في عمقها وارتفاعها وعرضها وطولها في موت المسيح ابن الله على الصليب.
لقد أظهر الله قدرته في الخلق.
لكنه بيّن محبته في موت المسيح على الصليب.
والإسلام يخلو تماماً من الإعلان المتجسد لمحبة الله..
نصوص القرآن تلهب ظهر المسلم بتهديدها بعذاب جهنم وعذاب السعير..
أما الكتاب المقدس فإنه يعزف بآياته البينات موسيقى محبة الله.. وتضيء حروف هذه الآيات بغنى هذه المحبة ويهتف مردداً أن «الله محبة».
والآن تعال معي لنقرأ آيات الكتاب الكريم:
«لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).
«وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 5: 8).
«لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15: 13).
«أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ وَيَعْرِفُ ٱللّٰهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَحَبَّةٌ. بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِينَا: أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (1 يوحنا 4: 7 - 10).
«يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤيا يوحنا 1: 5).
حب الله للناس ظهر بنوره الآخاذ في موت المسيح على الصليب.. فإنكار صلب المسيح هو إنكار لمحبة الله.. ولا طريق للتمتع بغنى محبة الله إلا بالإيمان بالمسيح المصلوب. لذلك هتف بولس الرسول قائلاً:
«لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (1كورنثوس 2: 2).
وقال بطرس الرسول:
«يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ... ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ... لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال 4: 10 و12).
المسلم محروم من معرفة هذا الحب الإلهي الفياض، لأن الله لم يصف نفسه في القرآن بأنه «محبة» وهو أمر يدعو للرثاء.
- المسلم محروم أيضاً من يقين النجاة من عذاب جهنم
لأنه ليس بين أسماء الله الحسنى اسم «الفادي».. لذلك فإن الشخص المسلم محروم من يقين النجاة من عذاب جهنم.. وعذاب النار.
ومع أن القرآن يعترف بمبدأ الفداء فيقول في سورة الصافات «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (الصافات 37: 107). وبهذا النص يقرر أن الله وحده هو الفادي إذ يقول تبارك اسمه «وفديناه» فالفداء عمله وتدبيره. كذلك يقرر أن الله لن يقبل من الذين كفروا ملء الأرض ذهباً فداء لنفوسهم فيقول:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ» (سورة آل عمران 3: 91).
«إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (سورة المائدة 5: 36).
الإنسان عاجز تماماً عن فداء نفسه.. لكن الله بذاته العلية هو فاديه.. ولأن القرآن لا يصف الله باسم «الفادي» فالمسلم محروم تماماً من يقين النجاة من عذاب النار.. إنه يعيش حياته جاهداً نفسه في عمل الصالحات عسى أن يحصل على رضى الله.. لكنه مع كل اجتهاده وجهده وحسناته لا يقين عنده من جهة مصيره بعد الموت.. ونجاته من عذاب النار.
في 3 أبريل (نيسان) 1991 نشرت مجلة آخر ساعة مقالاً بعنوان «حوار ساخن بين الشيخ النمر.. وأربع صحافيات». خلال الحوار سألت إحدى الصحافيات الشيخ الدكتور عبد المنعم النمر:
هل الحجاب هو فرض بحيث إن لم ألتزم به أدخل النار بصرف النظر عن أعمالي الأخرى.. وأنا هنا أتكلم عن المرأة المحتشمة ولكنها ليست محجبة؟
وأجاب الشيخ الدكتور النمر:
الفرائض يا بنيتي كثيرة والله يحاسبنا بالقطاعي.. بمعنى أنك إن أديت الفرض لك نقطة.. إن أهملت فيه عليك نقطة. كل يحسب لك أو عليك. أقمت الصلاة هي لك. لم تصومي هي عليك وهكذا...
واستطرد الشيخ النمر قائلاً:
أنا لم آت بجديد.. لكل إنسان كتاب يقيد فيه كل حسناته وسيئاته.. وهذه حتى معاملاتنا مع أطفالنا..
قالت الصحافية: يعني لن يكون هذا سبباً في دخولي النار دون محاسبتي على حياتي؟
أجاب الشيخ النمر: يا بنيتي.. لا أحد يعلم من سيدخلها.. ربما أكون أنا أول الداخلين فيها! أي والله.. وكما قال أبو بكر الصديق: «لا آمن مكر الله حتى لو كانت إحدى قدميّ في الجنة!».. من الذي يستطيع أن يقول أي الأعمال ستُقبل أم لا؟ أنت تعملين كل الذي تستطيعينه والحساب عند الله وتسألينه القبول (آخر ساعة العدد 2945).
الشيخ عبد المنعم النمر، وهو أستاذ كبير درس القرآن وتعاليم الإسلام.. لا يعلم إن كان سيدخل النار أم الجنة.. ويقول إنه ربما يكون أول الداخلين النار.. وأبو بكر الصديق خليفة النبي محمد قال: «لا آمن مكر الله حتى ولو كانت إحدى قدمي في الجنة».
لا يقين عند المسلم من جهة مصيره بعد الموت..
وهو محروم تماماً من السلام القلبي الذي يمنحه هذا اليقين.. ذلك لأن القرآن ينكر الفداء الذي أتمه المسيح على الصليب.
أما المسيحي الحقيقي الذي آمن بالمسيح فادياً فعنده اليقين التام من جهة مصيره بعد الموت..
فهو يعرف يقيناً أنه لن يدخل النار (رومية 8: 1).
ويعرف يقيناً أن له حياة أبدية (1 يوحنا 5: 13).
ويعرف يقيناً أنه في القيامة سيعطيه الله جسداً ممجداً يستطيع به أن يرى الله في مجده وجلاله (1 يوحنا 3: 2).
وأما هذا اليقين هو أن الله افتداه بدم المسيح.. كما يقول بولس الرسول: «ٱلَّذِي لَنَا فِيهِ ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا» (كولوسي 1: 14). وكما يقول داود النبي في المزمور 34: «ٱلرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، وَكُلُّ مَنِ ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ لاَ يُعَاقَبُ» (مزمور 34: 22) وكما يقول بولس الرسول أيضاً: «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية 3: 24).
أعمال الإنسان الصالحة لن تخلصه.. فإشعياء النبي يصف الأعمال الصالحة بأنها كالثياب المهلهلة التي لا تستر عرياً فيقول:
«وَقَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ، وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ (ثوب مهلهل) كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا، وَقَدْ ذَبُلْنَا كَوَرَقَةٍ، وَآثَامُنَا كَرِيحٍ تَحْمِلُنَا» (إشعياء 64: 6).
ويؤكد بولس الرسول أن طريق النجاة الوحيد هو نعمة الله التي ظهرت في الفداء العظيم الذي أكمله المسيح بموته على الصليب فيقول:
«لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ» (أفسس 2: 8 و9).
لا نجاة لأحد بأعماله الصالحة.. لأنه لو نجا أحد بأعماله الصالحة لكان لديه مجال للفخر أمام الله..
وأين هو الإنسان الذي يستطيع أن يقف مفتخراً بصلاحه أمام الله؟.. لا أحد؟ تقول كلمة الله الموحى بها.
«لأَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ ٱللّٰهَ. ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ. حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سِمُّ ٱلأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً. أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ ٱلدَّمِ. فِي طُرُقِهِمِ ٱغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ. وَطَرِيقُ ٱلسَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ» (رومية 3: 10 - 17).
أما المؤمنون الذين آمنوا بفداء المسيح، وغُسِّلوا من خطاياهم بدمه فلهم اليقين التام بالنجاة من دينونة الله وعذاب الجحيم.
عرف يوحنا الرسول مصيره بعد الموت فقال:
«أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1 يوحنا 3: 2).
وعرف بولس الرسول أنه من المخلصين.. وعرف أن الله سيمنحه إكليل البر فقال:
«فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 1: 18).
«فَإِنِّي أَنَا ٱلآنَ أُسْكَبُ سَكِيباً، وَوَقْتُ ٱنْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ، ٱلَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانُ ٱلْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضاً» (2 تيموثاوس 4: 6 - 8).
وعرف بطرس الرسول مصيره بعد الموت.. بل مصير كل الذين آمنوا بالمسيح رباً وفادياً فقال:
«مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلأَخِيرِ» (1 بطرس 1: 3 - 5).
المؤمنون بالمسيح ولدوا ثانية بنعمة الله وبعمل الروح القدس.. وهم محفوظون ومحروسون من قوى الشر والشيطان بقوة الله.. إلى أن يدخلوا ميراثهم السماوي الأبدي.
هذا هو يقين المسيحيين الحقيقيين المولودين من الله.. الذين خرجوا من الظلمات إلى النور.. ومن سلطان الشيطان إلى الله.. وآمنوا إيماناً قلبياً بالعمل الكفاري العظيم الذي أكمله المسيح بموته على الصليب.. ووثقوا في شفاعة المسيح الدائمة لهم عند الآب.. هذه الشفاعة المقبولة دائماً كما قال يوحنا الرسول:
«يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (1 يوحنا 2: 1 و2).
قرر القرآن بنص صريح أن الشفاعة لله:
«قُلْ لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (سورة الزمر 39: 44).
والنص يرينا أن الشفيع هو شخص غير الذي يشفع عنده.. كما يقرر نص قرآني آخر أنه جلَّ جلاله الشفيع عند ذاته:
«ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سَتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَى عَلَى ٱلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ» (سورة السجدة 32: 4).
لهذا يتحتم أن يكون المسيح هو ابن الله الأزلي غير المحدود، لتقبل شفاعته عند الله الآب غير المحدود.
الله الابن الذي تجسد في الزمان ومات على الصليب.. يشفع في المذنبين.. ويقبل الآب شفاعته على أساس الفداء الذي قام به بموته على الصليب.
أما محمد فهو مجرد إنسان.. لا يستطيع أن يشفع عند الله في أحد ويقرر القرآن عجزه عن الشفاعة فيقول:
«ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ (يا محمد) أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ» (سورة التوبة 9: 80).
ونسأل: إذا كان الله لا يهدي القوم الفاسقين - أي الخارجين عن حدود الشرع - فمن يهدي إذاً؟
من في حاجة إلى الهداية أكثر من القوم الفاسقين؟
المسلم لا يقين عنده من جهة مصيره بعد الموت.. الأمر كله معلق في الميزان.. بغير ضمان.
والأكثر من هذا فإن القرآن يقرر أن كل مسلم لا بد أن يصل إلى جهنم.. وأن دخول المسلمين النار هو قضاء إلهي عليهم»
«أَوَ لاَ يَذْكُرُ ٱلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جَثِيّاً (باكين على ركبهم لشدة الهول).. وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً» (سورة مريم 19: 67 و68 و71).
ويفسر محمد فريد وجدي الكلمات «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً» فيقول:
«وما منكم إلا واصل إلى جهنم ومار بها. قيل يمر بها المؤمنون وهي خامدة، وقيل يمرون عليها وهم يجتازون الصراط، كان ورودهم إياها واجباً أوجبه الله على نفسه وقضى بأن وعد به وعداً لا يمكن خلفه» (المصحف المفسر صفحة 403).
هذا هو المصير الذي يتوقعه كل مسلم.. لأنه محروم من معرفة الله «الفادي».. ومن ذا الذي يقبل ديناً لا يعطيه يقين النجاة من نيران جهنم؟
- المسلم محروم كذلك من امتياز الإحساس بأبوة الله
كما حرم القرآن المسلم من معرفة محبة الله.. ومعرفة الله الفادي.. كذلك حرمه من الإيمان بأبوة الله.. فليس بين أسماء الله الحسنى في القرآن اسم «الآب».
إن تسمية الله في الكتاب المقدس باسم «الآب» فيه كل معاني الرعاية والحماية وملء الاحتياجات...
وبينما المسلم محروم من مناداة الله تبارك اسمه باسم «الآب» فإن المسيحي الحقيقي يصلي لله مخاطباً جلاله بالكلمات:
«أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ. وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُوَّةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ» (متّى 6: 9 - 13).
المسيحي المولود من الله، صار ابناً لله بإيمانه بالمسيح يسوع.. يقول بولس الرسول:
«ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ. إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ٱبْناً، وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ» (غلاطية 4: 6 و7).
«إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: يَا أَبَا ٱلآبُ!. اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ» (رومية 8: 15 و16).
هذا هو شعور المسيحي الحقيقي من نحو الله الآب السماوي.. أما المسلم فإن الشعور الذي يتملكه هو شعور العبودية.. فالله على عرشه في السماء.. والمسلمون مجرد عبيد.. ويكرر القرآن ويعيد أن الله ليس بظلاّم للعبيد (سورة آل عمران 3: 182 وسورة الأنفال 8: 51 وسورة الحج 22: 10 وسورة فصلت 41: 46).
وموقف المسلم في صلاته هو موقف العبد:
«أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلّى» (سورة العلق 96: 9 و10).
«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَانِ عَبْداً» (سورة مريم 19: 93).
روح العبودية يغمر نصوص القرآن.. ويملأ قلب المسلم خوفاً ورعباً..
والآن لا بد لنا من الوقوف عند بعض أسماء الله الحسنى التي وردت في القرآن ونقارنها بمعطيات الكتاب المقدس.
وأول اسم من أسماء الله الحسنى نتحدث عنه هو «الحق»
أعطى القرآن لله اسم «الحق» في ثمانية نصوص.. سنكتفي بذكر اثنين منها:
«فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ» (سورة المؤمنون 23: 116).
«ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي ٱلْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (سورة الحج 22: 6).
والكتاب المقدس يطلق اسم «الحق» على الله الآب وعلى المسيح.
قال إرميا النبي: «أَمَّا ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ فَحَقٌّ. هُوَ إِلٰهٌ حَيٌّ وَمَلِكٌ أَبَدِيٌّ» (إرميا 10: 10).
وقال المسيح عن الله الآب: «... ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، ٱلَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي» (يوحنا 7: 28 و29).
وقال المسيح عن نفسه وهو الصادق الأمين:
«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6).
وقال يوحنا الرسول عن المسيح:
«وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ ٱلْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي ٱلْحَقِّ فِي ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (1 يوحنا 5: 20).
اسم «الحق» الذي أعطاه القرآن لله.. أعطاه الكتاب المقدس للمسيح.. لأن المسيح هو الله.. وهو محيي الموتى.
- الاسم الثاني من أسماء الله الحسنى هو «الوارث»
«إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ» (سورة مريم 19: 40).
«.. وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (سورة آل عمران 3: 180).
وارث الأرض ومن عليها.. ووارث السموات.. هو الله.
ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين:
«اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين 1: 1 و2).
نصوص القرآن تقرر أن الله تبارك اسمه هو وارث السموات والأرض.. وكتاب العهد الجديد يقرر أن المسيح هو وارث لكل شيء.
ويعني هذا بكل وضوح أن المسيح هو ابن الله.. والله الابن..
ففي كل ميراث وارث ومورّث..
الله الآب جعل ابنه يسوع المسيح وارثاً لكل شيء.. لأنه منه..
ذات يوم جاء شاب غني إلى المسيح وسأله:
«أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟» (مرقس 10: 17).
«فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ» (مرقس 10: 18).
أراد المسيح أن يقول بكلماته لذلك الشاب: إن آمنت بصلاحي.. تحتم عليك أن تؤمن بلاهوتي.. لأن ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله.
ويقرر القرآن أن المسيح وُلد «غلاماً زكياً».. فقد قال جبريل الملاك لمريم العذراء «إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً» (سورة مريم 19: 19).
ويقرر العهد الجديد أن المسيح وُلد بغير خطية (1 يوحنا 3: 5).. ولم يعرف خطية (2 كورنثوس 5: 21) ولم يفعل خطية (1 بطرس 2: 22).
المسيح هو الصلاح المتجسد.. عاش حياته منزهاً معصوماً عن الخطأ حين جاء إلى أرضنا في الجسد.. وتحدّى أعداءه بالقول:
«مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ» (يوحنا 8: 46).
ولم يجسر أحد أن يرفع عقيرته ضده أو يوجه إليه إصبع إتهام.. المسيح كامل الصلاح.. وإذا اعترفنا بهذا الحق، تحتّم علينا أن نعترف بأنه الله إذ «لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ» (مرقس 10: 18).
وإذا آمنا بأن المسيح هو الله.. تحتم علينا أن نؤمن بوحدانية الله الجامعة لثالوثه الجليل الكريم.
- الاسم الثالث من أسماء الله الحسنى في القرآن هو «الظاهر والباطن»
يقول القرآن: «هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (سورة الحديد 57: 3).
فيصف الله بأنه «الظاهر والباطن».. ومعروف أن كلمة «الباطن» تعني أنه تبارك اسمه أجل وأكبر من أن يُرى بالعين المادية.. أو كما قال عنه إشعياء النبي «حَقّاً أَنْتَ إِلَهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ ٱلْمُخَلِّصَ» (إشعياء 45: 15).
لكن ما معنى أن يكون الله هو «الظاهر»؟
إن قيل أنه ظاهر بمصنوعاته وتدبيره.. نقول أن مصنوعاته تظهر قدرته.. لكنه يظل محتجباً عن العيون..
إنّ في قلب الإنسان شوق إلى رؤية الله:
رفع إشعياء النبي هذه الصلاة إلى الله:
«لَيْتَكَ تَشُقُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ!» (إشعياء 64: 1).
يحتفظ لنا التاريخ بحوار جرى بين الفيلسوف اليوناني سقراط، ورجل اسمه «أريستوديم» كان ينكر وجود الله.. وهذا ما دار في ذلك الحوار:
أريستوديم: أنا لا أومن بوجود الله.
سقراط: أيوجد رجال تعجب بمهارتهم وجمال صنائعهم؟
أريستوديم: نعم، أعجب في الشعر القصصي بهوميروس، وفي التصوير بزوكسيس، وفي صناعة التماثيل ببوليكتيت.
سقراط: أي الصناع أولى بالإعجاب؟ الذي يخلق صوراً بلا عقل ولا حراك، أو الذي يبدع كائنات ذات عقل وحياة؟
أريستوديم: بغير شك الذي بدع الكائنات المتمتعة بالعقل والحياة، إذا لم تكن تلك من نتائج الاتفاق والصدفة.
سقراط: وهل يمكن أن يكون من الاتفاق والصدفة أن تُعطى الأعضاء لمقاصد وغايات خاصة؟ العين لترى، والأذن لتسمع، والأنف ليشم، واللسان ليتذوق.. والعين تحاط بحراسة دقيقة لحساسيتها وضعفها، فتقفل بسرعة عند الإحساس بالخطر، وتحرس بالرموش، وتقفل عند النوم.. والأذن لها جهازها الخارجي الذي يجمع لها الصوت.. هل يمكن أن يكون ذلك كله من عمل الصدفة؟
والميل المودع في المخلوقات للتناسل.. والحنان المخلوق في قلوب الأمهات بالنسبة للأولاد.. والطفل الذي يتجه للرضاعة من ثدي أمه.. هل يمكن أن يكون هذا كله بالصدفة؟
أريستوديم: لا.. إن ذلك يدل على الإبداع، وعلى أن الخالق عظيم يحب الكائن الحي.. ولكن لماذا لا نرى الخالق؟
إن سؤال أريستوديم لسقراط يعلن عن شوق الروح الإنسانية لرؤية الله...
إن صفات الله تظل كلمات إلى أن تتجسد.. فالتصورات المجردة، تصورات لا يمكن أن نربطها بالواقع المحسوس حتى نجسدها..
فالحرية.. والعدالة.. والأمومة.. كلها كلمات إذا لم تتجسد لا يمكن أن يفهم الإنسان معناها الصحيح..
لذلك صوَّر الأمريكيون «الحرية» امرأة متوجة تمسك شعلة متوهجة.. هي شعلة الحرية.
وصورنا العدالة.. امرأة معصوبة العينين، تمسك في يدها ميزاناً لتزن قضاياها دون نظر إلى لون، أو جنس، أو دين..
وصورنا الأمومة.. امرأة تحتضن وليدها بحب وحنان.
والناس يستجيبون للأشياء بمقدار ما يحسونها.. وغير المحسوس أقل في وعيهم درجة.
وصفات الله مجرد كلمات.. ولكي يدرك الناس المفهوم الصحيح لهذه الصفات.. كان لا بد أن يتجسد الله في المسيح..
في 14 مايو (أيار) سنة 1986 دُعيت للقيام بحوار حول موضوع «حقيقة صلب المسيح» مع الإمام «أحمد حسين» وهو الإمام الذي كان يعنى بشؤون الطلبة المسلمين في جامعة شمال فيرجينيا..
أقيم الحوار في قاعة من قاعات جامعة شمال فيرجينيا في مدينة الإسكندرية بفيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية:
Northern Virginia Community College Alexandria Campus
في لحظة دخولي قاعة الاجتماع.. رأيت الإمام «أحمد حسين» يدخل القاعة وبيده ورقة قد طبع عليها أسماء الله الحسنى.. وأراني الورقة متحدياً.. فابتسمت وقلت له: عندي سؤال يا شيخ أحمد بخصوص أسماء الله الحسنى.. من بين أسماء الله الحسنى اسم «الظاهر والباطن».. فهل لك أن تخبرني متى كان الله ظاهراً؟ وكيف يكون الله الظاهر والباطن في آن معاً؟
أجاب الشيخ أحمد حسين: الله ظاهر في مخلوقاته.. في الشمس والقمر والنجوم.. وخلقه الحيوان والإنسان..
قلت: مخلوقات الله تظهر قدرته يا شيخ أحمد.. لكنه يظل محتجباً عن العيون.
لم يستطع الشيخ أحمد أن يعطي جواباً... مع أن الجواب سهل إذا آمنا بوحدانية الله الجامعة.. ووثقنا في وحي التوراة والإنجيل.. وفي قدرة الله على أن يتجسد في المسيح ويكون مالئاً للسماوات والأرض في ذات الوقت.
فالله بصفته «الإله الظاهر» ظهر مراراً في العهد القديم.. ظهر لإبراهيم الخليل، وسجلت التوراة ظهوره بالكلمات:
«وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَالٍ وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لٱسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ» (تكوين 18: 1 - 2).
وخلال هذا الظهور الإلهي بشّر الله إبراهيم بولادة اسحق من سارة امرأته.
«وَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ سَارَةُ ٱمْرَأَتُكَ؟ فَقَالَ: هَا هِيَ فِي ٱلْخَيْمَةِ. فَقَالَ: إِنِّي أَرْجِعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ ٱلْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ٱمْرَأَتِكَ ٱبْنٌ» (تكوين 18: 9 و10).
وقد ذكر القرآن هذا الظهور الإلهي لإبراهيم الخليل في سورتين فقال: «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ»(سورة الحجر 15: 51 - 53).
«هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ.. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ» (سورة الذاريات 51: 24 و28).
وظهر الله جل اسمه لموسى بلهيب نار من وسط عليقة وكلمه تكليماً.. وتذكر التوراة هذا الظهور الإلهي بالكلمات:
«وَأَمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ، فَسَاقَ ٱلْغَنَمَ إِلَى وَرَاءِ ٱلْبَرِّيَّةِ وَجَاءَ إِلَى جَبَلِ ٱللّٰهِ حُورِيبَ. وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ، فَنَظَرَ وَإِذَا ٱلْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِٱلنَّارِ، وَٱلْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ! فَقَالَ مُوسَى: أَمِيلُ ٱلآنَ لأَنْظُرَ هٰذَا ٱلْمَنْظَرَ ٱلْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ ٱلْعُلَّيْقَةُ؟ فَلَمَّا رَأَى ٱلرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ ٱللّٰهُ مِنْ وَسَطِ ٱلْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: مُوسَى مُوسَى. فَقَالَ: هَئَنَذَا. فَقَالَ: لاَ تَقْتَرِبْ إِلَى هٰهُنَا. ٱخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ» (خروج 3: 1 - 5).
ويذكر القرآن هذا الظهور الإلهي لموسى النبي فيقول:
«وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَاراً لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوىً» (سورة طه 20: 9 - 12).
الله بذاته العلية كلم موسى بصوته الإلهي من وسط النار بحسب نص القرآن، وقصة القرآن مأخوذة من التوراة، وليست من أنباء الغيب.. فالقرآن لم يأت بجديد.
وقبل ذلك ظهر الله ليعقوب أبي أسباط إسرائيل (تكوين 35: 1).
كما ظهر بعد ذلك لمنوح وامرأته (قضاة 13: 8 - 23).
الظهور الإلهي ليس بدعة.. فالله «الباطن» هو كذلك الله «الظاهر».. وظهوره الأعظم هو ظهوره في شخص المسيح الكريم... وقد ذكر بولس الرسول هذا الظهور العظيم بالكلمات:
«وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (1تيموثاوس 3: 16).
إن الله «الباطن» المحتجب.. الذي لم يره أحد قط.. صار الله «الظاهر» الذي ظهر في المسيح.. ولذا قال المسيح للحواري «فيلبس»:
«... اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يوحنا 14: 9).
إن المسيح الكائن منذ الأزل تجسد في الزمان.. آخذاً صورة عبد.. صائراً في شبه الناس.. ووُجد في الهيئة كإنسان.. ووضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب.. في شخصه الكريم رأينا صفات الله وأدركنا مفهومها الصحيح..
«فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 1 و14).
«اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18).
«اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ. ٱلَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلأَعَالِي» (عبرانيين 1: 1 - 3).
في وجه يسوع المسيح عرفنا مجد الله:
«لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (2 كورنثوس 4: 6).
وفي شخص المسيح عرفنا معنى صفات الله.. وأدركنا شيئاً عن ذاته من صفاته...
عرفنا أزليته.. عرفنا حنان قلبه.. عرفنا رعايته.. عرفنا رحمته.. عرفنا محبته.. عرفنا معنى قربه.. عرفنا قدرته.. أجل.. فالمسيح ابن الله هو حامل كل الأشياء بكلمة قدرته..
هو خالق الكون.. وحافظ الكون
هو خالق الكون : «ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كولوسي 1: 16).
وهو حافظ الكون لأنه «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين 1: 3).
فهذا الكون الواسع البديع.. بشمسه وقمره.. ونجومه.. ونظامه الفلكي العجيب.. لو غفلت عنه لحظة عين المسيح خالقه لاختلت موازينه.. واضطرب سيره.. وغمرت الفوضى نظامه.. ولكن المسيح يحمل هذا الكون في مسيرته الدقيقة بليله ونهاره.. بربيعه وصيفه وخريفه وشتائه.. بملايين المجرات والنجوم والأفلاك التي تدور في فضائه.. يحمل هذا كله «بكلمة قدرته».
لذلك عندما كان هنا على الأرض.. وركب سفينة مع تلاميذه، وهاج البحر.. وحدث نوء ريح عظيم فكانت الأمواج تضرب السفينة حتى صارت تمتلئ ماء.. وكان هو في مؤخر السفينة نائماً.. أيقظه تلاميذه وقد ملأهم الخوف قائلين: «أما يهمك أننا نهلك» .. فقام وانتهر الريح وقال للبحر اسكت. ابكم. فسكنت الريح وصار هدوء عظيم.. وقال الحواريون وقد اعترتهم الدهشة:
«مَنْ هُوَ هٰذَا؟ فَإِنَّ ٱلرِّيحَ أَيْضاً وَٱلْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!» (مرقس 4: 41).
لقد جاء يسوع المسيح في الجسد ليفدي الإنسان، ويظهر في ذات الوقت صفات الرحمان.
أسماء أخرى من أسماء الله الحسنى لا بد لنا من الوقوف عندها.. فهو السميع.. البصير.. الودود.. ويقيناً أنه أيضاً المتكلم مع أن هذا الاسم لم يذكر بين أسمائه الحسنى.
من البديهيات الثابتة، أن الله كامل في ذاته وصفاته.. وهو جامع في ذاته لكل ما يلزم لكماله.. وهو جلّت قدرته مستغنٍ بكمال ذاته عن مخلوقاته.
الله العلي العظيم .. متكلم.. سميع.. بصير.. ودود.. الله «متكلم» وتعلق صفة الكلام بذات الله جلّ شأنه أمر مُسلَّم به.. فالذي وهب الإنسان القدرة على الكلام لا بد أن يكون متصفاً بالكلام.. فصفة الكلام من صفات الله كعلمه.. وقدرته.. وحكمته.
يقول الشيخ «حافظ بن أحمد حكمي» في كتابه «العقيدة الإسلامية»:
«..فالله جل شأنه لم يزل متصفاً بالكلام أزلاً وأبداً وتكلمه وتكليمه بمشيئته وإرادته فيتكلم إذا شاء.. متى شاء .. وكيف شاء.. بكلام يسمعه من يشاء. وكلامه صفته لا غاية له ولا انتهاء» (العقيدة الإسلامية صفحة 44 و45).
وإزاء هذا الكلام يخطر على البال أكثر من سؤال.
السؤال الأول:
ما دام الكلام صفة أزلية من صفات الله.. فمع من كان الله تبارك اسمه يتكلم قبل أن يخلق الملائكة والناس؟ هل كانت صفة الكلام فيه - وهي صفة أزلية من صفات ذاته - معطلة حتى خلق خلقه وبهذا نجعله جلت قدرته ناقصاً بذاته .. كاملاً بمخلوقاته.. وحاشا لله أن يكون كذلك؟
السؤال الثاني:
- إن من بين أسماء الله الحسنى «السميع» و «البصير» فمن كان يسمع جلّ شأنه؟ ومن كان يبصر قبل أن يخلق الخلق من العدم؟
السؤال الثالث:
- إن من بين أسماء الله الحسنى أنه «الودود».. فلمن كان يتودد قبل أن يخلق الملائكة والناس؟
يقول القرآن إن الله جلت قدرته، بعد أن خلق السموات والأرض «استوى على العرش».. فكيف «استوى» - أي جلس - على العرش وهو روح يملأ السموات والأرض كيف جلس تبارك اسمه على عرش محدد المكان؟
يجيب أئمة الإسلام بأجمعهم قائلين «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب. والسؤال عنه بدعة» (العقيدة الإسلامية صفحة 34).
السؤال عن كيف استوى الله على عرشه العظيم بدعة عند أئمة المسلمين.. وهذا قيد رهيب يضعونه على عقول المسلمين.. أما الإيمان بوحدانية الله الجامعة، فهو يعطينا الجواب الشافي على كل أسئلتنا...
فالثالوث العظيم مكتف بذاته عن كل مخلوقاته..
ولذا فالكلام، والسمع، والبصر، والجلوس على العرش العظيم كان باستطاعته قبل أن يخلق مخلوقاته...
قارئ القرآن يروعه أن يقرأ الحوار الذي دار بين الله الكلي الحكمة، والمعرفة، والقدرة وبين ملائكته وهم خدامه.. يوم أراد تبارك اسمه أن يخلق الإنسان.
يذكر القرآن ذلك الحوار في سورتين: في سورة ص يقول:
«إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَّوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ ٱلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكَبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ ٱلدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِّزَتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (سورة ص 38: 71 - 82).
وفي سورة البقرة:
«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاءَ َوَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (سورة البقرة 2: 30 - 33).
النصوص القرآنية تصور الله وهو يخبر الملائكة بأنه مزمع أن يخلق بشراً من طين.. ويطالبهم بالسجود لهذا المخلوق.. وترينا إبليس، وكأن سبب سقوطه هو رفضه السجود لآدم.. مع أنه كان قد سقط قبل خلق آدم بزمن طويل، وقد كشف إشعياء النبي بالوحي الإلهي عن سبب سقوط إبليس فقال يخاطبه في كلمة الله:
«وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ ٱللّٰهِ، وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ ٱلٱِجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي ٱلشِّمَالِ... أَصِيرُ مِثْلَ ٱلْعَلِيِّ» (إشعياء 14: 13 و14).
كان سبب سقوط الشيطان هو رغبته أن يصير مثل الله العلي.. وقد حدث هذا السقوط في زمن قديم قبل خلق الإنسان.
ثم يستطرد النص القرآني فيصور لنا جرأة إبليس وتحديه لله جلَّت قدرته إذ يقول لله: «انظرني فبعزتك لأغوينهم أجمعين».
وينتقل القرآن إلى حادث الخلق ذاته في سورة البقرة، فيصور لنا الحوار بين الله والملائكة في كلمات أخرى..
الله يخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة.
والملائكة يعترضون على أساس معرفتهم بالمستقبل البعيد..
معرفتهم أن الإنسان سيعصى الله.. ويفسد في الأرض ويسفك الدماء فيقولون:
«أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟»
ومن عجب أن الملائكة وهذه معرفتهم بالمستقبل البعيد كما يقول القرآن عجزوا عن معرفة الماضي القريب.. فقد علَّم الله آدم الأسماء.. ولا يذكر القرآن أية أسماء..
ويستطرد القرآن فيذكر أن الله تحدى الملائكة بقوله: «أنبئوني بأسماء هؤلاء». وأقر الملائكة بعجزهم قائلين: «سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا أنك أنت العليم الخبير»..
كيف عرف الملائكة أن الإنسان سيسقطه الشيطان.. وسيفسد في الأرض ويسفك الدماء.. وعجزوا عن معرفة الأسماء التي علَّمها الله لآدم وهو أمر حدث في الماضي القريب؟ سؤال يثير العجب والتفكير!!
إن التوراة تقرر أن آدم بما أعطاه الله من ذكاء دعا الحيوانات والطيور بأسماء.. وهكذا أثبتت التوراة كمال خلقة الإنسان من يوم خُلق:
«وَجَبَلَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ مِنَ ٱلأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ ٱلْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ ٱسْمُهَا. فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ ٱلْبَهَائِمِ وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ ٱلْبَرِّيَّةِ» (تكوين 2: 19 و20).
ويصور النص القرآني اعتراض الملائكة على خلقة آدم.. إذ يقولون لله: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟» وهو أمر غير مقبول.. أن يعترض الملائكة وهم خدام الله على خالقهم وسيدهم، وهو المكتوب عنه: «مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً» (رومية 11: 34).
التوراة - كلام الله الكريم - تحفظ لله كمال صفاته، وتنزهه عن حواره مع ملائكته.. إذ تؤكد وحدانيته الجامعة واستغنائه بذاته عن مخلوقاته فتقول:
«وَقَالَ ٱللّٰهُ: نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا... فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ» (تكوين 1: 26 و27).
كلمات وضاءة تفيض بنور الإعلان الإلهي..
وقال «الله» الواحد في ذاته.. وكلمة «قال» في صيغة المفرد.. «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» وكلمة «نعمل» في صيغة الجمع.. والنص كله يعلن عن «وحدانية الله الجامعة».
أجل خلق الله الإنسان على صورته...
على الصورة التي كان سيتجسد فيها المسيح في الزمان.. فالمسيح المتجسد «هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ» (كولوسي 1: 15).
وعلى الصورة التي كان ابن الله الأزلي سيتجسد فيها ليفدي الإنسان.. خلق الإنسان.. خلقه ذكياً استطاع أن يعطي للحيوانات والطيور أسماءها «وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ ٱسْمُهَا» (تكوين 2: 19).. بهذا تسقط نظرية التطور وأصل الإنسان التي نادى بها «داروين» وبهذا كرَّم الله الإنسان.
إن الإيمان بوحدانية الله الجامعة، جاءنا من إعلان الله عن ذاته في كلمته.
وعلينا أن نذكر دائماً أن الله سر الأسرار.. وأنه تعالت قدرته فوق متناول مقاييسنا العلمية، وفوق إدراك عقولنا البشرية كما قال بولس الرسول للفلاسفة في «أريوس باغوس» في أثينا باليونان.
«لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ ٱللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ. فَٱللّٰهُ ٱلآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ» (أعمال 17: 29 و30).
الإيمان بوحدانية الله الجامعة أمر فوق العقل تماماً كالإيمان بوجود الله ذاته.. ولكن باليقين الذي ليس ضد العقل.
إن الله في وحدانيته الفريدة الجامعة، كما أعلن ذاته في الكتاب المقدس، هو الذي يستطيع أن يجيب بإقناع كامل عن كل تساؤلات الإنسان.
إن عليك أن تؤمن بالله الجامع في وحدانيته لثالوثه الكريم، ليستريح قلبك، وتحصل على الغفران، وتتيقن بأن لك في يسوع المسيح الحياة الأبدية.
المسيحيون صنفان.. صنف ورث المسيحيّة عن آبائه لكنه لم يختبر حلول المسيح الحي في قلبه.. هذا الصنف هو أغلبية المسيحيين العائشين على الأرض.. ويطلق عليهم اسم المسيحيين الاسميين بمعنى أنهم مسيحيون اسماً لا حقيقة.. وهؤلاء المسيحيون يسكرون، ويعربدون، ويفعلون كل شر، وهم بتصرفاتهم يسيئون إلى المسيح والمسيحيّة، وينطبق عليهم ما قاله بولس الرسول لليهود في رسالته إلى أهل رومية: «لأَنَّ ٱسْمَ ٱللّٰهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ» (رومية 2: 24). وقد أعثروا الكثيرين من المسلمين، إذ ظن هؤلاء أن المسيحية تتجسد في تصرفات هؤلاء المسيحيين الاسميين.
أما الصنف الثاني وهو الأقلية، فهم المسيحيون الحقيقيون وهؤلاء صاروا مسيحيين بالاختبار لا بالوراثة، إن الواحد منهم قبل المسيح مخلصاً لنفسه. وعرف أن في دم صليبه كل الكفاية لغفران خطاياه، وتنطبق عليهم كلمات يوحنا الرسول:
«وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ (أي قبلوا المسيح مخلصاً شخصياً لهم) فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 12 و13).
رسل المسيح كانوا من هذا الصنف، دخل المسيح قلوبهم، وغيّر حياتهم، وشهدوا بكلمات صريحة بأن يسوع المسيح هو ابن الله، وأنه الابن الأزلي الذي تجسد في صورة إنسان، ومات على الصليب، ودُفن وقام بعد ثلاثة أيام، وأعلنوا بكلمات لا غموض فيها إيمانهم بوحدانية الله الجامعة لثالوثه العظيم.
نسجل أولاً شهادة الحواري بطرس الرسول، فعندما سأل المسيح تلاميذه:
«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيّ» (متّى 16: 15 و16).
والشهادة بأن المسيح يسوع هو ابن الله، شهادة بأبوة الآب له، ولأن أبوة الله أزلية، فبنوة المسيح أزلية، والذي أعلن حقيقة بنوة المسيح لبطرس هو الروح القدس إذ «لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (1 كورنثوس 12: 3).
ثم تأتي شهادة توما الرسول.. قال التلاميذ الآخرون لتوما بعد أن ظهر يسوع المسيح لهم بعد قيامته:
«قَدْ رَأَيْنَا ٱلرَّبَّ» (يوحنا 20: 25).
«فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يوحنا 20: 25).
«وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً. أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلٰهِي قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا 20: 26 - 29).
إذا ذكرنا أن «توما» كان يهودياً، وأنه عرف جيداً وصية التوراة القائلة:
«اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثينة 6: 4).
استطعنا أن نرى أن شهادته بأن المسيح هو ربه وإلهه تعلن عن إيمانه بوحدانية الله الجامعة.. ذلك أن توما عرف من نصوص العهد القديم أن الفادي لا بد أن يكون الله:
«فَادِينَا رَبُّ ٱلْجُنُودِ ٱسْمُهُ. قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ» (إشعياء 47: 4).
«ٱلرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، وَكُلُّ مَنِ ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ لاَ يُعَاقَبُ» (مزمور 34: 22).
لهذا هتف توما وهو يرى يسوع المسيح الذي قام من الأموات، بعد أن رأى أثر المسامير في يديه وتحسس أثر الحربة في جنبه قائلاً له:
«رَبِّي وَإِلٰهِي» (يوحنا 20: 28).
ولم يردعه المسيح.. لم يقل له: أنا لست الرب الإله. بل قال له: «لأنك رأيتني يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا». وبهذه الكلمات صدّق المسيح على شهادة توما لشخصه الكريم.
ونأتي الآن إلى شهادة جماعة رسل المسيح، عندما أوقفوهم أمام مجمع اليهود:
«فَسَأَلَهُمْ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ: أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهٰذَا ٱلٱسْمِ؟ وَهَا أَنْتُمْ قَدْ مَلأْتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ، وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هٰذَا ٱلإِنْسَانِ. فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَٱلرُّسُلُ: يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ ٱللّٰهُ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنَّاسِ. إِلٰهُ آبَائِنَا أَقَامَ يَسُوعَ ٱلَّذِي أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هٰذَا رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ بِيَمِينِهِ رَئِيساً وَمُخَلِّصاً، لِيُعْطِيَ إِسْرَائِيلَ ٱلتَّوْبَةَ وَغُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا. وَنَحْنُ شُهُودٌ لَهُ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَيْضاً، ٱلَّذِي أَعْطَاهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ» (أعمال 5: 27 - 31).
وكلمات الرسل في هذا النص الثمين تؤكد إيمانهم بوحدانية الله الجامعة.. فالنص يذكر الله الآب، والمسيح المصلوب، وشهادة الروح القدس الذي حلّ على التلاميذ بعد صعود المسيح إلى السماء.. كما تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك حقيقة صلب المسيح وقيامته بعد صلبه ودفنه.
هذا يأتي بنا إلى شهادة بولس الرسول الرجل الذي كان يهودياً متعصباً، وفي عمى تعصبه اضطهد المسيحيين بعنف. وكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت، ويجر رجالاً ونساء ويسلمهم إلى السجن.. الرجل الذي كان راضياً بقتل استفانوس «أول شهداء المسيحيّة».. الرجل الذي شهد عن نفسه قائلاً:
«أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً» (1 تيموثاوس 1: 13).
هذا الرجل الذي أعماه التعصب التقى به المسيح وهو في طريقه إلى دمشق ليقبض على المسيحيين هناك ويسوقهم موثقين إلى أورشليم.. التقى به المسيح بعد قيامته وصعوده إلى السماء وناداه من السماء قائلاً:
«شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ (وشاول كان اسم بولس قبل التقائه بالمسيح الحي).. فَسَأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ. فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: قُم وَٱدْخُلِ ٱلْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ» (أعمال 9: 4 - 6).
أرسله الرب إلى تلميذ في دمشق اسمه «حنانيا» وهناك اعتمد بولس بالماء، وامتلأ بالروح القدس.
«وَلِلْوَقْتِ جَعَلَ يَكْرِزُ فِي ٱلْمَجَامِعِ بِٱلْمَسِيحِ إِنْ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ. فَبُهِتَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا: أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي أَهْلَكَ فِي أُورُشَلِيمَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ بِهٰذَا ٱلٱسْمِ» (أعمال 9: 20 و21).
ويقول بولس الرسول: «فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ فِيَّ» (غلاطية 1: 24).
والآن تعال معي لنقرأ شهادة بولس الرسول عن وحدانية الله الجامعة:
«بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُّوُ رَسُولاً، ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي ٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ٱبْنِهِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ: يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا» (رومية 1: 1 - 4).
بولس مُضطَهِد المسيحيين الأولين، يعلن أنه عبد ليسوع المسيح، ويؤكد أن يسوع المسيح هو ابن الله الموعود به في الكتب المقدسة، وأنه صار من نسل داود من جهة الجسد كما تنبأ الأنبياء، وأنه قام من الأموات بقوة الروح القدس، وأنه ربنا.
وفي هذه الآيات الثمينة نرى الآب والابن والروح القدس بصورة لا يمكن إنكارها.
أخيراً نصل إلى شهادة يوحنا الرسول، الذي سجل بالوحي الإلهي المعجزات التي صنعها المسيح في بشارته، فقد اختتم كلماته بعد تسجيله لسبع معجزات قائلاً:
«وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 20: 30 و31).
الهدف من تسجيل معجزات يسوع المسيح هو قيادة الناس إلى الإيمان بأن «يسوع هو المسيح ابن الله» لأن هذا الإيمان هو وسيلة نوال الحياة الأبدية.
ويعود يوحنا الرسول فيقول في رسالته الأولى:
«إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ ٱلنَّاسِ فَشَهَادَةُ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ٱبْنِهِ. مَنْ يُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ فَعِنْدَهُ ٱلشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ. مَنْ لاَ يُصَدِّقُ ٱللّٰهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱلشَّهَادَةِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا ٱللّٰهُ عَنِ ٱبْنِهِ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلشَّهَادَةُ: أَنَّ ٱللّٰهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ هِيَ فِي ٱبْنِهِ. مَنْ لَهُ ٱلٱبْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ» (1 يوحنا 5: 9 - 12).
هكذا شهد الرسل الأولون وآمنوا بوحدانية الله الجامعة، وصدَّق الله تبارك اسمه على شهادتهم، بآيات وعجائب وقوات متنوعة (عبرانيين 2: 4).
ويجب ألا يغيب عن أذهاننا قط، أن كثيرين من الرسل والمؤمنين ماتوا شهداء.. قتلهم أعداء المسيح من الرومانيين الوثنيين أو اليهود المتعصبين.
فاستفانوس رجمه اليهود حتى مات، ويسجل سفر أعمال الرسل استشهاده بالكلمات «فَكَانُوا يَرْجُمُونَ ٱسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: أَيُّهَا ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱقْبَلْ رُوحِي. ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ: يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هٰذِهِ ٱلْخَطِيَّةَ. وَإِذْ قَالَ هٰذَا رَقَدَ» (أعمال 7: 59 و60).
وبطرس الرسول مات مصلوباً على صليب، وصلبوه ورأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلى لأنه رأى أنه ليس مستحقاً أن يُصلب كما صُلب المسيح فاديه.
وبولس الرسول قتله الأمبراطور نيرون إذ فصل رأسه عن جسده بالسيف.
ويوحنا الرسول نفاه الأمبراطور دومتيان إلى جزيرة بطمس حيث رأى هناك المسيح، وسجل سفر الرؤيا آخر سفر نبوي في الكتاب المقدس...
ولا يعقل أن يضحي المسيحيون الأولون بحياتهم، ويقبلوا أن تُحرق أجسادهم، وأن يقدموا طعاماً للأسود الجائعة في الكلوسيم في روما.. وأن يعيشوا في سراديب روما المظلمة إلا إذا كان إيمانهم بلاهوت المسيح إيماناً يقينياً.. فالتفسير الوحيد لاحتمالهم كل هذا الاضطهاد وهذا العذاب وهذا الحرمان من الحرية هو أنهم آمنوا بالله الجامع في وحدانيته.. آمنوا بأن الآب أرسل ابنه يسوع المسيح.. آمنوا بأن ابن الله يسوع المسيح هو بذاته الذي مات فوق الصليب على رابية الجلجثة، واختبروا سكنى الروح القدس في قلوبهم.
هذا هو التفسير الوحيد لتضحيتهم بحياتهم، ولمواجهتهم الاستشهاد مرنمين، حتى أقلقوا الأمبراطور نيرون فكان يصرخ قائلاً: «إن أشد ما يزعجني في هؤلاء المسيحيين أنهم يلاقون الأسود الجائعة التي تنهش أجسادهم وهم يرنمون».
لقد تيقن رسل المسيح بأنه هو الذي صُلب ودُفن وقام، وصعد إلى السماء، وأرسل لهم الروح القدس.. واختبر الذين آمنوا بشهادة الرسل سكنى الروح القدس في قلوبهم.
المسيحيون الحقيقيون في كل العصور آمنوا بلاهوت المسيح.. آمنوا بأنه ابن الله الذي تجسد في الزمان.. وكان هذا إيمانهم في زمن محمد، وسجل القرآن في نصوصه بأنهم نادوا علناً بأن المسيح هو ابن الله.. هو الله ظاهراً في الجسد.
اسم يسوع المسيح أجرى المعجزات:
نتقدم الآن إلى سفر أعمال الرسل، وهو أحد أسفار العهد الجديد، وفيه نقرأ عن العجائب والمعجزات التي أجراها رسل المسيح، والمؤمنون بالمسيح، باسم يسوع المسيح، كما نقرأ عن استجابة الله لصلاة هؤلاء المؤمنين.
إن قارئ سفر أعمال الرسل، وهو سفر موحى به من الله يتيقن من قراءته أن يسوع المسيح هو ابن الله الحي، ولا يمكن أن يقبل عقل إنسان أن يكون هذا السفر من ابتداع الخيال البشري، فالخيال البشري قاصر عن كتابة مثل هذا السفر وبابتكار مثل هذه المعجزات البينات.
ونسجل فيما يلي بعض المعجزات التي سجلها سفر أعمال الرسل وصنعها الرسل والمؤمنون بالمسيح يسوع باسم يسوع المسيح.
وهذه أولى المعجزات:
«وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ ٱلصَّلاَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَكَانَ رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَلُ، كَانُوا يَضَعُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ بَابِ ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ «ٱلْجَمِيلُ» لِيَسْأَلَ صَدَقَةً مِنَ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ ٱلْهَيْكَلَ. فَهٰذَا لَمَّا رَأَى بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا مُزْمِعَيْنِ أَنْ يَدْخُلاَ ٱلْهَيْكَلَ، سَأَلَ لِيَأْخُذَ صَدَقَةً. فَتَفَرَّسَ فِيهِ بُطْرُسُ مَعَ يُوحَنَّا وَقَالَ: ٱنْظُرْ إِلَيْنَا! فَلاَحَظَهُمَا مُنْتَظِراً أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا شَيْئاً. فَقَالَ بُطْرُسُ: لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ قُمْ وَٱمْشِ. وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ ٱلْيُمْنَى وَأَقَامَهُ، فَفِي ٱلْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ، فَوَثَبَ وَوَقَفَ وَصَارَ يَمْشِي، وَدَخَلَ مَعَهُمَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ ٱللّٰهَ» (أعمال 3: 1 - 8).
معجزة ثانية صنعها بطرس الرسول باسم يسوع المسيح:
«وَحَدَثَ أَنَّ بُطْرُسَ وَهُوَ يَجْتَازُ بِٱلْجَمِيعِ نَزَلَ أَيْضاً إِلَى ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي لُدَّةَ، فَوَجَدَ هُنَاكَ إِنْسَاناً ٱسْمُهُ إِينِيَاسُ مُضْطَجِعاً عَلَى سَرِيرٍ مُنْذُ ثَمَانِي سِنِينَ، وَكَانَ مَفْلُوجاً. فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: يَا إِينِيَاسُ، يَشْفِيكَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ. قُمْ وَٱفْرُشْ لِنَفْسِكَ. فَقَامَ لِلْوَقْتِ. وَرَآهُ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ فِي لُدَّةَ وَسَارُونَ ٱلَّذِينَ رَجَعُوا إِلَى ٱلرَّبِّ» (أعمال 9: 32 - 35).
ثم نقرأ كذلك عن حدث عجيب، يؤكد أن الروح القدس هو الله:
«وَرَجُلٌ ٱسْمُهُ حَنَانِيَّا، وَٱمْرَأَتُهُ سَفِّيرَةُ، بَاعَ مُلْكاً وَٱخْتَلَسَ مِنَ ٱلثَّمَنِ، وَٱمْرَأَتُهُ لَهَا خَبَرُ ذٰلِكَ، وَأَتَى بِجُزْءٍ وَوَضَعَهُ عِنْدَ أَرْجُلِ ٱلرُّسُلِ. فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ ٱلْحَقْلِ؟ أَلَيْسَ وَهُوَ بَاقٍ كَانَ يَبْقَى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيعَ، أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ؟ فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ هٰذَا ٱلأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ. فَلَمَّا سَمِعَ حَنَانِيَّا هٰذَا ٱلْكَلاَمَ وَقَعَ وَمَاتَ. وَصَارَ خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا بِذٰلِكَ. فَنَهَضَ ٱلأَحْدَاثُ وَلَفُّوهُ وَحَمَلُوهُ خَارِجاً وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ مُدَّةِ نَحْوِ ثَلاَثِ سَاعَاتٍ أَنَّ ٱمْرَأَتَهُ دَخَلَتْ، وَلَيْسَ لَهَا خَبَرُ مَا جَرَى. فَسَأَلَهَا بُطْرُسُ: قُولِي لِي، أَبِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ بِعْتُمَا ٱلْحَقْلَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ بِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ. فَقَالَ لَهَا بُطْرُسُ: مَا بَالُكُمَا ٱتَّفَقْتُمَا عَلَى تَجْرِبَةِ رُوحِ ٱلرَّبِّ؟ هُوَذَا أَرْجُلُ ٱلَّذِينَ دَفَنُوا رَجُلَكِ عَلَى ٱلْبَابِ، وَسَيَحْمِلُونَكِ خَارِجاً. فَوَقَعَتْ فِي ٱلْحَالِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَمَاتَتْ» (أعمال 5: 1 - 10).
ونقرأ عن معجزة رابعة هي معجزة إقامة تلميذة اسمها طابيثا كانت في يافا.. أقامها بطرس بالصلاة بعد موتها.. وتنتهي القصة بالكلمات:
«فَأَخْرَجَ بُطْرُسُ ٱلْجَمِيعَ خَارِجاً، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى، ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْجَسَدِ وَقَالَ: يَا طَابِيثَا، قُومِي! فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا. وَلَمَّا أَبْصَرَتْ بُطْرُسَ جَلَسَتْ» (أعمال 9: 40).
وإذ نقلب صفحات سفر أعمال الرسل نجد بولس الرسول يجري المعجزات باسم يسوع المسيح... فيضرب عليم الساحر بالعمى لأن هذا الساحر كان يريد أن يفسد الوالي سرجيوس بولس عن الإيمان بالمسيح يسوع مخلصاً ورباً.
«وَأَمَّا شَاوُلُ، ٱلَّذِي هُوَ بُولُسُ أَيْضاً، فَٱمْتَلأَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَشَخَصَ إِلَيْهِ (إلى عليم الساحر) وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلْمُمْتَلِئُ كُلَّ غِشٍّ وَكُلَّ خُبْثٍ! يَا ٱبْنَ إِبْلِيسَ! يَا عَدُّوَ كُلِّ بِرٍّ! أَلاَ تَزَالُ تُفْسِدُ سُبُلَ ٱللّٰهِ ٱلْمُسْتَقِيمَةَ؟ فَٱلآنَ هُوَذَا يَدُ ٱلرَّبِّ عَلَيْكَ، فَتَكُونُ أَعْمَى لاَ تُبْصِرُ ٱلشَّمْسَ إِلَى حِينٍ. فَفِي ٱلْحَالِ سَقَطَ عَلَيْهِ ضَبَابٌ وَظُلْمَةٌ، فَجَعَلَ يَدُورُ مُلْتَمِساً مَنْ يَقُودُهُ بِيَدِهِ. فَٱلْوَالِي حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى مَا جَرَى، آمَنَ مُنْدَهِشاً مِنْ تَعْلِيمِ ٱلرَّبِّ» (أعمال 13: 9 - 12).
وحدث عجيب آخر أجراه بولس الرسول باسم يسوع المسيح نجده في سفر أعمال الرسل في الكلمات:
«وَحَدَثَ بَيْنَمَا كُنَّا ذَاهِبِينَ إِلَى ٱلصَّلاَةِ، أَنَّ جَارِيَةً بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ ٱسْتَقْبَلَتْنَا. وَكَانَتْ تُكْسِبُ مَوَالِيَهَا مَكْسَباً كَثِيراً بِعِرَافَتِهَا. هٰذِهِ ٱتَّبَعَتْ بُولُسَ وَإِيَّانَا وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ ٱلْخَلاَصِ. وَكَانَتْ تَفْعَلُ هٰذَا أَيَّاماً كَثِيرَةً. فَضَجِرَ بُولُسُ وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلرُّوحِ وَقَالَ: أَنَا آمُرُكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا. فَخَرَجَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ» (أعمال 16: 16 - 18).
ونقرأ في سفر أعمال الرسل أيضاً كيف استجاب الله صلاة المؤمنين في أورشليم بعدما تعرضوا للتهديد والاضطهاد.. وجاءت صلاتهم بالكلمات:
«وَٱلآنَ يَا رَبُّ، ٱنْظُرْ إِلَى تَهْدِيدَاتِهِمْ، وَٱمْنَحْ عَبِيدَكَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِكَ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ، بِمَدِّ يَدِكَ لِلشِّفَاءِ، وَلْتُجْرَ آيَاتٌ وَعَجَائِبُ بِٱسْمِ فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ يَسُوعَ. وَلَمَّا صَلَّوْا تَزَعْزَعَ ٱلْمَكَانُ ٱلَّذِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ، وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلاَمِ ٱللّٰهِ بِمُجَاهَرَةٍ» (أعمال 4: 29 - 31).
وأخيراً نأتي إلى شهادة بولس الرسول عن نفسه، وكيف تقابل مع يسوع المسيح الذي قام من الأموات وصعد إلى السماء، وسمع صوته من العلاء.
ذكر بولس الرسول اختبار لقائه العجيب بالرب يسوع المسيح أمام الملك أغريباس فقال:
«فَأَنَا ٱرْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَصْنَعَ أُمُوراً كَثِيرَةً مُضَادَّةً لٱسْمِ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ. وَفَعَلْتُ ذٰلِكَ أَيْضاً فِي أُورُشَلِيمَ، فَحَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْقِدِّيسِينَ، آخِذاً ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذٰلِكَ. وَفِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَاراً كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ. وَإِذْ أَفْرَطَ حَنَقِي عَلَيْهِمْ كُنْتُ أَطْرُدُهُمْ إِلَى ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي فِي ٱلْخَارِجِ. وَلَمَّا كُنْتُ ذَاهِباً فِي ذٰلِكَ إِلَى دِمَشْقَ، بِسُلْطَانٍ وَوَصِيَّةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ، رَأَيْتُ فِي نِصْفِ ٱلنَّهَارِ فِي ٱلطَّرِيقِ، أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، نُوراً مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ ٱلشَّمْسِ قَدْ أَبْرَقَ حَوْلِي وَحَوْلَ ٱلذَّاهِبِينَ مَعِي. فَلَمَّا سَقَطْنَا جَمِيعُنَا عَلَى ٱلأَرْضِ، سَمِعْتُ صَوْتاً يُكَلِّمُنِي بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ: شَاوُلُ شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ فَقُلْتُ أَنَا: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. وَلٰكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال 26: 9 - 18).
بعد هذا اللقاء مع المسيح الموجود في السماء صار بولس رسولاً، كما دعا نفسه عبداً ليسوع المسيح إذ آمن من كل قلبه بحقيقة لاهوته.. وتألم كثيراً لأجل المسيح.. ونادى بوحدانية الله الجامعة في ثالوثه العظيم.
إن الإيمان بوحدانية الله الجامعة يترك أثره العظيم على حياة المؤمن بالمسيح.
فالمؤمن الذي قبل المسيح مخلصاً ورباً، يؤمن بأن الله الآب أحبه فبذل ابنه يسوع المسيح لفدائه، وأن المسيح أحبه فمات طوعاً لأجله كما قال بولس الرسول «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2: 20).. وأن الروح القدس ولده ثانية ويسكن فيه، ويسكب محبة الله في قلبه. «لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللّٰهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا» (رومية 5: 5).
كتب ثيوفيلس الانطاكي كلمة رائعة عن الله الواحد، الجامع في وحدانيته ننقلها فيما يلي:
إن شكل الله فوق تصورنا ولا يمكن وصفه، لأن العيون الجسدية لا تستطيع رؤياه. إنه يسكن في مجد لا يُدرك، وفي جلال لا يُسبر غوره، وفي قوة لا نظير لها.
إذا قلت إنه نور، فإنني أتحدث عن شيء عمله. إذا قلت إنه «الكلمة» فأنا أتحدث عن تعبيره عن ذاته. إذا قلت إنه عقل، فأنا أحدده بحدود عقلي. إذا قلت إنه روح فأنا أتحدث عن حياته، إذا قلت إنه الحكمة فأنا أتحدث عن صفة ملتصقة به، إذا قلت إنه القوة فأنا أصف فقط قدرته، وإذا قلت إنه المدبر فأنا أحدد نفسي بحدود إحسانه، إذا تحدثت عن ملكوته فأنا أشير إلى مجده، إذا دعوته الرب، فلأنه القاضي.. وإذا دعوته القاضي فلأنه العادل البار، وإذا قلت إنه نار، فأنا أصف غضبه.. أما إذا دعوته «الآب» فقد وصفته بكل ما يليق به بعد أن قبلت الرب يسوع مخلصاً لنفسي وسكن الروح القدس في قلبي.
كتب بولس الرسول إلى تيموثاوس هذه الكلمات:
«أُوصِيكَ أَمَامَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُحْيِي ٱلْكُلَّ وَٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ ٱلَّذِي شَهِدَ لَدَى بِيلاَطُسَ ٱلْبُنْطِيِّ بِٱلٱعْتِرَافِ ٱلْحَسَنِ: أَنْ تَحْفَظَ ٱلْوَصِيَّةَ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ لَوْمٍ إِلَى ظُهُورِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي سَيُبَيِّنُهُ فِي أَوْقَاتِهِ ٱلْمُبَارَكُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْوَحِيدُ، مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ، ٱلَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ ٱلْمَوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، ٱلَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، ٱلَّذِي لَهُ ٱلْكَرَامَةُ وَٱلْقُدْرَةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. آمِينَ» (1تيموثاوس 6: 13 - 16).
ويعطي يوحنا الرسول وصفاً ليسوع المسيح في مجيئه الثاني في هذه الكلمات:
«ثُمَّ رَأَيْتُ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَٱلْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً، وَبِٱلْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ»... وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ ٱلأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ ٱللّٰهِ ٱلْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ» (رؤيا يوحنا 19: 11 - 16).
ومن مقارنة الآيات التي كتبها بولس الرسول لتيموثاوس، والآيات التي كتبها يوحنا في سفر الرؤيا نرى أنه كما أن الآب هو «ملك الملوك ورب الأرباب» كذلك ابنه يسوع المسيح هو «ملك الملوك ورب الأرباب» والذي أعلن هذا الحق العظيم هو الروح القدس.
وقبول هذا الحق المعلن في كتاب الله الكريم هو الطريق الوحيد للحياة الأبدية.
بعد أن قدمنا شهادة المسيحيين الأوّلين، لا بد لنا أن نقدم شهادة المسيحيين المعاصرين.
وهذه شهادة مهندس مصري يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية رأينا عدم ذكر اسمه لاعتبارات لا تُخفى على القارئ الكريم.
الوالد المحبوب الدكتور لبيب ميخائيل
تحية مسيحيّة:
في هذه الرسالة أحب أن أحدثك عن اختباري في التعرف على المسيح، والمسيحيّة.. أنا نشأت في بيئة متعصبة دينياً.. وُلدت مسلماً، وتربيت على الديانة الإسلامية. كانت أمي تسمي المسيحيين «عظمة زرقاء» وأنا لا أعرف معنى أو أصل هذه التسمية، لكني تربيت على ألا أثق في المسيحيين ولا أكن لهم الاحترام.
مع كل هذه العوامل كنت أملك نوعاً من الفضول للتعرف على المسيحيّة التي كنا نسميها ديانة الكفر والكفار.
عندما جئت إلى الولايات المتحدة، والواقع قبل مجيئي إلى الولايات المتحدة، قررت عدم اقتناعي بالدين الإسلامي. رأيت في الإسلام أشياء لم يهضمها عقلي.. الله يسمح للرجل المسلم بالزواج من أربع نساء.. هذا يجعل المرأة ملهاة للرجل وهدفاً لمجرد إشباع شهوته الجنسية.. هذا ينفي وجود الحب الصحيح بين الزوج وزوجته.. ورأيت أن النبي محمد وقد سمح بأن يتزوج المسلم أربع نساء، تزوج هو تسع نساء غير محظياته وبهذا وضع نفسه فوق القانون الذي قال إنه قانون الله للمسلمين.. كذلك رأيت أن القرآن يتحدث عن الأرض باعتبارها مسطحة فيقول: «أفلا ينظرون إلى الأرض كيف سطحت» بينما قرر العلم بما لا يدع مجالاً للشك أن الأرض كروية.
أشياء أخرى كثيرة في القرآن أبعدتني عن الإسلام.
ومع عدم اقتناعي بالدين الإسلامي، فإن كرهي للمسيحيين كان متأصلاً في أعماق قلبي.
ذات يوم وصلني كتابك المكتوب بالإنجليزية بعنوان Muslim - Christian Debate in Canada.. هذا الحوار الذي دار بينك وبين الدكتور جمال بدوي إمام المسلمين في نوفاسكوتيا بكندا.. وكان كتابك يحوي ما قدمته أنت عن المسيح في هذا الحوار الذي كان موضوعه كما فهمت من كتابك «هل المسيح هو الله؟».
قرأت كتابك باهتمام، ووجدت به أشياء جريئة تؤكد أن المسيح هو الله.. ومع أنني لم أكن متمسكاً بالدين الإسلامي، لكنني كنت متعصباً ضد المسيحيّة، وخاصة ضد المسيحيين العرب.. اتصلت بك تليفونياً وأنا في غاية الغضب، وبعد مناقشة حادة على التليفون، عدت لقراءة كتابك عدة مرات.
في البداءة شعرت بالخوف من «إله محمد». .وقبل النوم كنت أردد «لا إله إلا الله محمد رسول الله».. لكنني مع استمراري في قراءة كتابك المرة تلو الأخرى انتهى خوفي بالتدريج من يوم الحساب الذي هددنا به محمد.. وآمنت أن الرب عطوف حنون محب.. أظهر وبيَّن محبته لنا بكيفية واضحة بموت المسيح على الصليب.. وليس إلهاً قاسياً يهدد الناس بنيران السعير وبئس المصير.. وتفتح قلبي للإيمان بالمسيح مخلصي، وامتلأت بسلام عجيب إذ آمنت بالله الحقيقي الآب والابن والروح القدس.
أعترف أن قرآن محمد سبّب لي آلاماً متعددة، وملأ ذهني بالحيرة والارتباك، ولم يقدّم لي أي يقين عن مصيري بعد الموت.
أما المسيح فقد أعطاني بنعمته رجاء الحياة الأبدية.. ليست الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار وفيها نساء حور العيون، وأنهار من خمر مصفى... بل السماء عينها حيث أرى الله بجسدي الجديد الذي سيعطيه المسيح لي في مجيئه الثاني.
في الختام، أنا لست إنساناً كاملاً، لكنني بنعمة الله الآب، وبقوة ابنه يسوع المسيح، وبالروح القدس الساكن فيَّ سأعيش حياة مليئة بالفرح والسلام منتظراً عودة الرب يسوع فادي الأنام.
26 يوليو (تموز) 1991
ابنك
فيما قلناه في هذا الكتاب الكفاية لمن يهمه مصيره الأبدي بعد الموت... فالإيمان القلبي بالمسيح الفادي هو وسيلة نوال الخلاص من عقاب الخطية، ونوال الحياة الأبدية.
«اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 3: 36).
أيها القارئ العزيز،
اقرأ هذا الكتاب بتأنٍ وتمعّن. لتختبر معلوماتك وتحدد موقفك بدقة تجاه هذا الموضوع الخطير، اكتب اجابتك وافكارك عن الاسئلة التالية. نحن بانتظار اجوبتك.
هل يستطيع الإنسان بقدراته العقلية الوصول إلى معرفة الله؟ لماذا؟
أعد كتابة الفقرة من رومية 1: 18 - 23 واشرح عن ماذا تتحدث.
ماذا كان السبيل لمعرفة الله الحي الحقيقي؟
اذكر آية قرآنية تنفي التحريف عن الكتاب المقدس، وتشهد بصحته.
كيف تثبت استحالة حدوث تحريف في الكتاب المقدس من خلال الفقرتين في سورة الحجر 15: 9 وسفر المزامير 119: 89.
ماذا يقول الكتاب المقدس عن الله؟ اذكر شاهدين.
الله «قدوس» فسّر هذا القول.
هل تستطيع الأعمال الصالحة التكفير عن سيئات المؤمن المسلم؟ لماذا؟
هل تستطيع الذبائح الحيوانية التكفير عن سيئات المؤمن اليهودي؟ لماذا؟
كيف يغفر الله للإنسان المذنب خطاياه مع احتفاظه بكمال رحمته وكمال عدله؟
لماذا تجسد الله؟
لماذا كان المسيح هو الشخص الوحيد الذي يستطيع القيام بدور المصالحة بين الله والإنسان؟
لماذا تحتم موت المسيح بالضرورة على الصليب؟
ما تعليقك على قصة أن الله ألقى شبه المسيح على غيره ليخلصه من الموت؟
من نطق بالكلمات السبع على الصليب، المسيح أم شبيهه؟ لماذا؟
اذكر ثلاث نبوات عن صلب المسيح ودفنه وقيامته جاءت في العهد القديم وتمّ تحقيقها في العهد الجديد.
اذكر آية من القرآن تؤكد موت المسيح؟
كيف دخلت الخطية إلى العالم؟
«إن حقيقة سيادة الموت على كل إنسان.. تؤكد حقيقة وراثة كل إنسان للخطية..» اشرح هذا القول.
هل الاعتراف بأن المسيح هو الله يأتي بمجهود عقلي؟ لماذا؟
ما هو القصد الأساسي من تجسد المسيح؟
ما معنى بنوّة المسيح لله؟
اذكر شاهدين من القرآن يثبت فيهما إمكانية تجسد الله.
من بين أسماء الله الحسنى التي يفتقر إليها المسلم في القرآن: «محبة» و «الفادي» و «الآب». ما هو تعليقك؟
ما هي علامة المسيحي الحقيقي المميّزة؟
ما رأيك في اختبار المهندس المصري؟
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the-good-way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland