Table of Contents
- Bibliography
- السؤال الأول: ما معنى قولكم إن يسوع هو الله ظهر في الجسد، وإن كان هذا هو اعتقادكم فما حمله على التجسُّد؟
- السؤال الثاني: من المعلوم أن الله في غنى عن العالم والساكنين فيه. وإن كل صلة له مع الخلائق تجعله تعالى في حيز الزمان والمكان، وبالتالي تنسب إليه المفعولية وهذا كفر. ثم هذا التجسد الذي تعتقد به المسيحية، ألا يعني إنتقال جزء من الله إلى جسد المسيح؟
- السؤال الثالث: ألا يستطيع الرحمن خلاص الناس إلا بإرسال ابنه - على فرض أن لله ابناً كما تزعمون - ليتخذ جسداً ويتجرب بتجاربنا، ثم يقتل بأيدي الأشرار؟
- المسابقة
ف. ك. طرابلس - لبنان
(1) إن أول شيء تعلنه لنا الحقيقة أن النفس البشرية لا تستطيع من ذاتها بلوغ الكمال الذي تنشده، لأن ناموس الخطية لها بالمرصاد. وقد كشف الرسول لنا هذه الحقيقة، إذ قال: «إِنَّ ٱلإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ ٱلشَّرَّ ٱلَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ. إِذاً أَجِدُ ٱلنَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى أَنَّ ٱلشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي. فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ ٱللّٰهِ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ. وَلٰكِنِّي أَرَى نَامُوساً آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ ٱلْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي» (رومية 7: 18 - 23).
(2) فكلمة الرسول هنا تقدم لنا وصفاً للصراع، القائم في نفس الإنسان بين النعمة والفساد. بين ناموس الله الذي يسر به الإنسان ويريد أن يعمل بموجبه، وبين ناموس الخطية، التي تجذب الإنسان وتسبيه، وتحمله على صنع ما لا يريد. ولكن الرسول الكريم إذ شاء التحرر من ناموس الخطية والموت أطلق صرخته الداوية نحو السماء: «وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هٰذَا ٱلْمَوْتِ؟» (رومية 7: 24) حينئذ تراءى له المنقذ في شخص الكلمة المتجسِّد فتهلل قائلاً: «أَشْكُرُ ٱللّٰهَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا!» (رومية 7: 25).
وهذا السر تكشف قبلاً لرجل الله أيوب، حين عجت عليه المصائب والآلام، غمراً ينادي غمراً. ومن قلب حاجته إلى وسيط بينه وبين الله قال في شكواه: «لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا! لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ وَلاَ يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ. إِذاً أَتَكَلَّمُ وَلاَ أَخَافُهُ. لأَنِّي لَسْتُ هٰكَذَا عِنْدَ نَفْسِي» (أيوب 9: 33 - 35) فتجسد الأقنوم الثاني لله، كان إذاً حاجة الإنسان الملحة، ليفتديه ويرجعه إلى إلهه ويصالحه معه.
(3) كل إنسان يعرف من اختباره الشخصي أن الميول الفاسدة ساكنة في جسده، وهو للأسف يطاوعها. وإننا لنذكر القول الرسولي: «ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 23)... «إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا» (1 يوحنا 1: 8) وفي الإسلام إقرار بهذه الحقيقة، كقول القرآن: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ» (سورة النحل 16: 61) ومن هنا يتضح لنا تاريخياً، علاوة على ظهوره فكرياً أن الإنسان الطبيعي لا يمكن أن يبلغ قمة قواه الروحية، حتى يتحد ويقاد بما هو أسمى وأرقى من الإنسان.
(4) إلى هنا كان البحث محصوراً في توضيح ضعف الإنسان، وعجزه عن السمو إلى الصورة التي كانت لآدم قبل السقوط. ولكن الوقوف عند هذا الحد معناه الخيبة. ونحن لا نستطيع أن نتصور أن خيبة مثل هذه، هي من مقاصد الله القادر على كل شيء. كلا! فالرب صالح وإلى الأبد رحمته. وهو في صلاحه لا يترك الإنسان المخلوق على صورته في حال سيئة كهذه، تؤدي به إلى الهلاك. فإذ قد عجز الإنسان عن إكمال مقصد الله، فالله سيقيض له كائناً آخر يكمله. فمن هو؟ هو كائن من المخلوقات بالغ كمال القداسة؟ أم هو الله نفسه؟
(5) لنحرص على التمسك بالأمور الراهنة الأكيدة، ولا نحاول التعلل بنظرياتنا، حتى ولو كانت مؤسسة على قواعد لها جذور في بعض الأديان. لأن الاستسلام لها يفضي لا محالة إلى الزيغ عن محجة الصواب. ولنذكر هذه الحقيقة أنه ليس من دين ينكر أنه في الإنسان ميل، لأن يكون له اتصال مباشر بالله. فإلى الله يصلي الناس، ومنه يطلبون العون والهدى. وهو فعلاً يعين ويهدي أقدام المؤمنين في طريق السلام. والأعظم من هذا أننا ندرك جميعاً أن الغرض من الأشياء الرمزية التي يطلق عليها اسم الأمور الغامضة، إنما هو ارتباط النفس التام بالله. هكذا قال رجل الله العلامة أغسطينوس في صلاته: «أيها الرب، لقد خلقتنا لنفسك. فلا تطمئن نفوسنا، إلا بالاستراحة في ظلك الإلهي».
إذن لا سبيل للظن أن بين الله والإنسان وسيطاً مخلوقاً، حتى ولو كانت طبيعته فوق الطبيعة البشرية. فالأدلة متوافرة على ما هو نقيض ذلك. إذن إن كان لا بد من بلوغ الخليقة إلى ذلك الكمال، الذي قصده الله لها، وكان لا بد من افتداء الإنسان، تحتم أن يكون هذا كله بعمل الله نفسه. له الحمد والمجد إلى الأبد.
ولإتمام هذا القصد اقتضى أن يكون في اللاهوت أقانيم، ليتم التجسد في اختيار أقنوم منها دون غيره. هكذا صارت المسرة الإلهية، أن يفتدي الرب جنسنا الذي سقط في الخطية وليس له رجاء ولا معين غير الله متجسداً. لأنه وحده قادر على ما يقتضيه الخلاص. فلوازم التجسد هي باعتبار الله أن يتخذ جسداً بواسطة أقنوم من الأقانيم.
هنا لست في معرض الرد على السؤال القائل: أما كان في وسع الله أن يخلّص الساقطين من غير تجسد؟ إلا أنني أؤكد بالاستناد على كلام الله أن التجسد طريق موافق ولائق، وفي غاية المناسبة، وفريد في الحكمة لأجل إتمام المقصود. وإن حدوث التجسد يرجح غاية الترجيح، إن ذلك ضروري لإتمام قصد الله بكماله في عمل الفداء. وإن حال البشر الساقطين، تطلب ذلك وتحتاج إليه.
(6) وهناك حقيقة يجب أن أذكرها وهي أن الله له المجد إذا شاء أن يبلغ بالخليقة أوج العلى بأن يضمها إلى نفسه بواسطة ما، فإنه يعمل ذلك لا بأمر إلهي خارجي على سبيل كن فكان. بل بحلوله في أسمى درجات خليقته، أو بعبارة أخرى، بظهوره نفسه في صورة إنسان كامل.
(7) حين نتأمل التعليم الخاص بالفداء، كما جاء في الأسفار المقدسة، نرى أن الوسيط بين الله والناس يجب أن تتوافر فيه الصفات التالية:
أ - أن يكون إنساناً، والرسول أوضح أن سبب اتخاذ الأقنوم الثاني لله، طبيعة البشر لا طبيعة الملائكة، هو أنه أتى ليفدينا، فكان ضرورياً أن يولد تحت الناموس، الذي خالفناه لكي يكمل كل بر. وأن يتألم ويموت ذبيحة، لكي يكفر عن خطايانا. وأن يشترك في حياتنا البشرية، لكي يشعر بضعفاتنا (عبرانيين 2: 14).
ب - أن يكون بدون خطية. فإن الذبيحة التي كانت تقدم على المذبح، كان يجب حسب الناموس أن تكون بلا عيب. بمعنى أنه من المستحيل أن يكون المخلّص من الخطية خاطئاً، لأنه لا يقدر أن يصل إلى الله. ولا يمكن أن يكون مصدراً للقداسة والحياة الأبدية لشعبه، إن لم يكن هو باراً قدوساً. ولذلك وجب أن يكون رئيس كهنتنا قدوساً، بلا شر ولا دنس ومنفصلاً عن الخطية (عبرانيين 7: 26).
ج - أن يكون إلهاً، لأنه لا يقدر أن ينزع الخطية، إلا دم من هو أعظم من مجرد مخلوق. والمسيح في حال كونه إلهاً، بتقديم نفسه مرة واحدة ذبيحة. أكمل إلى الأبد المقدسين (عبرانيين 7: 27، 9: 26). وكذلك لا يقدر إلا شخص إلهي أن يبيد سلطان الشيطان، وينقذ الذين قد سباهم، ولا يقدر على إتمام عمل الفداء العظيم، إلا من هو قادر على كل شيء، وله حكمة ومعرفة غير محدودتين، ليكون رئيس كنيسته ودياناً للجميع. ولا يقدر أن يكون مصدر الحياة الروحية لجميع المفديين، إلا من حل فيه كل ملء اللاهوت جسدياً.
(8) فجميع هذه الصفات التي نص الكتاب المقدس على ضروريتها، لتأهيل الوسيط للقيام بالوساطة بين الله والناس، قد اجتمعت في المسيح، حسب مقتضى العمل الذي جاء لإتمامه.
ونتج من ثبوت تلك الصفات للمسيح، أن وساطته التي تشمل كل ما فعل وكل ما زال يفعل لخلاص البشر، هي عمل شخص إلهي. فجميع أعمال المسيح وآلامه في إجراء وساطته، كانت أعمال وآلام شخص إلهي. فالذي صُلب هو رب المجد، والذي سكب نفسه للموت هو الأقنوم الثاني لله.
(9) إذا التفتنا إلى التاريخ، علمنا منه أنه عاش على هذه الأرض إنسان، كانت حياته مظهراً جلياً تاماً للعنصرين، اللذين يتألف منهما صلاح البشر الكامل. وهما الارتباط الدائم بالله والمحبة المنقطعة النظير لبني جنسه. لقد جال يعظ ويبشر، ويصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس. وأطلع الناس على رأي جديد في الله، قائلاً إنه عز وجل يهتم بكل إنسان على حدة، كما يهتم الأب بأولاده، وأن الله يستقبل كل خاطئ تائب، مرحّباً به كما يرحّب الأب بابن تائه ضال عائد إلى أحضانه.
(10) و (11) وعلاوة على ما أبداه من تعاليم المحبة وأعمال الرحمة، دعا إليه جماعة من التلاميذ ليقيموا معه ويتعلموا كلمات فمه وقوة مثاله. فكانوا يوماً بعد يوم، يزدادون نمواً في معرفتهم له وتعمقاً في الوقوف على كنه أفكاره، وتضلعاً من فهم معنى أمثاله الخفية. فارتشفوا من زلال روحه، وتعلموا ثقته وشاركوه في اتصاله بالله. ولكن العالم الشرير اضطرب خوفاً منه. وأولئك الذين أغمضوا عيونهم عن الحق، واتكلوا على برهم الذاتي. ثاروا عليه وساقوه إلى المحاكمة، واتهموه بالتجديف وكسر الناموس، وتمكنوا من إصدار الحكم عليه بالموت. فماذا فعل؟ أبى الدفاع عن نفسه، على شدة ثقته بأنه لم يكن عليه سوى إصدار أمره، فيأتي اثنا عشر جيشاً من الملائكة لإبادة أعدائه. ولكنه لم يشأ أن يستعمل شيئاً مما كان لديه من وسائل النجاة. ولكي يعلن جلياً معنى المحبة - محبة الله - أسلم نفسه إلى النهاية. ولكي يرسخ في عقول الناس شدة هول الخطية وفرط فظاعتها في عيني الله، أذن لها في تعذيب إنسانه الكامل، زهرة الإنسانية نفسها، المنزّه عن كل عيب. ولكي يغلب الشر، تحمل كل غاراته وغزواته حتى الموت، لكي يشارك الإنسان في جميع منازعاته ويمهد له سبيل الغلبة والظفر. وهكذا انتصر.
(12) ففي اليوم الثالث قام. وكان قد قال «لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا 10: 17 و18) وهكذا فعل. فكمل العمل وتم الإعلان الإلهي، إذ بذلت المحبة إلى أقصى درجة منها، وقوة الشر على أشدها كوفحت وغُلبت. وتمت نصرة الخير على الشر.
(13) وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة في تلاميذه، الذين عرفوه حق المعرفة، اقتناعاً تأصل ونما في أثناء معاشرتهم له. لكنه أزهر عندما ظهر لهم بعد قيامته، أنه لم يكن إنساناً ولا كائناً أرقى درجة من الإنسان فقط، بل رأوا فيه صفة الله نفسه. وأنه ادعى أموراً من التجديف أن يدعيها أحد غير الله. وقد ثبت كل ما ادعاه ثبوتاً حقيقياً. وأنه مستحق سجودهم له، وأنه بالحقيقة كان الله عائشاً عيشة إنسان، وفي الوقت نفسه يسود الكون من على عرشه في السماء.
(14) وهذا الاختبار لم ينحصر في تلاميذ الرب يسوع، الذين اتصلوا به مباشرة، بل شاع وانتشر على قدم السرعة بين كثيرين غيرهم. لأن التلاميذ بشروا به، مؤيدين بقوة روحه، الذي أرسله ليقوم مقامه.
ثم إن الاقتناع بأن يسوع الناصري، كان إلهاً وإنساناً معاً، لم ينته بموت الذين عرفوه في الجسد، ولماذا؟ لأنه لم يبن على بدعة دينية، ولا على كرازة أو تعليم، بل على اختبار شخصي شعر به المسيحيون في كل العصور، وعلى اقتناع تام بأن يسوع لا يزال حياً، ولا ينفك يرتبط ارتباطاً شخصياً بجميع الذين يطلبونه. وهذا الارتباط لا يقف حاجزاً بينهم وبين الله، بل هو بالحقيقة ارتباط بالله نفسه.
(15) وهذا الأقنوم، يسوع المسيح ليس كائناً جامداً غير كامل. بل هو اليوم مالئ العالم كله - هنا وهناك وهنالك، في كل مكان وجهة، يضع يده على الإنسان. ويقول له: «اتبعني» فيخاف الإنسان ويجيبه: «إن خدمتك يا سيدي صعبة المراس، وثقيلة الحمل، فلا أستطيعها. لا أقدر أن أقتفي خطواتك، دعني وشأني يا سيد، لأني إنسان خاطئ». فيقول الرب يسوع: «استودعني حياتك اجعلها في حفظي. اتكل عليّ وآمن بي تكفيك نعمتي». فيلبي الإنسان دعوته، ويصير من أتباعه. واليوم ما زال يسوع في الطريق وينادي: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ... اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ...» (متّى 11: 28 وإشعياء 45: 22) يسمع النداء كثيرون ويقبلون إليه منجذبين بنعمة شخصيته الإلهية. واليوم هو معروف في إفريقيا السوداء. حيث ينضم الناس أفواجاً إلى جماعته، ويجدون النجاة من سلطة الأرواح الشريرة وسطوة السحرة والعرافين. وفي كل أمة وشعب وطبقة أناس غيّرهم يسوع. وهم يحيون حياة تختلف عما كانت عليه قبلاً، حياة بدأت بالإثم وشهوة الجسد وتعظّم المعيشة. والآن يعيشون كما يحق لإنجيله، في البر وقداسة الحق. وإذا سألتهم عن منشأ هذا التغيير العظيم فيهم، أجابوك: «هذا كله حصل بفضل معرفة يسوع المسيح ربنا».
إذن في استطاعتنا القول بملء الثقة إن حياة يسوع الناصري، توّجت عمل الله في الخليقة وبلغت به أوج السمو والكمال. وفيه وصل هذا العمل إلى درجة الإتقان التام. وبه بلغت الحياة والروح قصد الله، وبه أيضاً تأصل كل الذين قبلوه في المحبة، وامتلأوا إلى كل ملء الله. وبتعبير آخر أن النفس البشرية المؤمنة به صارت إلى غاية وجودها العظمى، التي هي الاتحاد بالله نفسه ورفع الخليقة إلى الله خالقها.
(16) هذا هو حكم التاريخ وقراره. ولكن من حيث يسوع المسيح، لا يراد بالإنسان الكامل مجرد خلاصة الكون، ومرآة الجوهر الإلهي، والصلة بين الله وخليقته فقط. بل إنما هو الإنسان الكامل، لأنه في الوقت نفسه الإله الكامل، لأنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي 2: 9). ولأنه ليس حلقة الاتصال، بل هو اتحاد حقيقي. وليس مرآة الجوهر الإلهي، يتألق ساطعاً بواسطة حياة إنسانية. بل «هُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين 1: 3) هو «ٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا 1: 1 - 3). فهو والحالة هذه مستحق أن يأخذ القوة والغنى والحكمة والقدرة والكرامة والمجد والبركة، آمين.
ع. ش. بيروت، لبنان
(17) رويدك أيها الصديق الكريم، فالإسلام الذي تدين به يجعل الله في حيز الاتصال مع مخلوقاته وضمن الزمان والمكان. فأنت تؤمن بأن الله بعث برسول إلى الناس. وهذا معناه إقامة صلة مع مخلوقاته، فقد جاء في القرآن: «إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً» (سورة المزمل 73: 15 و16). والأكثر من هذا أن القرآن يحرض الإنسان على إقامة صلة مع الله خالقه، وأن الله يحب ذلك بدليل قوله: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ» (سورة آل عمران 3: 159).
قد تقول إن هذه التعبيرات الكلامية هي من قبيل المجاز. ولكن هذا اجتهاد على النص، ولا يمكنه أن يثبت أمام الحقيقة. لأن حوادث كثيرة من هذا النوع، ذكرت فيها أسماء أشخاص قاموا بأعمال بناء على أمر الله كما في قول القرآن: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ ٱلْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ» (سورة الأعراف 7: 59 - 62). فهذه الآيات لا يمكن أخذها مأخذ المجاز. لأن فيها إشارة إلى حوادث معينة.
(18) وماذا تقول عن الحديث النبوي الخاص بالصلوات التي فرضت على المسلمين. فقد حدّث ابن اسحاق عن ابن مسعود عن رسول الله أنه قال في قصته عن ليلة المعراج: «إن جبريل انتهى بي إلى ربي، ففرض عليّ خمسين صلاة كل يوم. فأقبلت راجعاً فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم، سألني كم فرض عليك من الصلاة، فقلت: خمسين صلاة كل يوم. فقال: إن الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي، فوضع عني عشراً. ثم انصرفت فمررت على موسى، فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألت ربي، فوضع عني عشراً. ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألته فوضع عني عشراً. ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قائلاً، ارجع فاسأل ربك، حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عني إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة. ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثل ذلك، فقلت: قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل. فمن أداهن منكم إيماناً بهن واحتساباً لهن كان له أجر خمسين صلاة» (سيرة النبي لابن هشام 3: 276).
(19) فهذا الحديث أضعه أمامك لتقرر على ضوئه إن كان لله صلات مع مخلوقاته وأن لهذه المخلوقات علاقة بالله. واستطراداً أقول لك بمحبة: إن كنت تتمسك بعقيدة التنزيه المطلق، تكون قد آمنت بإله لا تعرف عنه شيئاً، وبالتالي أنت منفصل عنه كل الانفصال. وفي هذه الحالة تكون ضمناً قد أنكرت النبوة والقرآن. لأن النبي لا يصح أن يسمى نبياً إن لم يوح إليه ويرسل، وبذلك يقيم صلة بين الله والمخلوق.
(20) وجاء في الحديث أن ربنا تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الأخير يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له (صحيح البخاري 4: 68). فما هذا النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا عند ثلث الليل الأخير، فهل يتحدد بالنزول في زمان ومكان؟ وهل يفرق هذا عن نزوله من سماء المجد إلى بيت لحم متجسداً في زمان ومكان؟
في اعتقادي أن التنزيه المطلق، الذي يقول بانفصال الله عن الكائنات، يجعله تعالى إلهاً منعزلاً، وبالتالي يفضي إلى التعطيل في الأمور الروحية. لأن الإنسان لا يمكن توبته وتجديده في معزل عن الله. وقد عرف بالاختبار أن كل مجهودات الإنسان الذاتية لرفع نفسه من حال الخطية إلى حال القبر، لا تجديه فتيلاً إن لم تكن له صلة بالله. قال المسيح في عظته على الجبل: «وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟» (متّى 6: 27) وبالنتيجة، نرى أن التنزيه المطلق هو الذي أعاق الكثيرين عن قبول فكر التجسد، وبذلك حرموا أنفسهم من فوائد الفداء. إلا أن هؤلاء في رفضهم تعليم التجسد يقدمون عدة اعتراضات منها:
(21) يقولون إن تجسد الله يحتم عليه تغييراً في جوهره الإلهي في زمان ومكان معين، لكأنهم يقيسون الله بمقاييس العقول القاصرة، وبالتالي ينسبون وبطريق غير مباشر العجز لله، وعدم قدرته على التجسد والظهور دون حدوث تغيير في جوهره. والحق أن التجسد لا يحتم حدوث تغيير في الطبيعة الإلهية. ودليلنا على ذلك أن الأقنوم الثاني لله، لما اتحد بالطبيعة البشرية لم يفقد ألوهيته. بل بقي ذلك الرب القدير، الذي يقيم الأموات ويشفي الأكمه والأبرص، ويغفر الخطايا، وينتهر العواصف والأمواج فتهدأ. وقد أخبرنا الإنجيل أنه ظهر في الجسد بطريقة غير اعتيادية. لأنه هو خالق الأجساد والطبائع، ولا يصعب عليه الاتحاد بها. وكل اعتقاد يخالف هذه الحقيقة، هو بمثابة إقرار بأن خالق الأجساد والطبائع ليس هو الله بل أحد غيره.
(22) من المعروف بالاختبار أن الإنسان الحكيم العاقل يقدر أن يوفق نفسه مع البيئة والظروف التي يعيش فيها، فكم بالحري الله الحكيم جداً والقادر على كل شيء، يقدر أن يتجسد دون أن يعتريه تغيير أو تبديل في جوهره؟
لاحظ أن الشمس ترسل أشعتها ودفئها إلى الأرض وتتحد بالكائنات وتكسبها حياة وتنميها، دون أن يعتري الشمس أي تغيير في تركيبها. فهل يعقل أن يكون للشمس قوة الاتحاد مع العناصر الأخرى وأن تفعل فيها، دون أن يطرأ عليها تغيير، ولا تكون هذه القوة لله خالق الشمس وخالق العناصر؟
أنت تعتقد بأن الله خلق الإنسان الأول من صلصال كالفخار (سورة الرحمن 55: 14). وهذا يعني أن الله قد وقف عند حد الزمان والمكان، لأنه أمسك بيده طيناً من بقعة محدودة وكون الإنسان منه في زمان محدود. فإن قلت إن وقوفه عند مكان وزمان محدودين، لا يجعله محدوداً لأنه قادر على كل شيء، قلت لك: وكذلك تجسده في زمان معين وحيز معين لا يجعله محدوداً، لأنه قادر على كل شيء. هكذا قال المسيح : «غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (لوقا 18: 27).
(23) جاء في الحديث عن محمد أنه قال: «إن المؤمنين حين يتشفعون ربهم يوم القيامة. يأتون إليّ. فأنطلق فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي. فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً» (صحيح البخاري 4: 18).
من هنا ينطلق سؤال: كيف يتهم المسيحي بالكفر عندما يقول إن الله ظهر في الجسد، ولا يتهم الذي يقول إن الله تحتويه دار؟
(24) جاء في سورة البقرة 2: 115: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ» وجاء في سورة الرحمن 55: 26 و27: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ». وجاء في سورة الدهر (الإنسان) 76: 9: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً».
وجاء في سورة الحديد 57: 29: «أَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ». وجاء في سورة الفتح 48: 10: «إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ». وجاء في سورة الملك 67: 1: «تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
وجاء في سورة هود 11: 37 قوله لنوح: «وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا» وجاء في سورة الطور 52: 48 قوله لمحمد : «وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا». وجاء في سورة طه 20: 38 و39 قوله لموسى: «إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ... يَأْخُذْهُ عَدُّوٌ لِي وَعَدُّوٌ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي».
وجاء في الحديث عن أبي هريرة، عن محمد أنه قال: «خلق الله الخلق، فلما قامت الرحم فأخذت في حقو الرحمن»(صحيح البخاري 3: 114).
فهذه النصوص تقول إن لله وجهاً ويداً وعيناً وحقواً وهي من أعضاء جسد الإنسان. فإن كان تجسد الله يحسب كفراً فكيف نفسر هذه الآيات؟
(25) كيف يحل الله القدوس في بطن امرأة. وسط الدم ونجاسة الحبل والولادة؟ وكيف يحل في جسد بشري ويأكل ويجوع، ويشرب ويعطش ويبول ويتغوط؟
لعل القائلين بهذا لم يفهموا قول ملاك الله: إن الذي حبل به في مريم هو من الروح القدس. فإن كان الله أقدس من أن يلمس دم امرأة، فكيف يؤمنون بأن الله أخذ ضلعاً من آدم وصنع منها امرأة؟ وما قولهم في الحديث عن عائشة أنها قالت: «كان النبي يتكئ في حضني وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن؟» (صحيح البخاري 1: 44).
فإن كان الدم نجساً، وإن كان القرآن هو كلمة الله الأزلية القائم بذات جوهر الله، ولا يقبل الانفكاك والانفصال عن الله، فكيف يجيز إذاً محمد لنفسه، أن يتلوه وهو مضطجع في حجر عائشة الحائض. ولا يجوز أن يحل ويتجسد في أحشاء القديسة مريم؟
جاء في سورة الحجر 15: 28: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ». وقد فسر الجلالان الحمأ المسنون بالطين الأسود. فإن كان الطين الأسود لم يحط لمسه من قدر الله ولم يدنسه، فكم بالحري بعد أن سوى منه الإنسان وجعله تاجاً لمخلوقاته، لا يأنف أن يحل فيه؟ شكراً لله لأجل كلمته في بولس: «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ، وَرُوحُ ٱللّٰهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟» (1 كورنثوس 3: 16). وإن كان الله القدوس لا يرى ضيراً أن يسكن بروحه في المؤمن، فكم بالحري يسكن في جسد يسوع الذي لم يعرف خطية، ولم يولد من زرع بشري؟
(26) جاء في سورة القصص 28: 29 و30: «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِىء ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقَعْةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ».
ووردت القصة عينها في سورة طه 20: 9 - 13 هكذا: «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَاراً لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى».
وقد فسر الإمام فخر الدين الرازي القصة هكذا: استأذن موسى عليه السلام شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له. فخرج فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية، وكانت ليلة الجمعة، وقد حاد عن الطريق. فقدح موسى عليه السلام النار، فلم تور المقدحة شيئاً. فبينما هو في مزاولة ذلك، إذ نظر ناراً من بعيد عن يسار الطريق. قال السدي: ظن أنها نار من نيران الرعاة. وقال محدثون آخرون أنه عليه السلام رآها في شجرة... فلما أبصر توجه نحوها، فقال لأهله امكثوا إني أبصرت ناراً، لعلي آتيكم منها برأس عود أو فتيلة. فلما أتاها قال ابن عباس: رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها. كأنها نار بيضاء. فتوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة. فلا النار تغير خضرتها، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار. فسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً... فلما رأى موسى ذلك، وضع يده على عينيه فنودي: يا موسى إني أنا ربك، فقال لبيك، إني أسمع صوتك ولا أراك، فأين أنت؟ فقال أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك... فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس (التفسير الكبير جزء 22 صفحة 14 - 15).
أما في الكتاب المقدس فقد وردت القصة هكذا: «وَظَهَرَ لَهُ (أي لموسى) مَلاَكُ ٱلرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ، فَنَظَرَ وَإِذَا ٱلْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِٱلنَّارِ، وَٱلْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ!... فَلَمَّا رَأَى ٱلرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ ٱللّٰهُ مِنْ وَسَطِ ٱلْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: «مُوسَى مُوسَى». فَقَالَ: «هَئَنَذَا». فَقَالَ: «لاَ تَقْتَرِبْ إِلَى هٰهُنَا. ٱخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ» (خروج 3: 2 - 5).
فيا صديقي الكريم، إن كان الله لكي يكلم موسى ويحمله رسالة إلى البشر، استحسن أن يحل في شجرة ويظهر في هيئة نار، أفلا يكون من التجني أن ينعت المسيحيون بالكفر، لأنهم يؤمنون بأن الله لكي يعلن ذاته في المحبة، ظهر في يسوع المسيح؟! وهل الشجرة التي بدا الله فيها، أعظم شأناً من المسيح؟
(27) والآن أعود لأقول لك إن كان يسوع وهو في الجسد قد أكل وشرب وتغوط، فإن هذا لا يضير ملء اللاهوت، الذي حل فيه جسدياً. بدليل قول الكتاب المقدس: «إِنِّي عَالِمٌ وَمُتَيَقِّنٌ فِي ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ نَجِساً بِذَاتِهِ، إِلاَّ مَنْ يَحْسِبُ شَيْئاً نَجِساً، فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ» (رومية 14: 14) وشكراً للمسيح لأنه لم يحسب شيئاً نجساً.
(28) يا صديقي، إن المتأمل بعمق في الكتابات المقدسة، لا بد أن يلاحظ أن الطريقة التي اعتمدها الله لإعلان ذاته، وتبليغ مقاصده هي نوع من الظهور والتجسد. لا فرق في أن يكون هذا الظهور والتجسد في السحاب، أو في النار، أو في جسد ملاك العهد، أو في جسد المسيح، الذي ظهر فيه مملوءاً نعمة وحقاً.
نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين 1: 1 و2 هذه العبارات التي تعتبر المفتاح في الكلام عن اتصالات الله بالبشر: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ». وهاك أنواع الظهورات والطرق التي كلم الله بها البشر، كما وردت في الكتاب المقدس:
تكوين 3: 8 - 10 قوله: «وَسَمِعَا (آدم وحواء) صَوْتَ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ مَاشِياً فِي ٱلْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ ٱلنَّهَارِ، فَٱخْتَبَأَ آدَمُ وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ. فَنَادَى ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي ٱلْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَٱخْتَبَأْتُ». فهنا نرى ظهور الله وهو يمشي ويسمع ويتكلم، ويختبئ آدم وامرأته من وجهه.
تكوين 8: 21 قوله عن ذبيحة نوح: «فَتَنَسَّمَ ٱلرَّبُّ رَائِحَةَ ٱلرِّضَا. وَقَالَ ٱلرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ ٱلأَرْضَ...» وهنا يظهر الله وله حاسة الشم يتنسم بها رائحة الذبيحة، وله قلب يفكر فيه، لإعادة النظر في موقفه من الأرض.
تكوين 18: 1 - 5 قوله: «وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَالٍ وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لٱسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ، وَقَالَ: يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَٱغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَٱتَّكِئُوا تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ، فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ. فَقَالُوا: هٰكَذَا تَفْعَلُ» فهنا ظهر لإبراهيم في صورة إنسان، وقد جلس وأكل وشرب.
تكوين 32: 22 - 30 قوله: إنه ظهر ليعقوب في صورة إنسان وصارعه حتى الفجر: ولما سأله أن يطلقه قال له لا أطلقك إن لم تباركني فباركه قائلاً له: لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت «فَدَعَا يَعْقُوبُ ٱسْمَ ٱلْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: لأَنِّي نَظَرْتُ ٱللّٰهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ وَنُجِّيَتْ نَفْسِي».
خروج 24: 9 - 11 قوله: «ثُمَّ صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ وَنَادَابُ وَأَبِيهُو وَسَبْعُونَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ، وَرَأَوْا إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ، وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهُ صَنْعَةٍ مِنَ ٱلْعَقِيقِ ٱلأَزْرَقِ ٱلشَّفَّافِ، وَكَذَاتِ ٱلسَّمَاءِ فِي ٱلنَّقَاوَةِ. وَلٰكِنَّهُ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» هنا كان ظهور الله بصورة إنسان له يدان ورجلان، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف الشعب لأنهم كانوا أثمة وفي حاجة إلى مصالح له طبيعة الله وطبيعة الإنسان.
ص. ا. دمشق - سوريا
(29) يعلم الكتاب المقدس أن الله خلق الإنسان على صورته كشبهه (تكوين 1: 26) وقصد له المجد أن يبقى الإنسان في عدم فساد. ولكن الإنسان انجذب بكبريائه إلى كسر الوصية الإلهية. فعصى ربه وغوى. وتبعاً لذلك صار خاطئاً، وواقعاً تحت حكم الله القائل: «اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال 18: 20) وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة بقوله: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية 5: 12).
وتفيدنا كلمة الله أن البشر إذ رفضوا إبقاء الله في معرفتهم؛ وقعوا في العصيان كأبويهم الأولين، فاستحقوا حكم الموت، الذي سبق الإنذار به. ومن ذلك الحين فقدوا الصورة التي خلقهم الله عليها في البر وقداسة الحق. وفسدوا حسبما أرادوا لأنفسهم. أو كما قال سليمان الحكيم: «أَنَّ ٱللّٰهَ صَنَعَ ٱلإِنْسَانَ مُسْتَقِيماً، أَمَّا هُمْ فَطَلَبُوا ٱخْتِرَاعَاتٍ كَثِيرَةً» (جامعة 7: 29) أو كما قال الرسول بولس: «لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ» (رومية 1: 21 و22).
لقد كان ممكناً للإنسان المخلوق على صورة الله أن يتجنب الفساد. ويحيا في طهارة لو أنه أبقى الله في معرفته. لأن الله لم يكتف بأن يخلقنا من العدم ويعطينا نسمة الحياة، لكنه أيضاً وهبنا إمكانية الحياة في شركة معه. بيد أن الناس إذ تحولوا عن حياة الله، وقبلوا غواية الشيطان، صاروا سبباً لفساد أنفسهم.
(30) ولكن هل يليق بالله، أن يصير الإنسان الذي خلقه على صورته كشبهه إلى الهلاك الأبدي؟ وماذا يصنع الخالق. الذي وصف بأنه صالح وإلى الأبد رحمته؟ أتتحمل محبته الغنية باللطف، أن يرى الفساد يلاشي صورته عن البشر؟ وهل تسر عزته الإلهية بهلاك المجموعة البشرية التي كونها على أحسن تقويم؟ وإن هو تركهم لهذا المصير الشقي، ألا يعد ذلك إهمالاً؟ وهل الإهمال يليق بجلال الله القدوس؟! كلا، كلا! حاشا لله! أليس هو القائل: «حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال 33: 11).
(31) أجل إن الله من أجل محبته الكثيرة، شاء أن يخلص الإنسان. ولكن كيف؟ أبالتوبة؟ ولكن التوبة، لا تستطيع كسر الحكم وبالتالي رفع القصاص، لأنها لا تستطيع أن توفي مطالب عدل الله. صحيح أن التوبة الصادقة، تقف حائلاً بين التائب وارتكاب خطايا جديدة. ولكنها لا تستطيع إزالة أثر الخطايا السالفة وحكم الله عليها. أمام هذا الإشكال أتساءل مرة أخرى: ماذا كان ممكناً أن يفعل الله، «ٱلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1 تيموثاوس 2: 4). وفي كلمة أخرى أنه يريد أن يبرر الإنسان، لكي يأتي بهذا الكائن الفاسد إلى عدم فساد، وفي ذات الوقت يوفي مطالب العدل الإلهي. وهذا يتفق مع المشورة الإلهية بالفداء. فالكلمة الذي كان في البدء عند الله، وكان الكلمة الله كان هو وحده يليق بطبيعته أن يجدد خلقة كل شيء، في أن يأخذ الجسد ويتحمل قصاص الدينونة عن الإنسان. لأجل ذلك نزل إلى عالمنا «وصَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 14).
(32) ويقيناً أن الكلمة منذ البدء كان يعدّ نفسه للتجسُّد، ومن هنا انطلق قول رجل الله ترتليانوس: إن المسيح كان يعدّ نفسه للتجسُّد مدى الأجيال، التي سبقت ظهوره. والواقع أن كل من تأمل في الكتاب المقدس، يتأكد أن الفادي الرب، كان كلمة سرّ همس بها الوحي في آذان أنبياء الله في العهد القديم. ولم تلبث النبوة أن أعلنته بفم إشعياء النبي: «وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»... (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (إشعياء 7: 14 متى 1: 23).
وتخبرنا الكلمة الموحى بها أنه لما جاء ملء الزمان، أتى مولوداً من عذراء طاهرة بلا لوم، لم تعرف رجلاً، «مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4 و5).
هكذا يخبرنا إنجيل الفداء، أنه إذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، وأن ناموس هذا الفساد لا يمكن إبطاله إلا بموت بار لم يعرف خطية، تطوع الكلمة وأخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت. ليتم فيه حكم الموت نيابة عن الكل، ليزيل حكم الدينونة عن كل من يؤمن. هذا السر كشفه لنا الرسول بولس بقوله: «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ. لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ. لأَنَّهُ مَا كَانَ ٱلنَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ، فِي مَا كَانَ ضَعِيفاً بِٱلْجَسَدِ، فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ، دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ فِي ٱلْجَسَدِ، لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ ٱلنَّامُوسِ فِينَا، نَحْنُ ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رومية 8: 1 - 4) بمعنى أن الفادي الرب، إذ قدم للموت ذلك الجسد الذي أخذه لنفسه كمحرقة وذبيحة خالية من كل عيب، رفع حكم الموت عن جميع الذين ناب عنهم. وهكذا لأنه متعال فوق الكل وبدون خطية، استطاع أن يوفي مطالب العدل الإلهي.
(33) لعلك ستواجه صعوبة في فهم سر الفداء، ولكن حين تتأمل في تعليم الإنجيل عن محبة الله الغنية بالرحمة، تجد أن هذا العمل متفق مع ما اتصف من أسفار العهد الجديد التي كتبت بالوحي لأجل تعليمنا، والتي بمطالعتها سترى إلى أي مدى ذهبت محبة الله لأجل خلاصنا.
«فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ» (عبرانيين 2: 14 و15).
«مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 24 و25).
«لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).
«وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ ٱلآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ ٱلْغَضَبِ» (رومية 5: 8 و9).
«اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟» (رومية 8: 32).
(34) الأدلة النبوية على تجسد الرب
«أَصْغَيْتُ إِلَى ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا. وُجِدْتُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي. قُلْتُ: «هَئَنَذَا هَئَنَذَا» لأُمَّةٍ لَمْ تُسَمَّ بِٱسْمِي. بَسَطْتُ يَدَيَّ طُولَ ٱلنَّهَارِ إِلَى شَعْبٍ مُتَمَرِّدٍ سَائِرٍ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ صَالِحٍ وَرَاءَ أَفْكَارِهِ» (إشعياء 65: 1 و2).
فهذه الآية تشير إلى تجسد يسوع، بدليل استشهاد بولس بها حين تكلم عن هذا الموضوع، إذ قال: «وُجِدْتُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِراً لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي». أَمَّا مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ: «طُولَ ٱلنَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ» (رومية 10: 20و 21) فيسوع هو الذي بسط يديه على الصليب فعلاً.
«هُمْ يَرُونَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ، بَهَاءَ إِلَهِنَا. شَدِّدُوا ٱلأَيَادِيَ ٱلْمُسْتَرْخِيَةَ، وَٱلرُّكَبَ ٱلْمُرْتَعِشَةَ ثَبِّتُوهَا. قُولُوا لِخَائِفِي ٱلْقُلُوبِ: «تَشَدَّدُوا لاَ تَخَافُوا. هُوَذَا إِلَهُكُمُ. ٱلٱنْتِقَامُ يَأْتِي. جِزَاءُ ٱللّٰهِ. هُوَ يَأْتِي وَيُخَلِّصُكُمْ». حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ ٱلْعُمْيِ، وَآذَانُ ٱلصُّمِّ تَتَفَتَّحُ. حِينَئِذٍ يَقْفِزُ ٱلأَعْرَجُ كَٱلإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ ٱلأَخْرَسِ» (إشعياء 35: 2 - 6).
فالنبوة هنا لا توضح فقط أن الله يحل هنا، بل أيضاً تعلن علامات مجيئه، وتصف أعماله، كما ذكرت في الإنجيل تماماً. لأنه حين أرسل يوحنا المعمدان اثنين من تلاميذه يسأل يسوع: «أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلرَّجُلاَنِ قَالاَ: «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ ٱلْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ. فَأَجَابَ يَسُوعُ: «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ ٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ» (لوقا 7: 19 - 23).
«فِي ٱبْتِدَاءِ تَضَرُّعَاتِكَ خَرَجَ ٱلأَمْرُ، وَأَنَا جِئْتُ لأُخْبِرَكَ لأَنَّكَ أَنْتَ مَحْبُوبٌ. فَتَأَمَّلِ ٱلْكَلاَمَ وَٱفْهَمِ ٱلرُّؤْيَا. سَبْعُونَ أُسْبُوعاً قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ ٱلْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ ٱلْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ ٱلْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ ٱلإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِٱلْبِرِّ ٱلأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ ٱلرُّؤْيَا وَٱلنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ ٱلْقُدُّوسِينَ. فَٱعْلَمْ وَٱفْهَمْ أَنَّهُ مِنْ خُرُوجِ ٱلأَمْرِ لِتَجْدِيدِ أُورُشَلِيمَ وَبَنَائِهَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ ٱلرَّئِيسِ سَبْعَةُ أَسَابِيعَ وَٱثْنَانِ وَسِتُّونَ أُسْبُوعاً» (دانيال 9: 23 - 25).
ففي هذه النبوة لا نجد إشارة إلى المسيح فحسب، ولكنها تعلن صراحة أن الذي سيمسح ليس هو مجرد إنسان، بل قدوس القدوسين. والحق أنه لما جاء كانت الرؤيا والنبوة قد توقفت في أمة اليهود، وتلاشت الملكية فيها. لأن الملوك كان يجب أن يمسحوا بينهم إلى أن يمسح قدوس القدوسين. وقد تنبّأ يعقوب بأن ملوك اليهود يبقون إلى مجيء المسيا، إذ قال: «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين 49: 10).
«بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ. مُحْرَقَةً وَذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ لَمْ تَطْلُبْ. حِينَئِذٍ قُلْتُ: هَئَنَذَا جِئْتُ. بِدَرْجِ ٱلْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلٰهِي سُرِرْتُ» (مزمور 40: 6 - 8).
(35) حين نقابل هذه الآيات بما جاء في الرسالة إلى العبرانيين 10: 6 - 10 نرى تطبيقاً كاملاً لهذا المزمور المجيد على شخص يسوع. فربنا المبارك استعرض جميع ذبائح وقرابين العهد القديم، كذبائح السلامة، وذبائح الإثم والمحرقات، وذبائح الخطية. وبعد استعراضها نطق بحكمة، قائلاً بأنها لم تكن مطلب القدير.
وتخبرنا الكتب المقدسة، أنه كان في مشورة الله الأزلية إعداد ذبيحة أفضل. وإذ ننحني سجداً يقودنا الروح القدس إلى ذاك الماضي الأزلي، الذي إن كنا لا نستطيع إدراكه بحكم قصورنا البشري، إلا أننا نفهم من إعلانات الله في كتابه الكريم أن أقانيم اللاهوت، وهم يتطلعون إلى جنسنا البشري، المزمع أن يأتي إلى الوجود، وإلى الخطية التي ستدخل إلى العالم ومعها الموت، أصدروا المشورة بالفداء. ونتصور أن الله الابن تطوع لعمل الفداء قائلاً: ها أنذا أذهب وأصنع الكفارة لذلك العالم المرتد.
(36) ولسعادة البشرية، أن الرب المتجسد لم يكتف بأن تكون المشيئة الإلهية بالفداء محصورة في شعب، حسب نفسه وارثاً وحيداً لمواعيد الله. بل أراد نشرها إلى العالم أجمع.
ورب سائل يقول: ولماذا تم الموت بالصليب من بين كل أنواع الموت؟ فإلى هذا أقول: هكذا صارت المسرة عند الله أن يفتدينا هو نفسه، وليس من طريقة أخرى أصلح لنا وأليق بالرب! وأنه حسن أن احتمل الرب المتجسد هذا النوع من الموت من أجلنا لأنه إن كان قد أتى ليبررنا من إثم الخطية التي أغلق الناموس علينا تحتها، فكيف كان ممكناً أن يصير خطية من أجلنا، لو لم يمت حاملاً خطايانا على الصليب؟
وأيضاً إن كان موت الرب المتجسد قد صار كفارة عن الجميع، وبموته نقض حائط السياج المتوسط، أي العداوة (أفسس 2: 14) لتصير الدعوة لجميع الأمم، فكيف كان ممكناً أن يدعونا لنتصالح به مع الله لو لم يصلب؟ فشكراً له لأنه هكذا صارت مسرته. ووجد لائقاً أن يتحمل هذا الموت المهين. ويبسط يديه على الصليب، ليجتذب بالواحدة أتقياء الشعب القديم، وبالأخرى الذين هم من الأمم. ويتحد الكل في شخصه المبارك، وفقاً لقوله: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32).
أيها القارئ الكريم،
بعد دراستك لهذا الكتيب بمواضيعه المتنوعة، نقدم لك الملخص بشكل مسابقة يمكنك من خلالها فحص معلوماتك بما يخص هذا الموضوع. نحن بانتظار اجابتك.
لم لا يقدر الإنسان أن يكون صالحاً وكاملاً من تلقاء نفسه؟
ما الطريق الوحيد للمصالحة مع الله؟
ما هي الأدلة الثلاثة المذكورة، على أن الإنسان خاطئ تماماً؟
أيريد الله لنا أن نبقى خطاة. وما هي الوسيلة لخلاصنا؟
ما هو أهم شوق في قلب الإنسان؟
ما هي الطريقة لرفع الإنسان إلى مستوى الله؟
ما هي الصفات الضرورية، التي يجب أن تكون في الوسيط بيننا وبين الله؟
كيف تحققت الصفات المطلوبة للوسيط الإلهي في المسيح؟
ما هما العنصران الدالان على الصلاح الكامل؟
لم جمع المسيح التلاميذ حوله؟
كيف قابل يسوع القبض عليه من أعدائه؟
بماذا بان انتصار المسيح؟
ما هي نتيجة موت وقيامة المسيح؟
كيف تأكد العالم من ألوهية المسيح؟
كيف يحصل التغيير الجذري في حياة الإنسان؟
ما هي الصفات التي يعطيها الكتاب المقدس للمسيح؟
هل يثبت الإسلام صلة بين الخالق والمخلوق؟
كيف يدلنا الحديث على علاقة مباشرة لله مع البشر؟
ماذا يجر مفهوم التنزيه المطلق لله؟
ماذا يقول الحديث عن نزول الله كل ليلة؟
كيف تثبت أن تجسد الله، لم يغير جوهره وسلطانه؟
هل قدر الله على أن يتجسد ويحقق إرادته؟
ماذا يعني نص الحديث القائل أن الله يجلس في دار؟
كيف توفق بين التجسد، وأن لله أعضاء جسدية؟
كيف يحل الله القدوس في بطن امرأة؟
ماذا يعني ظهور الله لموسى في العليقة المشتعلة؟
ما هو النجس؟
ألم يكن اقتراب الله من المواد الدنيوية في إعلاناته بدون تنجيسه، دليلاً على إمكانية الله للتجسد بلا ضير عليه؟
كيف فقد الناس صورة الله؟
هل يعقل أن يترك الله مخلوقاته للفساد؟
لم لا تكفي مجرد توبة الإنسان للخلاص؟
ما هي الأدلة من وحي الله على تجسد المسيح؟
ما هي مقاصد محبة الله في تجسد المسيح؟
ما الأدلة النبوية على تجسد الرب؟
ما هي الذبيحة الفضلى لدى الله؟
هل يقصد يسوع بفدائه كل الناس أو اليهود فقط؟
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the-good-way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland