Table of Contents
- Bibliography
- السؤال: يقول البعض إنه يوجد تحريف في التوراة والإنجيل، فما هو الرد على ذلك؟
- تمهيد
- 1 - تكوين الكتاب المقدس
- 2 - شهادة الوحي
- 3 - شهادة الأنبياء والرسل
- 4 - شهادة التواتر
- 5 - شهادة النُسخ القديمة
- 6 - شهادة المخطوطات القديمة
- 7 - شهادة علم الآثار
- 8 - شهادة الإسلام
- 9 - سؤال لا بد منه
- 10 - قول أعلام المسلمين في موضوع التحريف
- مراجع الكتاب
- مسابقة كتاب «عصمة التوراة والإنجيل»
منذ آلاف السنين، بلّغ الله اليهود بواسطة موسى وصية، هذا نصها: «لاَ تَزِيدُوا عَلَى ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهِ وَلاَ تُنَقِّصُوا مِنْهُ، لِتَحْفَظُوا وَصَايَا ٱلرَّبِّ إِلٰهِكُمُ ٱلَّتِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهَا» (تثنية 4: 2).
وتكررت هذه الوصية في السفر نفسه، حيث يقول: «كُلُّ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ ٱحْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ وَلاَ تُنَقِّصْ مِنْهُ» (تثنية 12: 32).
وبعد ذلك بعدة قرون، كتب سليمان الحكيم هذه الشهادة مسوقاً من الروح القدس: «كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ نَقِيَّةٌ. تُرْسٌ هُوَ لِلْمُحْتَمِينَ بِهِ. لاَ تَزِدْ عَلَى كَلِمَاتِهِ لِئَلاَّ يُوَبِّخَكَ فَتُكَذَّبَ» (أمثال 30: 5-6).
وفي ختام الأسفار المقدسة، نقرأ هذا التحذير الشديد: «لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُوَّةِ هٰذَا ٱلْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هٰذَا يَزِيدُ ٱللّٰهُ عَلَيْهِ ٱلضَّرَبَاتِ ٱلْمَكْتُوبَةَ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هٰذِهِ ٱلنُّبُوَّةِ يَحْذِفُ ٱللّٰهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ، وَمِنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ ٱلْمَكْتُوبِ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ» (رؤيا 22: 18 و19).
فهل بعد هذه النواهي والتحذيرات الصارمة، يتجرأ مؤمن بالله وكتبه ورسله، على تحريف كلام الله، فيحذف الله نصيبه من كل البركات الروحية، التي أعدها الله لأتقيائه. ويسقط من وعود الله التي قطعها للبشر بالخلاص والحياة الأبدية؟ أما غير المؤمنين، فلا سبيل لهم إلى تحريف الأسفار الإلهية، إذ يتعذر عليهم جمع الألوف من نسخها المنتشرة في رحاب الدنيا ليعبثوا بها ويزوِّروها.
وإنه لمن نكد الدنيا أن يقوم أناس في الأيام الأخيرة ويتَّهموا رسل المسيح الأطهار بتحريف الإنجيل الذي ائتمنوا عليه، مما يشكل طعناً ليس بالأسفار المقدسة فقط، بل أيضاً يعرض بقرآن المسلمين، لأن القرآن شهد للرسل المغبوطين بالنزاهة والأمانة. وقد لقبهم بالحواريين أنصار الله (سورة آل عمران 3: 52).
أما الأدلة على صحة الكتاب المقدس وسلامته من أي عبث، أو إفساد، أو تحريف فكثيرة، ونحن نوردها في الفصول التالية:
لقد حرص الله على تكوين كتابه العزيز بكل حكمة وفطنة، بحيث يستطيع متتبع العهد القديم أن يرى الأسفار الإلهية نفسها تعلن لنا أنه تكوَّن خلال ثلاثة أدوار:
الدور الأول من آدم إلى موسى: تخبرنا الكتابة المقدسة الموحى بها من الله أن الله أعطى آدم وصية، وأنه أحضر إليه حيوانات البرية وطيور السماء ليرى ماذا يدعوها (تكوين 2: 15-19). إلا أن هذه العبارات لم تخبرنا كيف كان الله يكلم الإنسان في البدء. ولهذا يلجأ معظمنا إلى قواه الذهنية للتكهُّن، ويعطي المجال لخياله ليحكم على التاريخ المقدس، ناسياً أن ملايين السنين تفصلنا عن الأحداث المدوَّنة في الفصل الأول من سفر التكوين.
كذلك الأسفار المقدسة لم تحدد الزمن الذي بدأت فيه إعلانات الله للبشر، ولكن نصوصها تساعدنا على الاستنتاج. فيخبرنا الرسول يهوذا أن أخنوخ، الذي ورد ذكره في الأصحاح الخامس من سفر التكوين، كان نبياً، وأنه كان السابع من آدم. ويذكر الكتاب أنه سار مع الله...
فهذا النبي، ولا شك، كانت لديه أخبار عن الماضي. وبحسب تسلسل الكتاب المقدس عرف آدم، وتحدَّث إليه. وكذلك متوشالح، ابن أخنوخ، بقي إلى زمن نوح، الذي كان باراً وكاملاً في أجياله، وسار مع الله.
ولا شك أن نوحاً الذي كرز بالبر والحق، أوصل الأنباء المقدسة إلى أجيال ما بعد الطوفان (2بطرس 2: 5).
وسام، ابن نوح، عاش إلى زمن إبراهيم (تكوين 10، 21، 11: 10-26). ويخبرنا الكتاب المقدس أن الأنباء المقدسة، نقلت إلى إبراهيم، إذ نقرأ في غلاطية 3: 8 هذه العبارات: «وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ». فهذه الآية تؤكد لنا أن إبراهيم حصل على معطيات واضحة من الأحداث السالفة. وإبراهيم بدوره أحاط أبناءه علماً بما كان في معرفته. إذ نقرأ في سفر التكوين: «لأَنِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، لِيَعْمَلُوا بِرّاً وَعَدْلاً، لِكَيْ يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ» (تكوين 18: 19). ويتضح من هذا النص أن الاتصال المتسلسل بين إبراهيم وموسى، لم يكن صعب التحقيق.
الدور الثاني عصر موسى: ابتداء من سفر الخروج أصبح تسجيل الأحداث يتم بدقة في الأسفار المقدسة لأن الله أمر موسى بذلك لكي تظهر التذكارات. قال له الرب «ٱكْتُبْ هٰذَا تِذْكَاراً فِي ٱلْكِتَابِ وَضَعْهُ فِي مَسَامِعِ يَشُوعَ» (خروج 17: 14).
وبالفعل فإننا نقرأ، أن موسى: «أَخَذَ كِتَابَ ٱلْعَهْدِ وَقَرَأَ فِي مَسَامِعِ ٱلشَّعْبِ» (خروج 24: 7). وكتب موسى أخبارهم ورحلاتهم حسب قول الرب (خروج 34: 27) «فَعِنْدَمَا كَمَّلَ مُوسَى كِتَابَةَ كَلِمَاتِ هٰذِهِ ٱلتَّوْرَاةِ فِي كِتَابٍ إِلَى تَمَامِهَا، أَمَرَ مُوسَى ٱللاَّوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ ٱلرَّبِّ: خُذُوا كِتَابَ ٱلتَّوْرَاةِ هٰذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكُمْ، لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِداً عَلَيْكُمْ» (تثنية 31: 24-26).
الدور الثالث من يشوع إلى ملاخي: قال الله ليشوع: «لاَ يَبْرَحْ سِفْرُ هٰذِهِ ٱلشَّرِيعَةِ مِنْ فَمِكَ، بَلْ تَلْهَجُ فِيهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، لِتَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ» (يشوع 1: 8) «وَكَتَبَ يَشُوعُ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ ٱللّٰهِ» (يشوع 24: 26).
«فَكَلَّمَ صَمُوئِيلُ ٱلشَّعْبَ بِقَضَاءِ ٱلْمَمْلَكَةِ وَكَتَبَهُ فِي ٱلسِّفْرِ وَوَضَعَهُ أَمَامَ ٱلرَّبِّ» (1صموئيل 10: 25).
وفي آخر أيام الملوك على عهد يوشيا الملك، أحدثت الكتابة المقدسة نهضة روحية، حين قرأها شافان الكاتب، وبأمر من حلقيا الكاهن العظيم الشأن (2ملوك 22: 8-13).
وإشعياء النبي، أهاب بالشعب أن يعودوا إلى كلام الله ليقرأوه، مؤكداً لهم عصمته إذ قال «فَتِّشُوا فِي سِفْرِ ٱلرَّبِّ وَٱقْرَأُوا. وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ لاَ تُفْقَدُ. لاَ يُغَادِرُ شَيْءٌ صَاحِبَهُ، لأَنَّ فَمَهُ هُوَ قَدْ أَمَرَ، وَرُوحَهُ هُوَ جَمَعَهَا» (إشعياء 34: 16).
وكذلك إرميا النبي، صدر إليه أمر الرب أن يكتب كلامه النبوي الذي كلّمه به على إسرائيل وعلى يهوذا، وعلى كل الشعوب (إرميا 36: 1-2).
وكذلك دانيال النبي، ضمَّن سفره النبوي شهادته عن الكتب المقدسة، إذ قال: «أَنَا دَانِيآلَ فَهِمْتُ مِنَ ٱلْكُتُبِ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَنْهَا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ لِكَمَالَةِ سَبْعِينَ سَنَةً عَلَى خَرَابِ أُورُشَلِيمَ» (دانيال 9: 2).
وفي أيام أرتحششتا ملك فارس، عكف عزرا ونحميا على ناموس موسى الذي أعطاه الرب. ويقول الكتاب إن عزرا وهو كاتب ماهر هيأ قلبه لشريعة الرب والعمل بها (عزرا 7: 1-10) ونقرأ أيضاً في سفر نحميا: «وَلَمَّا ٱسْتُهِلَّ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّابِعُ... ٱجْتَمَعَ كُلُّ ٱلشَّعْبِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلسَّاحَةِ ٱلَّتِي أَمَامَ بَابِ ٱلْمَاءِ... فَأَتَى عَزْرَا ٱلْكَاتِبُ بِٱلشَّرِيعَةِ أَمَامَ ٱلْجَمَاعَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاءِ وَكُلِّ فَاهِمٍ... وَقَرَأَ فِيهَا... مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى نِصْفِ ٱلنَّهَارِ» (نحميا 7: 73، 8: 1-3).
«وَكَانَ كَلاَمُ ٱلرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا: هَكَذَا قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ: ٱقْضُوا قَضَاءَ ٱلْحَقِّ، وَٱعْمَلُوا إِحْسَاناً وَرَحْمَةً، كُلُّ إِنْسَانٍ مَعَ أَخِيهِ... فَأَبُوا أَنْ يُصْغُوا... بَلْ جَعَلُوا قَلْبَهُمْ مَاساً لِئَلاَّ يَسْمَعُوا ٱلشَّرِيعَةَ وَٱلْكَلاَمَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ بِرُوحِهِ عَنْ يَدِ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلأَوَّلِينَ» (زكريا 7: 8-12).
وتكلم ملاخي عن كتاب الله الذي دعاه كتاب التذكرة: «حِينَئِذٍ كَلَّمَ مُتَّقُو ٱلرَّبِّ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ، وَٱلرَّبُّ أَصْغَى وَسَمِعَ، وَكُتِبَ أَمَامَهُ سِفْرُ تَذْكَرَةٍ لِلَّذِينَ اتَّقُوا ٱلرَّبَّ وَلِلْمُفَكِّرِينَ فِي ٱسْمِهِ» (ملاخي 3: 16).
مما تقدم يتضح لنا أن السيد الرب، سهر على تكوين كتابه المقدس عبر الأجيال، موحياً إلى رجاله القديسين ما كتبوه من نبوات وتعاليم لخير البشر. وهذا الإله الحي، الذي أوحى بشرائعه، لا بد أنه حفظها، وفقاً لإرادته ووعوده.
في الكتاب المقدس طائفة من إعلانات الله ووعوده، بأن كلمته لا يمكن أن تزول أو تتبدل منها:
«أَمَّا رَحْمَتِي فَلاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ، وَلاَ أَكْذِبُ مِنْ جِهَةِ أَمَانَتِي. لاَ أَنْقُضُ عَهْدِي وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ» (مزمور 89: 33 و34).
«فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ» (متى 5: 18).
«اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هٰذَا كُلُّهُ. اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متى 24: 34 و35).
«وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوبُ» (يوحنا 10: 35).
قال الرب لإرميا النبي: «لاَ تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ... هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي فَمِكَ» (إرميا 1: 8 و9).
وقال لهوشع النبي: «وَكَلَّمْتُ ٱلأَنْبِيَاءَ وَكَثَّرْتُ ٱلرُّؤَى، وَبِيَدِ ٱلأَنْبِيَاءِ مَثَّلْتُ أَمْثَالاً» (هوشع 12: 10).
وقال لإشعياء النبي: «أَمَّا أَنَا فَهَذَا عَهْدِي مَعَهُمْ قَالَ ٱلرَّبُّ: رُوحِي ٱلَّذِي عَلَيْكَ، وَكَلاَمِي ٱلَّذِي وَضَعْتُهُ فِي فَمِكَ لاَ يَزُولُ مِنْ فَمِكَ وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِكَ وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِ نَسْلِكَ» قَالَ ٱلرَّبُّ «مِنَ ٱلآنَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء 59: 21).
وقال لحزقيا النبي: «يَا ٱبْنَ آدَمَ، قُمْ عَلَى قَدَمَيْكَ فَأَتَكَلَّمَ مَعَكَ... أَنَا مُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ... مِنْ كَلاَمِهِمْ لاَ تَخَفْ... مِنْ وُجُوهِهِمْ لاَ تَرْتَعِبْ، لأَنَّهُمْ بَيْتٌ مُتَمَرِّدٌ. وَتَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بِكَلاَمِي» (حزقيال 2: 1-7).
وقال لملاخي: «فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ هَذِهِ ٱلْوَصِيَّةَ لِكَوْنِ عَهْدِي مَعَ لاَوِي، قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. كَانَ عَهْدِي مَعَهُ لِلْحَيَاةِ وَٱلسَّلاَمِ، وَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُمَا لِلتَّقْوَى. فَاتَّقَانِي... شَرِيعَةُ ٱلْحَقِّ كَانَتْ فِي فَمِهِ» (ملاخي 2: 4-6).
لقد شهد أنبياء الله ورسله بأن الله تكلم إليهم، وأوحى إليهم أن يكتبوا نبواتهم وتعاليمهم لتكون شريعة أبدية للبشر. وها نحن نورد ما تيسر منها:
قال داود: «رُوحُ ٱلرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي» (2صموئيل 23: 2).
وقال إشعياء: «حَقّاً ٱلشَّعْبُ عُشْبٌ! يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلزَّهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء 40: 7-8). «فَتِّشُوا فِي سِفْرِ ٱلرَّبِّ وَٱقْرَأُوا. وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ لاَ تُفْقَدُ. لاَ يُغَادِرُ شَيْءٌ صَاحِبَهُ، لأَنَّ فَمَهُ هُوَ قَدْ أَمَرَ، وَرُوحَهُ هُوَ جَمَعَهَا» (إشعياء 34: 16).
وقال إرميا: «ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَيَّ: مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ يَا إِرْمِيَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا رَاءٍ قَضِيبَ لَوْزٍ. فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِي: أَحْسَنْتَ ٱلرُّؤْيَةَ، لأَنِّي أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجْرِيَهَا» (إرميا 1: 11 و12).
وقال حزقيال: «وَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ ٱلرَّبِّ: وَأَنْتَ يَا ٱبْنَ آدَمَ فَقَدْ جَعَلْتُكَ رَقِيباً لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ، فَتَسْمَعُ ٱلْكَلاَمَ مِنْ فَمِي وَتُحَذِّرُهُمْ مِنْ قِبَلِي» (حزقيال 33: 1 و7).
وقال الرب يسوع لتلاميذه: «لأَنَّ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ» (متى 10: 20).
وقال الرسول بولس: «وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ، بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ، لِنَعْرِفَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضاً، لاَ بِأَقْوَالٍ تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ» (1كورنثوس 2: 12 و13).
وقال الرسول بطرس: «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ. لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. ٱلْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1بطرس 1: 23-25).
«إَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ ٱلْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ، لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (2بطرس 1: 20 و21).
يذكر لنا التاريخ، أن أئمة الدين العلماء، الذين كانوا معاصرين للرسل، أو الذين خلفوهم في رعاية الكنيسة، اقتبسوا في مواعظهم ومؤلفاتهم من الكتب المقدسة، وخصوصاً من الأناجيل. وذلك ليقينهم بأنها كتب إلهية موحى بها من الله، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. نذكر منهم:
أكلمندس، أسقف رومية، وكان عاملاً مع الرسول بولس، كما هو مذكور في رسالة فيلبي 4: 3.
ديونسيوس، أسقف كورنثوس الذي توفي سنة 100 ميلادية.
هرماس، المعاصر لبولس، والذي ألف كتاباً في ثلاثة مجلدات، ضمَّنها الكثير من الاقتباسات من العهد الجديد.
أغناطيوس، الذي تعيَّن أسقفاً على أنطاكية، بعد صعود المسيح بسبعة وثلاثين عاماً.
بوليكاربوس الشهيد، تلميذ يوحنا الرسول، الذي تعين أسقفاً على إزمير، واستشهد عام 166. ولم يبق من مؤلفاته سوى رسالة مفعمة بالشواهد من الأناجيل الأربعة.
وكذلك أئمة القرن الثاني الميلادي، اقتبسوا من الأسفار الإلهية لدعم تعاليمهم. منهم:
بابياس، الذي كان أسقفاً على كنيسة هيارابوليس، في فريجيا، ونبغ سنة 110. واجتمع ببوليكاربوس، وألف تفسيراً للكتاب المقدس، في ستة مجلدات. وقال هذا العالم إن الأناجيل كانت متداولة في الكنائس باللغة اليونانية، وشهد بأن البشير مرقس كان مرافقاً لبطرس، وأن إنجيله كان متداولاً بين المسيحيين.
يوستين الشهيد، وُلد سنة 89 ميلادية، وكان قبل الاهتداء فيلسوفاً وثنياً. وإنما بحثه عن الحق قاده إلى المسيحية. وهذا المفكر الشهير ألَّف عدة كتب في دفاعه عن الدين المسيحي، وقد ارتكز في دفاعه على الأناجيل الأربعة. وذكر في أحد مؤلفاته أنه زار الكنائس في رومية والإسكندرية وأفسس، ورأى أن المسيحيين كانوا يتعبدون بتلاوة الأناجيل في كنائسهم.
هيجيوس، الذي نبغ بعد يوستين بثلاثين سنة. ولشهادته أهمية كبرى لأنه سافر من فلسطين إلى رومية ورأى أساقفة كثيرين. وقال إنه رأى المسيحيين في كل مكان يعلّمون تعاليم واحدة، حسب الناموس والأنبياء والرب يسوع المسيح.
إيرينيوس، يوناني الأصل، من آسيا الصغرى وُلد سنة 140 ميلادية، وتتلمذ على بوليكاربوس، تلميذ يوحنا الرسول. وكان مركز أعماله ليون، حيث رُسم أسقفاً بعد بونيتيوس، الذي استشهد عام 177. وألَّف رسالة ملأها بالاقتباسات من الأناجيل. وقد قال في أحد فصولها: «إننا لم نقبل خلاصنا إلا من الذين أبلغونا الإنجيل الذي كرزوا به أولاً. وبعد ذلك دوَّنوه بإرادة الله ومشيئته ليكون أساس إيماننا وعموده. لأن بعد قيامة المسيح من الأموات منح الله الرسل قوة الروح القدس، فعرفوا كل شيء معرفة تامة. وحينئذ ذهبوا إلى أقاصي الدنيا، وبشَّروا الناس ببركات السلام السماوي. ومع كل واحد منهم إنجيل الله. فدوَّن متّى إنجيله لليهود لما كان بطرس وبولس في رومية يكرزان بإنجيل السلام، ويؤسسان كنيسة هناك. وبعد ارتحالهما، دوَّن مرقس تلميذ بطرس ورفيقه الإنجيل، وهو خلاصة كرازة بطرس. وكذلك دوَّن لوقا الطبيب، رفيق بولس الإنجيل بحسب كرازة بولس، وبعد ذلك دوَّن يوحنا، تلميذ الرب، الذي اتكأ على صدره، إنجيله لما كان في أفسس».
ثم أضاف هذا العلامة قائلاً: «إن تعاليم الرسل المأثورة انتشرت في جميع أنحاء العالم. وكل من يفتش على مصادر الحق يجد أن كل كنيسة محافظة على هذه التعاليم وتعتبرها مقدسة».
وقال أيضاً: «في وسعنا أن نذكر الذين عيَّنهم الرسل أساقفة على هذه الكنائس، والذين خلفوهم إلى يومنا هذا. وبهذا السند المتصل أخذنا الروايات الموجودة في الكنيسة، وتعاليم الحق أيضاً، حسب ما كرز بها الرسل».
أكليمندس أسقف الاسكندرية، وكان بعد إيرينيوس بست عشرة سنة. فشهد أن جميع الكنائس، تعتقد بالأناجيل الأربعة. واستشهد هذا العالم المدقق بالأناجيل في تعليمه ومؤلفاته. وقال إن الأناجيل الأربعة مؤكدة عندنا.
ترتليانوس، وُلد سنة 160 ميلادية، وتوفي حوالي سنة 220. وقال هذا العالم، عن الرسل: «إن يوحنا ومتّى يعلّماننا الإيمان. أما رفقاء الرسل، فلوقا ومرقس ينعشاننا». وبعد أن عدَّد الكنائس التي أسسها بولس في كورنثوس وغلاطية وأفسس وفيلبي وتسالونيكي، والكنائس التي أسسها يوحنا، وكنيسة رومية، التي أسسها بولس وبطرس، قال: «إن الأناجيل الأربعة هي في يد الكنيسة، منذ البداية». وقال أيضاً: «نحن المسيحيين نجتمع معاً لنطالع الكتب الإلهية ونغذي إيماننا، ونرفع رجاءنا، ونؤيد وديعتنا بالكلمة المقدسة».
فينتج مما تقدم:
إن أئمة الديانة المسيحية، سواء الذين عاصروا الرسل أو الذين أتوا بعدهم بالتسلسل، من العلماء الأعلام، كانوا يقتبسون من أقوال الكتب المقدسة، ويستشهدون بها في أثناء كلامهم.
إن استنادهم عليها واستشهادهم بآياتها، يدل على يقينهم بأنها الحكم الفصل في جميع المسائل، التي يختلفون عليها.
إنهم كانوا يقرأونها في اجتماعاتهم الدينية العمومية، ويشرحونها.
إنهم كتبوا عليها تفاسير في عدد عديد من المجلدات، مؤكدين اتفاق البشيرين في ما كتبوه، مسوقين من الروح القدس.
إن جميع المسيحيين منذ البدء، اعتقدوا بهذه الكتب المقدسة، على اختلاف شعوبهم ومذاهبهم.
يوجد بين الذخائر التي يحتفظ بها المسيحيون نسخ مخطوطة، يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام بعدة أجيال. منها:
النسخة الإسكندرية: وقد دعيت بهذا الاسم نسبة إلى مدينة الاسكندرية، التي خُطَّت فيها، ولها المرتبة الأولى بين النسخ الثلثية. وقد أهداها كيرلس لوكارس، بطريرك القسطنطينية إلى ملك انكلترة شارل الأول سنة 1628. وكان قد أحضرها معه من الاسكندرية حيث كان بطريركاً سابقاً. وهي مكتوبة باليونانية، وتحتوي كل أسفار الكتاب المقدس من العهدين القديم والجديد. وعلى أول صفحة منها حاشية مدوَّن فيها أن كل هذا الكتاب نسخ بيد سيدة شريفة مصرية اسمها تقلا. وذلك في نحو سنة 325 ميلادية. وقد علّق البطريرك كيرلس على هذه الحاشية بخط يده أن هذا التاريخ حسب رأيه صحيح.
والنسخة مكتوبة بالحرف الثلثي، على رق قُسمت كل من صفحاته إلى حقلين. وفي كل حقل خمسون سطراً. ولم تزل هذه النسخة محفوظة بعناية في المتحف البريطاني بلندن.
النسخة الفاتيكانية: سُميت بالفاتكيانية نسبة إلى مكتبة الفاتيكان المحفوظة فيها. وهي مكتوبة على رق جميل جداً. وحرفها ثلثي صغير. وفي كل صفحة منها ثلاثة حقول، يحتوي كل منها على اثنين وأربعين سطراً. وتشتمل كل أسفار الكتاب المقدس باللغة اليونانية. ويرجح العلماء أنها خُطت حوالي العام 300 بعد الميلاد.
النسخة السينائية: وهي تعادل النسخة الفاتيكانية بالقدم، بل لعلها أقدم منها. ولها أهمية كبرى في مقابلة المتون. وقد سُميت بالسينائية نسبة إلى جبل سيناء حيث اكتشفها العلامة تشندورف الألماني، في دير القديسة كاترينا بسيناء. وذلك في عام 1844. وهذه النسخة مكتوبة بحرف ثلثي كبير، وعلى رق، في كل من صفحاته أربعة حقول. وكل ما فيها يدل على القدم. وقد أهداها مكتشفها إلى الإسكندر، قيصر روسيا. وبقيت في روسيا إلى أن حدثت الثورة البلشفية، فبيعت للمتحف البريطاني بلندن، حيث لا تزال محفوظة.
النسخة الافرائمية: وهي محفوظة في دار الكتب الوطنية بباريس، وتشمل على كل الأسفار المقدسة باللغة اليونانية، ومكتوبة على رق بحرف حسن، بدون فواصل، ولا حركات. والحرف الأول من كل صفحة فيها، أكبر من بقية الحروف. ويرجح أنها كتبت حوالي عام 450 ميلادية.
كل هذه النسخ تتيح رد الادِّعاء بالتحريف بعد شهادة القرآن بصحتها، لأن النسخ التي ذُكرت أعلاه كُتبت قبل القرآن، والنسخ المتداولة بين أيدينا اليوم لا تختلف في شيء عن نصوص تلك المخطوطات القديمة.
مخطوطات قمران: من بين الكنوز التي عثر عليها في مغاور قمران بالأردن عام 1947 مخطوطة كاملة لسفر إشعياء النبي، باللغة العبرية. وهي مكتوبة على رقوق جلد على شبه درج. ويستدل من شكل الكتابة والمفردات اللغوية، أن هذه المخطوطة كُتبت في القرن الثاني قبل الميلاد. وقد قال العلماء الذين دققوا فيها إنها لا تختلف في نصوصها عن النص الموجود بين أيدينا.
وعثر أيضاً في كهوف قمران على نسخة من أسفار اللاويين وأيوب والمزامير وحبقوق. وقد وجدت النصوص المدوَّنة في هذه المخطوطات مطابقة لنصوص الأسفار المتداولة بيننا حالياً.
وكذلك وجد إلى جانب هذه المخطوطات قائمة بأسفار العهد القديم شملت كل الأسفار التي لدينا، ما عدا سفر أستير.
مخطوطات أرسينوي: في العام 1877 عثر في أرسينوي الواقعة جنوب مدينة القاهرة، على عدد عديد من الوثائق المكتوبة على ورق البردي، مطمورة في الرمال. ومن بينها نسخة للإنجيل بحسب يوحنا، أكد العلماء أن تاريخ كتابتها يعود إلى عام 125 بعد الميلاد. وهي لا تختلف في نصوصها، عن النسخة التي بين أيدينا.
مخطوطات سيناء: اكتُشف مؤخراً في دير القديسة كاترين بسيناء نسخة للأناجيل الأربعة باللغة السريانية. ويعود تاريخ كتابتها إلى ما قبل القرن الخامس الميلادي. وهي منقولة عن ترجمة قام بها المسيحيون في القرن الثاني الميلادي. ونصوصها لا تختلف عن البشائر المتداولة حالياً في العالم.
فالحفريات والمخطوطات القديمة إذن، أيدت الكتاب المقدس بصورة مذهلة. لأنه ما كان ليصدق أن الكتاب الإلهي يتفق مع التاريخ بهذه الدقة، وما زلنا نتوقع اكتشافات أخرى، لأن العلماء جادّون بالتنقيب. وتدل كل البراهين على أنه لم يعد هناك موضع لناقد أو معترض على أسفار العهد الجديد، وعلى التواريخ التي كتبت فيها.
ولا ريب في أن هذا التوافق بين الاكتشافات ونصوص الكتاب العزيز، يشكّل أقوى برهان على سلامة الوحي الإلهي وصدق أولئك الذين دوَّنوه.
قال العالم الأثري الدكتور أُلبرايت: «بفضل اكتشافات قمران نستطيع أن نتيقن أن العهد الجديد هو كما كتب بمعرفة الأقدمين، وهو الذي يحوي تعاليم المسيح ورسله. وكلها يتجاوز تاريخ كتابتها الفترة ما بين 25 إلى 80 للميلاد».
منذ القديم كانت الأسفار المقدسة عرضة لتهجُّمات الكفرة والملحدين، لأنها تتعارض مع أفكارهم، وتكشف مساوئهم. ولهذا حاول كثيرون منهم أن يجدوا في الآثار والنقوش القديمة ما يخالف النصوص المقدسة. ولكن الاكتشافات جاءت مخيبة لآمالهم، لأن النقوش التي عثر عليها الباحثون في فلسطين وما بين النهرين كلها تؤيد ما ورد في الكتب المقدسة، حتى أن كثيرين من الملاحدة رجعوا إلى الإيمان، لأن الآثار التي اكتُشفت شهدت بصحة النصوص الكتابية.
كان الاعتقاد السائد لدى الباحثين أن الكتابة لم تكن مستعملة في فلسطين قبل العام 540 قبل الميلاد. أي أن موسى وعدداً آخر من رجال العهد القديم لم يكتبوا أسفارهم بأيديهم. كما أن الملحدين ادَّعوا بأن كَتَبة التوراة قد بالغوا في وصف أحداث وحضارة الشرق إلى حد يفوق التصديق، نظراً لمغايرة هذه الأسفار لأقوال المؤرخين القدماء.
ولكن الاكتشافات الحديثة نقضت نظرياتهم تماماً، لأنها جاءت مؤيدة تماماً لصحة الأسفار الإلهية في كل ما ورد فيها عن حضارة مصر وبابل وأشور. وقد ثبتت كل ما ذكرته عن سنحاريب، وتغلث فلاسر، ونبوخذ نصر، وغيرهم.
وإنه ليبهجنا أن تتيح لنا هذه الاكتشافات أن نرى لوحات نُقشت فيها الحروف التي كان يكتب بها موسى ويشوع وعزرا وصموئيل وغيرهم. وأن نتأكد أن الكتابة كانت معروفة في عهد إبراهيم وموسى وأيوب ونحميا، كما في أيامنا.
ومما يسعدنا أنه تم في زمننا قول المسيح إن الحجارة تتكلم. والواقع أنها تكلمت بما حوته من نقوش سجل فيها معظم الحوادث المهمة التي جاء الكتاب المقدس على ذكرها.
قصة التكوين: لقد جاء في النقوش البابلية والأشورية كتابات مذهلة عن رواية التكوين، لأنها جاءت متفقة مع ما جاء في الكتاب المقدس ولا تختلف عنها إلا ببعض الألفاظ. فمثلاً، يقول الكتاب المقدس إن الله عمل النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل والنجوم (تكوين 1: 16) وتقول النقوش البابلية إن الله صنع السدوم والكواكب.
الكتاب المقدس يقول إن الله خلق البهائم والدبابات كأجناسها (تكوين 1: 24) واللوحات البابلية تقول إن مجمع الآلهة خلق هذه الحيوانات.
الكتاب المقدس يقول إن الله خلق الإنسان من تراب الأرض (تكوين 2: 7). وقصة بابل تقول إن الإله مردوخ خلق الإنسان من اللحم والعظام.
تعدد الآلهة: يقول الكتاب المقدس إن البشر ارتدوا عن الله الحي وعبدوا آلهة متعددة، مما حدا بالأنبياء إلى بذل المحاولات لإرجاع الناس إلى عبادة الإله الواحد. أما العلماء الملحدون فزعموا أن الإنسان منذ البداية يعتقد بتعدد الآلهة. وبقيت هذه النظرية سائدة لدى الكثيرين إلى أن دحضها الدكتور س. هربرت. وهو أحد أعلام الحفريات وأستاذ الدراسات الأشورية في جامعة أكسفورد فقد قال هذا العلامة إن عقيدة الوحدانية في الديانات السامية والسومرية قد سبقت العقيدة بتعدد الآلهة.
وكذلك الاكتشافات الحديثة دحضت الرأي الذي كان سائداً في بعض الأوساط العلمية، والذي مفاده أن عقيدة التوحيد في الديانة اليهودية لم تكن موجودة قبل أن ينادي بها أنبياء القرن السابع أو الثامن قبل المسيح. فأكدَّ عدد عديد من النقوش أن موسى نادى بعقيدة التوحيد قبل أن يدخل العبرانيون أرض كنعان.
قصة الطوفان: قدَّم عِلم الآثار من الحفريات البابلية قصة رائعة للطوفان، تتفق مع ما جاء عنها في سفر التكوين، فقد ذكر في كل من النصين، التوراتي والبابلي، أن الطوفان وقع بترتيب إلهي. وفي كل من الروايتين، يحذر بطل القصة من كارثة مزمعة أن تقع على العالم. وبعد التحذير بنى فلكاً له ولعائلته. ثم أخذ معه حيوانات إلى الفلك، اثنين من كل جنس ذكراً وأنثى لاستبقائها. وحين هدأت العاصفة وانسدت ينابيع الغمر استقر الفلك على قمة جبل، فأرسل البطل طيوراً للاستكشاف. وفي نهاية الطوفان قدم قرباناً لله، فاستجاب الله له، وأكّد له الأمان.
أور الكلدانيين: قبل التنقيب في أراضي العراق، لم يكن علماء الكتاب المقدس يعلمون مدى الحضارة التي وُجدت هناك، والتي دلت على أن تلك الأرض القفراء كانت يوماً جنة تجري من تحتها الأنهار. وقد قامت في وسطها عاصمة لأمة عريقة في الحضارة. ومما أكدته الحفريات هناك، أنه في أحقاب التاريخ البعيدة، وفد السومريون إلى تلك البقعة واستوطنوها، وأنشأوا فيها حضارة عظيمة.
أما عن ديانتهم فكانوا يؤمنون بتعدد الآلهة. وكان لكل عائلة صنمها الخاص. وهذا يفسر لنا تصرُّف راحيل حين سرقت آلهة لابان أبيها، قبل هربها مع زوجها يعقوب (تكوين 31: 27-32).
وقد أثبتت لنا تلك الحفريات أن إبراهيم لم يكن مجرد شيخ قبيلة بدوية، من سكان الخيام، بل كان ينتسب إلى شعب عريق في مدنيته، كان يسكن في حاران. وهذا يتفق تماماً مع نص الكتاب المقدس (تكوين 11: 28-31).
وإذا تأملنا في رحلة إبراهيم الطويلة، نرى أن أبا المؤمنين مر بدوثان وبيت إيل وشكيم. وهي مدن ورد ذكرها في الكتاب المقدس.
ودلَّت الآثار المكتشفة في فلسطين على صحة ما جاء في الكتاب المقدس عن المنطقة الواقعة جنوب البحر الميت، التي قضى فيها إبراهيم ردحاً من الزمن، والتي كانت مزدهرة ومزدحمة بالسكان، في عهد إبراهيم.
قصة يوسف: كان يوسف فريسة لمكيدة قاسية دبرها إخوته، فقد باعوه إلى إحدى قوافل مصر. ولكن إذ كان باراً، جعل الله الأشياء تعمل معاً لخيره. فقد وجد نعمة في عيني فرعون، فرفعه وجعله وزيراً لخزانة مصر. وقد تأكدت هذه القصة، بتأييد لوحة اكتُشفت في مقبرة أحد عظماء مصر، المدعو «ألقاب» والذي كان معاصراً ليوسف. فقد قرأ العلماء في هذه اللوحة أن مجاعة رهيبة حدثت في أيامه وأن الدولة وزعت على الشعب الغلال التي اختزنها وزير الخزانة في سني الخصب. ومقابل ذلك، استولت الدولة على أملاكه. وهذه الرواية توافق تماماً ما جاء في (تكوين 47: 18-22).
عبودية العبرانيين في مصر: اكتشفت في مصر منحوتة، يعود تاريخها إلى تحتمس الثالث، تمثّل العبرانيين وهم يقومون ببناء هيكل لفرعون. وكذلك اكتُشفت عدة خرائب تبلغ سماكة جدران الأبنية فيها ثمانية أقدام. وهي مبنية باللبن الممزوج بالتبن، والمجفف بحرارة الشمس. وهذا الاكتشاف يؤيد ما جاء في خروج 5: 7.
خروج العبرانيين من مصر: عثر في تل العمارنة عام 1888 على لوحة منقوشة بالخط المسماري، كان حكام فلسطين قد أرسلوها إلى فرعون مستنجدين به لمساعدتهم ضد غزوات شعب خطير، دُعي باسم عبيرو، الذي معناه العبرانيون.
موسى والناموس: كان الاعتقاد السائد لدى بعض العلماء أن الناموس يعود إلى فترة لاحقة لزمن موسى. إلا أن التنقيب عن الآثار، الذي قام به العالم ده مورجان عام 1884 أيد الكتاب المقدس في قوله إن الناموس أُعطي بموسى. فقد اكتشف هذا الباحث كنزاً من المخطوطات في قصر شوشن، المذكور في سفر أستير، أيَّدت ما جاء في الكتاب المقدس عن ناموس موسى.
قصص الكتاب عن بعض الشعوب القديمة: اكتُشف في رأس الشمرة، على بعد عشرة أميال شمال اللاذقية بقايا مدينة أوغاريت، التي تأسست عام 2000 قبل الميلاد. وعثر فيها على مئات من الألواح تؤيد قصص الكتاب المقدس عن الفرزيين والحيويين والحثيين.
لوحات مصرية تثبت وجود الحثيين: إلى عهد قريب كان علماء التاريخ يشكون في وجود الحثيين، الذين اشترى إبراهيم منهم مغارة المكفيلة وجعلها مقبرة لزوجته سارة (تكوين 23: 8-9) وبقي هذا الشك إلى أن عثر على أخبارهم في لوحات أثرية مصرية. وتذكر إحدى هذه اللوحات أن معركة دارت بينهم وبين قوات رمسيس الثاني بالقرب من قادش، عام 1287 قبل الميلاد.
شهد القرآن للأسفار الإلهية بالصحة، وكل من يطالعه يندهش لشهادته الصريحة لصحة ما جاء فيها. وهي شهادة من الوضوح بمكان حتى أنها لا تقبل التأويل، وقد وردت في عدد من السُّور. منها:
«إِنَّا أَنْزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» (سورة المائدة 5: 44).
«وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (سورة المائدة 5: 46).
«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ» (سورة المائدة 5: 48).
ففي الآية الأولى يشهد القرآن لصحة التوراة، وأنها هدى من الضلالة، ونور لبيان الأمور التي يحكم بها النبيون بموجب ما استحفظهم الله من كتابه، وكانوا شهوداً أنه حق.
وفي الآية الثانية بيان أن المسيح صدَّق على التوراة أنها حق. وكذلك إنجيله، الذي فيه هدى ونور وموعظة جاء مصدقاً لما قبله من الكتب الإلهية.
وفي الآية الثالثة يؤكد القرآن أنه أُنزل إلى محمد مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب. وأنه مُعيَّن حارساً له. وأنه يوصيه بأن يحكم بموجب ما أنزل الله فيه من تأييد للتوراة والإنجيل.
ويذهب القرآن في تأييده للتوراة والإنجيل إلى حضّ أهلهما على إقامة ما جاء فيهما من تعاليم إذ يقول:
«قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (سورة المائدة 5: 68).
وكذلك يحض أهل الإنجيل على إقامة أحكام ما جاء في كتابهم، ويصف الذين يهملون ذلك من أهل الإثم، إذ يقول:
«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة 5: 47).
« يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً» (سورة النساء 4: 136).
فمما تقدم يتبين لنا:
أولاً: يحثُّ القرآن أهل الكتاب على إقامة أحكام التوراة والإنجيل، وهذا اعتراف ضمني بصحتهما وسلامتهما من التحريف، لأنهما يحكّمان المؤمن للخلاص الذي في البر.
ثانياً: يأمر القرآن جميع المؤمنين بمن فيهم المسلمون أن يؤمنوا بالقرآن وبالكتاب الذي أُنزل من قبل، أي التوراة والإنجيل. وهذه دعوة صريحة للمسلم لكي يؤمن بما جاء في التوراة والإنجيل وهذه الدعوة متفقة فعلاً مع نص القرآن الآتي:
«أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ» (سورة الأنعام 6: 89 و90).
ويعترف القرآن بصلاح الكتاب المقدس للحكم في الأمور الروحية إذ يقول محمد:
«وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بَٱلْمُؤْمِنِينَ» (سورة المائدة 5: 43).
فهذه الآية تبين أن الذين يقيمون أحكام الكتاب المقدس لا يحتاجون إلى كتب أخرى للتحكيم. أما من يتولى عن الكتاب الإلهي بعد معرفة الحق الذي فيه فليس بمؤمن.
«قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (سورة القصص 28: 49).
ففي هذه الآية إرشاد لمحمد إلى ما يجب قوله للذين رفضوا الرسالة التي نادى بها، كما رفضوا موسى من قبله. وذلك بأن يقدموا له كتاباً من عند الله أهدى من الكتاب المقدس والقرآن.
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُوا أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (سورة النحل 16: 43).
جاء في تفسير الجلالين أن أهل الذكر هم العلماء بالتوراة والإنجيل. فإن كنتم لا تعلمون ذلك، فإنهم يعلمونه. وأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد (الجلالين ص 357).
والذِّكر هو التوراة والإنجيل، كما جاء في سورة الأنبياء 21: 105 «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلّزَبُورِ مِنْ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ» وأيضاً: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» (سورة الأنبياء 21: 48).
في الواقع أن سورة النحل 16: 43 شهادة صريحة بأن رسل الله وأنبياءه الذين كتبوا الذكر إنما كتبوه بالوحي، مسوقين من الروح القدس. إنها مع مجموعة الآيات التي استشهدنا بها لتؤكد أن القرآن اعتبر كتابنا المقدس هدى ونوراً، وذكراً وحكم الله، ووحياً. وقد أمر المسلمين أن يسألونا في ما لا يعلمون. أليس هذا اعترافاً صريحاً من القرآن بأن أسفارنا المقدسة صحيحة، وبالتالي لم تُحرَّف؟
وأنها لتتفق مع شهادة رسل المسيح، بصحة الكتاب المقدس ووحيه. فقد قال رسول الجهاد العظيم بولس: «كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ ٱللّٰهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2تيموثاوس 3: 16 و17).
لهذا قبل المسيحيون أسفار العهد القديم، التي اكتملت حوالي العام 400 قبل الميلاد. وكان اليهود قد قسموها إلى ثلاثة أقسام:
التوراة، وهي مؤلفة من أسفار موسى الخمسة: التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية. وهي منذ البدء معتبرة ومحترمة ومقدسة، لاحتوائها على وصايا الله العشر، ومواعيده لبني البشر.
الأنبياء، وهو قسمان:
الأول: ويتألف من أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك.
الثاني: ويتألف من أسفار: إشعياء، إرميا، حزقيال، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجي، زكريا وملاخي.
المكتوبات: وتشمل: المزامير، الأمثال، أيوب، دانيال، عزرا، نحميا، أخبار الأيام، نشيد الأنشاد، راعوث، مراثي إرميا، الجامعة وأستير.
أما أسفار العهد الجديد، فقد أجمع العلماء على أنها كتبت، ونشرت أيام كان كثيرون من خاصة المسيح الذين سمعوه ورأوه لا يزالون أحياء. وهي: الأناجيل الأربعة، سفر أعمال الرسل، رسائل بولس، رسائل بطرس، رسالة يعقوب، رسائل يوحنا، رسالة يهوذا وسفر الرؤيا.
هذا موجز عن محتويات الكتاب، الذي أوحى به الله إلى رجاله القديسين. وقد حفظه الله، بعناية فائقة. وكما اختار رجالاً أمناء لكتابة وحيه، هكذا اختار رجالاً أمناء ليترجموه إلى لغات العالم. ومما لا ريب فيه أن وجوده الآن، في ما يقرب الألف وأربعمائة لغة ولهجة دليل على أن الله ساهر على كلمته وحافظ لها إلى الأبد.
نعم وستمضي الأمم، وتنتهي اللغات، ويتغير العالم بأسره. أما الكتاب المقدس العزيز فيبقى حياً إلى الأبد، لأن فيه رسالة الله لكل رجل وامرأة لكل ولد وفتاة، في كل زمان ومكان. أعني بذلك، رسالة الخلاص بيسوع المسيح. وهذه الرسالة، هي للجميع، لا فرق بين أبيض وأسود، أو جنس أو لسان أو أمة. إذ توجد قوة حية في الكتاب الإلهي، تعطي كل من يقبل يسوع مخلّصاً بالإيمان أن يصير ابناً لله.
بعد ما تقدم، يحق لنا أن نسأل المدَّعين بتحريف الأسفار المقدسة دليلهم العلمي والتاريخي، عن الزمن الذي جرى فيه هذا التحريف؟
إن قالوا إنه حصل قبل المسيح، قلنا لهم إن المسيح قد صادق على صحة الكتب المقدسة.
أولاً: بالاستشهاد بما جاء فيها من نبوات تتكلم عنه، ومن أبرزها نبوة إشعياء التي تلاها المسيح في مجمع الناصرة حيث مكتوب: «رُوحُ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي ٱلْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِٱلْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ ٱنْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ ٱلنَّائِحِينَ» (إشعياء 61: 1 و2). ويخبرنا لوقا البشير أن المسيح بعد أن تلا هذه النبوة الخاصة به قال للسامعين: «ٱلْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (لوقا 4: 21).
ثانياً: بحضِّه اليهود على تلاوة الأسفار المقدسة ودرسها، إذ قال لهم: «فَتِّشُوا ٱلْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ ٱلَّتِي تَشْهَدُ لِي» (يوحنا 5: 39).
ثالثاً: بتوبيخه الصدوقيين لجهلهم الأسفار المقدسة وعدم إقامة أحكامها إذ قال لهم: «تَضِلُّونَ، إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱلْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ ٱللّٰهِ» (مرقس 12: 24).
رابعاً: باتخاذها سلاحاً ضد تجارب إبليس. إذ نقرأ في الإنجيل المقدس، أن يسوع صدَّ التجارب التي هاجمه بها إبليس في برية الأردن بآيات من الكتاب المقدس. ففي صد التجربة الأولى قال: «مَكْتُوبٌ أَنْ لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ» (لوقا 4: 4 مأخوذة عن سفر التثنية 8: 3) وفي صد التجربة الثانية، قال «مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (لوقا 4: 8 مأخوذة عن سفر التثنية 6: 13). وفي صد التجربة الثالثة قال: «قِيلَ: لاَ تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ» (لوقا 4: 12 مأخوذة عن سفر التثنية 6: 16).
وكذلك رسل المسيح، حذوا حذو معلمهم في الاستشهاد بنبوات العهد القديم لدعم كتاباتهم، كقولهم عن هلاك يهوذا الاسخريوطي: «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ ٱلْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَاباً وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ، وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آَخَرُ» (أعمال 1: 20، مزمور 69: 25، مزمور 109: 8).
وكقولهم عن حلول الروح القدس، في يوم العنصرة «يَقُولُ ٱللّٰهُ: وَيَكُونُ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً. وَعَلَى عَبِيدِي أَيْضاً وَإِمَائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ» (أعمال 2: 17 و18، يوئيل 2: 28 و29).
فهل يعقل أن المسيح ورسله الأمناء الموحى إليهم يستشهدون لإثبات رسوليتهم وتعاليمهم بآيات من كتب محرفة، ثم يحضّون الناس على تلاوتها وإقامة أحكامها؟ أو هل يتجاسر أحد على القول بأن المسيح ورسله لم يكونوا عالمين بتحريفها، فاستشهدوا بها وهم لا يدرون؟
لو تجرأ إنسان أياً كان مذهبه على الأخذ بزعم كهذا، لطعن في صحة الوحي إلى الرسل والأنبياء. وبالتالي ينسب إلى الله الإهمال في حفظ كلمته. ولعل الطعن يكون أشد على القرآن، لأن القرآن يتضمن عدداً عديداً من الشهادات لصحة الأسفار المقدسة.
وإن قال المدَّعون بالتحريف إن اليهود عبثوا بنصوص العهد القديم بعد المسيح، نقول لهم إن هذا مستحيل، لأن جميع أسفار العهد القديم كانت موجودة في أيدي المسيحيين. فلو أقدموا على مسِّها، لشهَّر المسيحيون بهم.
وإن قال المدَّعون بالتحريف إن المسيحيين هم الذين حرفوها، نقول لهم إن شيئاً كهذا لا يمكن أن يحدث. ولو بالفرض حدث، أما كانت تقوم قيامة اليهود على المسيحيين؟
وإن قال المدعون بالتحريف، إن المسيحيين واليهود تواطأوا معاً على تحريف الكتب المقدسة، لألقوا أنفسهم في السخرية، لأن اليهود المقاومين المسيحية منذ البدء والمنكرين مجيء المسيح، لا يمكن أن يتقربوا من المسيحيين والاتفاق معهم.
ولو افترضنا أن المستحيل حصل، أفما كان اليهود يشترطون حذف كل النصوص التي تمجد المسيح وتتكلم عن لاهوته، وكل النبوات التي تتكلم عن تجسُّده وولادته المعجزية من عذراء، وكل الأقوال النبوية عن آلامه وموته وقيامته؟ أما وكل هذه النصوص التي تمجِّد المسيح ما زالت باقية، فكل ادعاء في هذا الأمر يسقط.
وهناك حقيقة لا يستطيع أي مدَّعٍ بالتحريف أن يتجاهلها، وهي أنه منذ فجر المسيحية كانت أسفار العهد القديم موجودة لدى اليهود والمسيحيين بذات اللغة التي كتب بها رجال الله القديسون. وقد أجرى العلماء عدة مقابلات دقيقة بين النسخ المحفوظة عند الفريقين، فوجدوا أنها في غاية الاتفاق.
وكذلك لنا الحق أن نسأل مَن يدعون التحريف: متى حدث تحريف الإنجيل، هل قبل القرآن أم بعده؟
إن قالوا قبل القرآن، يوقعهم القرآن نفسه في إشكال، لا قِبَل لهم على الخروج منه، لأن القرآن يأمر محمداً أن يستعين بالذين يقرأون الكتاب المقدس للتخلص من الشكوك. إذ يقول: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَٱسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَأُونَ ٱلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ» (سورة يونس 10: 94).
وبما أن الله محيط علماً بكل شيء، فلا يليق بجلاله أن يحيل محمداً إلى قارئي كتاب محرف لكي يزيل الشكوك.
ويمضي القرآن في شهادته لصحة الكتاب المقدس فيقول: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (سورة المائدة 5: 48).
فالهيمنة هي الحراسة، والحراسة تعني الحفاظ على ما في كتاب الله من حقائق وشرائع إلهية. فإن كان التحريف المزعوم حصل بعد القرآن، فإن المدعي التحريف، يعني بقوله، إن القرآن أحبط في وظيفته كحارس.
وفي تعبير آخر، إن كان الإنجيل والتوراة قد حرفا بعد القرآن، يكون الادعاء بذلك اتهاماً صريحاً لأهل القرآن في التفريط بأهم الواجبات التي جاء القرآن لتأديتها. إذ كان عليهم على الأقل، أن يحتفظوا بنسخة أو أكثر من التوراة والإنجيل قبل تحريفهما، لأن الحراسة توجب وجود ما يُحرَس.
هكذا فعل المسيحيون، لما رأوا في التوراة نبوات عن المسيح سيدهم، فأقاموا أنفسهم حراساً عليها، وبذلوا الجهد في سبيل نشرها في العالم. حتى صارت اليوم تُقرأ بأكثر من 1400 لغة. فلماذا لم يفعل المسلمون هكذا، طالما هم يعتقدون بأن التوراة والإنجيل يحتويان على نبوات ودلائل عن محمد؟
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (سورة الحجر 15: 9).
«وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ» (سورة الأنعام 6: 34).
«لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ» (سورة يونس 10: 64).
«سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً» (سورة الفتح 48: 23).
«وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ » (سورة الأنعام 6: 115).
«وَٱتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» (سورة الكهف 18: 27).
هذه المجموعة من الآيات تحتوي وعوداً من الله بأنه لا يستطيع أحد أن يبدل كلمته، لأن الله أنزلها وهو حافظ لها.
ولعلنا بعد ما تقدم يجب أن نطرح هذا السؤال: لو أن نفراً من المسلمين الذين يقيمون القرآن بدقة أرادوا الذهاب إلى أهل الكتاب ليسألوهم عن بعض الأمور الإلهية، صادفوا في طريقهم فريقاً من المدعين بالتحريف، وقالوا لهم إننا وفقاً لتعليم القرآن ذاهبون إلى أهل الذكر لنسألهم عن بعض الأمور، فهل يتجاسر أولئك المدَّعون على القول لهم: لا تذهبوا لأن ذكرهم محرف؟ ولو بالفرض أنهم تجاسروا، فماذا يكون موقف أولئك الأتقياء؟ هل يصدقون مَن يدعون التحريف، أم يصدقون قول القرآن: «فَٱسْأَلُوا أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (سورة النحل 16: 43).
والسؤال الأول يفرض أن نطرح سؤالاً آخر وهو: ماذا يكون حال المدعين بالتحريف، لو أن الملحدين، الذين بثوا فيهم فكرة تحريف التوراة والإنجيل، رموا القرآن بما رموا به التوراة والإنجيل، وقالوا إنه محرف؟ فبماذا يردّون عليهم، وأي سلاح يشهرونه في وجه الملاحدة، بعد أن يكونوا قد طرحوا السلاح الوحيد الذي أوجده الله في أيديهم، وهو وعده بحفظ كتبه المقدسة من كل عبث وتحريف؟
وهناك سؤال ثالث وهو: ما هو موقف عامة المسلمين الذين أخذوا بادعاء المدعين بالتحريف من قول القرآن:
«ألم ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَّبِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ» (سورة البقرة 2: 1-5).
«قُولُوا آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (سورة البقرة 2: 136).
فكيف يأمر القرآن الذين آمنوا بما أنزل فيه بأن لا يفرقوا بين قرآنهم وبين الكتاب الذي من قبل، وهو عارف بأن الذي أنزل من قبل محرف ومتغير ألا يكون الادعاء بالتحريف اتهاماً لبر الله وصدقه وأمانته؟
خذ الحقيقة من التاريخ
كل من قرأ التاريخ رأى أن المسيحيين منذ بداية العصر الرسولي إلى بداية القرن الرابع الميلادي عانوا الاضطهاد والتنكيل من الوثنيين واليهود. واحتملوا العذابات بأقسى ألوانها بصبر أدهش العالم، حتى معذبيهم أنفسهم. وهذا الاحتمال العجيب نشأ عن إيمانهم بالإنجيل المقدس، وتمسكهم بمبادئه الإلهية.
والتاريخ يروي لنا أنهم أقبلوا على الاستشهاد بفرح حباً بالمسيح، وطاعة لأمره القائل: «كُنْ أَمِيناً إِلَى ٱلْمَوْتِ» (رؤيا 2: 10) وأن كثيرين منهم ضوعفت عذاباتهم، لأنهم أبوا أن ينكروا المسيح، أو يرفضوا إنجيله، حباً بالنجاة. مفضلين بالأحرى، أي نوع من الموت، على التمتع الوقتي بالحياة.
افتح سجلات المسيحية، ترى ذكراً لسحابة من الشهود، الذين عُذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. فهل يصدق أحد أن المسيحيين الذين قدموا هذه التضحيات الرائعة وتجرعوا مر الآلام لأجل مبادئ الإنجيل، يقدمون على تحريف إنجيلهم؟
وهل يسمح المسيحيون لأحد، أياً كان شأنه، أن يبدل كلمة من إنجيل الله، ولهم تلك الوصية الرسولية القائلة: «وَلٰكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا» أي مرفوضاً» (غلاطية 1: 8).
وإني لأسأل كل مدَّعٍ بالتحريف: ما هو الباعث للمسيحيين على تحريف كتبهم المقدسة؟ هل يكون هذه الباعث أفضل من حياتهم الأبدية؟ إن ربهم وفاديهم الذي عبدوه بأرواحهم ودمائهم، وكل عزيز وثمين لديهم، قد ختم عهده معهم برسالة بلغها بواسطة رسوله الأمين يوحنا: «لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُوَّةِ هٰذَا ٱلْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هٰذَا يَزِيدُ ٱللّٰهُ عَلَيْهِ ٱلضَّرَبَاتِ ٱلْمَكْتُوبَةَ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هٰذِهِ ٱلنُّبُوَّةِ يَحْذِفُ ٱللّٰهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ، وَمِنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ ٱلْمَكْتُوبِ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ» (رؤيا 22: 18 و19).
أما إذا قالوا إن التحريف حدث بعد القرآن، فإن الواقع يدحض زعمهم بالاستناد على الحقائق التالية:
إن الديانة المسيحية كانت منتشرة في بلدان عديدة، كالأناضول وبلاد العرب، وشمالي إفريقيا وإيران، والهند، وإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وإنجلترا، وألمانيا، فهل يسلم العقل السليم بأن المسيحيين المنتشرين في هذه البلدان المتعددة والمتباعدة، اجتمعوا يوماً في مكان واحد للاتفاق على تحريف الإنجيل؟
إن الذين اعتنقوا المسيحية في تلك البلدان، لم تكن لهم لغة واحدة، بل لغات مختلفة. والكتاب العزيز كان منتشراً في لغاتهم مما يجعل اتفاقهم على تزوير الكتابات المقدسة أمراً مستحيلاً. سيما أنهم كانوا يجهلون لغات بعضهم البعض.
إن المسيحيين في القرن الرابع، كانوا منقسمين إلى طوائف عديدة، يباعد بينها بعض العقائد المذهبية. وكل فريق يجتهد لدعم وجهة نظره بآيات الكتاب المقدس. فكثرت المناقشات حول التفسير. وعقدت مجامع بحثت فيها الخلافات العقائدية، وأشهرها مجمع نيقية الذي انتهى بشجب بدعة آريوس وأتباعه. ولهذا يسقط الادعاء بأن المسيحيين اتفقوا على تحريف الإنجيل. ولعله من الحق الصريح أن نسأل المدعين بالتحريف أن يذكروا لنا متى وأين حصل التحريف، ومن هم الذين حرفوه، وكيف حصل الاتفاق بينهم؟
إن العالم لم يخل يوماً من مؤرخين أمناء، دأبهم أن يدوّنوا الحوادث في سجلاتهم. فهل يستطيع أحد أن يذكر لنا اسم مؤرخ وثني أو يهودي أو مسلم، ذكر ولو تلميحاً أن مؤتمراً عُقد بين شعوب العالم المعتنقة اليهودية والمسيحية والمختلفة في العقيدة واللغة، وجرى فيه العبث بكلام الله؟ وإن كان هذا قد حدث، أفلم يكن في استطاعة أحد أن يحتفظ ولو بنسخة واحدة، لتبقى شاهداً على تواطؤ اليهود والمسيحيين؟
ويقيناً أنه لو حدث تواطؤ كهذا، لكان معناه أن الخصومات بين اليهود والمسيحيين قد زالت، وكان الثمن تحريف شريعة الله.
رأينا في ما تقدم، أن القرآن يعتبر التوراة والإنجيل كلام الله. وأنه أكد أن كلام الله لا يمكن أن يبدل أو يغير. فإن كانت هاتان الشهادتان صحيحتين، كانت النتيجة ضرورة عدم تحريف التوراة والإنجيل، لا قبل القرآن ولا بعده.
والواقع أن علماء المسلمين في الهند، لما فحصوا هذه المسألة بتدقيق، على ضوء معطيات القرآن، اقتنعوا بأن أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد لم تتبدل ولم تتغير، ولم تتحرف حسب مفهوم العامة. وإنما هناك إشارات إلى تصرف بعض اليهود بالتفسير تصرفاً سيئاً.
ولعل هؤلاء العلماء الأمناء، بنوا اقتناعهم على تفاسير العلماء لبعض آيات القرآن، كالرازي والجلالين وأبي جعفر الطبري.
منها:
«مِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بَأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ» (سورة النساء 4: 46).
وخلاصة تفسير الرازي لهذه الآية، أن قوماً من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على محمد ليسألوه المسألة، فيجيبهم عليها. ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه.
ونقرأ في تفسير الجلالين لهذه الآية، أن قوماً من اليهود، يغيرون الكلام الذي أنزل الله في التوراة، من نعت محمد، عن مواضعه التي وضع عليها. يقولون له إذا أمر بشيء سمعنا قولك وعصينا أمرك واسمع غير مسمع، بمعنى الدعاء. أي لا سمعت. ويقولون له راعنا، وهي كلمة سب في لغتهم. ليّاً أي تحريفاً بألسنتهم وطعناً في الإسلام ( الجلالان 112).
ونقرأ في تفسير الطبري أن اليهود كانوا يسبون محمداً ويؤذونه بأقبح من القول. ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كقول القائل للرجل يسبه: اسمع لا أسمعك الله. أما كلمة راعنا فقد فسرها بالإسناد عن ابن وهب، بأن الراعن هو الخطأ من الكلام.
وبناء على هذه التفاسير، لا يكون اليهود حذفوا شيئاً من نصوص الكتاب، أو زادوا شيئاً، بل حوروا معنى الكلام بلي اللسان (الطبري).
«يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» (سورة المائدة 5: 15).
قال الإمام الرازي في تفسير هذه الآية إن اليهود فيما يقرأون التوراة (تثنية 22: 23 و24) لووا ألسنتهم وبدلوا معنى الرجم بالجلد.
أما الطبري فيقول في تفسير هذه الآية إن اليهود جاءوا إلى محمد يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيت. قال: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فقال: أنت أعلمهم؟ قال: سل عما شئت! قال: أنت أعلمهم؟ قال: إنهم ليزعمون ذلك! فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، ورفع الطور، وناشده بالمواثيق التي اتخذت عليهم، حتى أخذه أفكل (رعدة) فقال إن نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل، فاختصرنا، فجلدنا مئة جلدة وحلقنا الرؤوس. فحكم عليهم بالرجم ( الطبري).
«وَمَا قَدَرُوا ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً» (سورة الأنعام 6: 91).
يتفق البيضاوي والرازي والطبري أن المراد بالتحريف هنا تشويه الحقائق بكتمان بعضاً من نصوص التوراة. بمعنى أنهم يعزون إلى اليهود أنهم كتبوا التوراة في قراطيس وأظهروا للناس كثيراً مما كتبوا. وأخفوا كثيراً مما ثبتوه في القراطيس فيُسرِّونه ويكتمونه الناس.
ونحن نقول إن عملهم شائن وممقوت، ولكن إخفاء القراطيس يختلف عن تبديل النص.
«أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (سورة البقرة 2: 75).
جاء في تفسير الطبري أن بعض أهل العلم، قالوا لموسى: يا موسى قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل، فاسمِعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه، فقال: نعم، فمُرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور. فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى فوقعوا سجوداً. وكلّمه ربه، فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرَّف فريق منهم ما أمرهم به.
فمما تقدم نفهم أن فريقاً من علماء اليهود حوروا معنى الكلام الذي سمعوه وعقلوه. ولكن الفريق الآخر تقيد بما سمع (الطبري).
«وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ» (سورة المائدة 5: 41).
جاء في تفسير الجلالين أن هذه الآية قيلت في جماعة من يهود خيبر، زنى فيهم محصنان، فكرهوا رجمهما. فبعثوا جماعة من قريظة ليسألوا محمداً عن حكمهما الذي في التوراة كآية الرجم. والتحريف الذي اتهموا به، هو أن يهود خيبر قالوا للذين أرسلوهم، إن أفتاكم محمد بالجلد فاقبلوه. وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا أن تقبلوه (الجلالان 150).
ولعله من المناسب أن نطرح هذا السؤال: مَن مِنَ اليهود حرف التوراة، وفي أي عصر؟ يقول الإمام الرازي، إنهم معاصرو محمد بالذات. إلا أنه يقول في المجلد الثالث من تفسير القرآن، إن المراد بالتحريف هو إلقاء الشُّبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعل أهل البدع في كل زمان بالآيات المخالفة لمذاهبهم.
نحن لا ندافع هنا عن نزاهة اليهود، وإنما نود أن يعلم الناس أن اليهود لم يتجاسروا على تبديل آيات التوراة. وهذا الأمر لم يرد في اتهامات القرآن. وهنا أمر يجب أن نشير إليه، وهو أن القرآن لم يتهم المسيحيين، بأنهم حرفوا الإنجيل.
وعلى أي حال نقول لكل إنسان يدعي بتحريف الكتاب المقدس في نصوصه، أو يزعم أن الكتاب الصحيح غير موجود، نقول له إن مزاعمه تجعله مخالفاً لنصوص القرآن الصريحة التي تشهد بالكتاب المقدس بأنه حق، لا يأتيه الباطل، من بين يديه، ولا من خلفه. وقد تأكدنا أن من أهم أغراض القرآن أنه جاء ليكون مصدقاً للكتاب المقدس.
ويقيناً أنه ليس من أحد، يؤمن بالله وكتبه ورسله، يقدر أن ينسب إليه تعالى أنه أنزل القرآن مصدقاً لكتاب مزور ومشوش، في العقائد الدينية التي جاءت فيه.
اتفاق البشيرين تأليف القس كلهون
مخطوطات البحر الميت تأليف ا. ديبون سومير
مخطوطات قمران تأليف إبراهيم مطر
الحجارة تتكلم تأليف الدكتور الدر
ميزان الحق تأليف الدكتور فاندر
علم اللاهوت المطبعة الأميركية
تفسير القرآن تأليف الجلالان
تفسير القرآن تأليف أبو جعفر الطبري
تفسير القرآن تأليف فخر الدين الرازي
أيها القارئ العزيز،
عزيزي القارىء،
إن قرأت هذا الكتاب، لما لا تحاول الإجابة عن الأسئلة التالية؟
ما هو مضمون النبوة الواردة في آخر الكتاب المقدس؟
بماذا كرز نوح؟ وفي أي دور؟
ابتداء من أي سفر أصبح تسجيل أحداث الكتاب المقدس يتم بدقة؟
على ماذا عكف عزرا ونحميا في أيام أرتحششتا ملك فارس؟
اذكر واحدة من شهادات الله الكثيرة بعدم زوال وحيه.
اذكر شهادة من شهادات الله الكثيرة لأنبيائه.
اذكر شهادة من شهادات الأنبياء والرسل بأن الله كلمهم.
كم نسخة قديمة جداً تملكها الكنيسة المسيحية من الكتاب المقدس وما هي أسماؤها؟
كم مخطوطة قديمة جداً للكتاب المقدس تم الكشف عنها؟
اذكر إحدى مخطوطات الكتاب المقدس وتاريخها.
لعلم الآثار شهادة قيمة للكتاب المقدس فما هي في رأيك؟
اذكر آية قرآنية تشهد بصحة الكتاب المقدس.
إلى كم قسم يقسم العهد القديم من الكتاب المقدس؟
كم سفراً في العهد الجديد؟
اذكر آية قرآنية تنفي التحريف عن الكتاب المقدس.
ما الذي توصل إليه علماء الإسلام في الهند؟
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the-good-way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland